بحوث ودراسات

ملامح الفكر السياسي المستند إلى الوهابية (1 من 9)

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

ملامح الفكر السِّياسي المستند إلى الوهَّابيَّة
نشر أحمد الكاتب كتابه الفكر السِّياسي الوهَّابي: قراءة تحليليَّة-أحمد الكاتب لأوَّل مرَّة عام 2003م، ثم أعاد نشره في عدَّة طبعات، كان آخرها عام 2011م، بعد إضافة أحدث المجريات على السَّاحة السِّياسيَّة، فيما يتعلَّق بتأثير التطرُّف الدِّيني على انتشار الإرهاب المسلَّح في العالم العربي، مشيرًا إلى الفكر الوهَّابي باعتباره المحفِّز الأساسي للآراء التكفيريَّة المولِّدة للعنف. وكان أهم ما أضافه الكاتب حالة أبي مصعب الزرقاوي، وهو عضو سابق في تنظيم القاعدة، تلقَّى تدريبه في أفغانستان، ليتركها بعد الغزو الأمريكي عام 2001م، متوجِّهًا إلى العراق وأسس هناك تنظيمًا مسلَّحًا أطلق عليه قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين. قُتل الزرقاوي عام 2006م، بعد سلسلة من الاغتيالات استهدفت رهائن غربيين في العراق، وبخاصَّة من الأمريكيين. ويعتقد الكاتب أنَّ تغذيَّة أدمغة المسلمين بالفكر الوهَّابي التكفيري كانت وراء أعمال العنف تلك، وخاصَّة وأنَّ الزرقاوي تلقَّى تدريبه على يد أسامة بن لادن، مؤسس تنظيم القاعدة والجبهة الإسلاميَّة العالميَّة لمواجهة الصليبيَّة والصُّهيونية، الناشئ على الفكر الوهَّابي، والمعادي للوجود الأمريكي في جزيرة العرب، كما سبقت الإشارة في المقال السَّابق عن صراع الحضارة الغربيَّة مع العالم الإسلامي. ما يريد الكاتب إبرازه هو أنَّ التزمُّت الدِّيني المرتبط بالحركة الوهَّابيَّة انعكس على رفض الدِّيموقراطيَّة وتأسيس حياة سياسيَّة على نسق الدُّول الغربيَّة المتقدِّمة.
ينتقد الكاتب ما يراه نفاقًا يُحسب على مشايخ الوهَّابيَّة، وهو تحريضهم على “العنف والتكفير”، وغضِّهم الطرف عن الاستبداد المُمارَس من قِبل السُّلطات الحاكمة في المملكة العربيَّة السَّعوديَّة، استغلالًا للشرعيَّة الدِّينيَّة الَّتي يكفلها المذهب الوهَّابي (صـ19). وقبل تناوُله طبيعة أعمال العنف الَّتي ارتكبها الزرقاوي في العراق، وجد الكاتب ضرورةً للإشارة إلى البعد العقائدي لأهلها، مشيرًا إلى أنَّ غالبيَّة الشِّيعة العراقيين يتَّبعون الفرقة الإماميَّة الاثني عشريَّة، بينما يتوزَّع أهل السُّنَّة ما بين تابعين للمذهب الحنفي، وهو أغلب العرب والقبائل التُّركمانيَّة، والمذهب الشافعي، وهم الأكراد، إلى جانب فئة قليلة من أتباع المذهبين المالكي والحنبلي، وهما الأكثر تشدُّدًا، كما ينقل الكاتب. اتَّسم المذهب الحنفي بالميل إلى فِكر المعتزلة، كما اتَّبع الشافعيُّون مذهبًا وسطيًّا بين مذهبي المعتزلة وأهل الحديث.


لم يرغب السَّلفيُّون في ادَّعاء أنَّ لهم مذهبًا يُسمَّى المذهب السَّلفي، ولم يكن فكرهم منتشرًا في العراق من الأصل، بل انتشر بصورة فرديَّة في القرن التَّاسع عشر، تأثُّرًا بالوهَّابيَّة، وعلى يد مشايخ سلفيين، مثل نعمان بن محمود الألوسي، وابن أخي محمود بن شكري الألوسي. وأكثر ما عارضه السَّلفيُّون في العراق انتشار الطرق الصُّوفيَّة، مثل القادريَّة والنَّقشبنديَّة والرفاعيَّة، في العراق بدعم من الدَّولة العثمانيَّة، الَّتي كانت تتَّبع في الأصل الصُّوفيَّة، ولم يزل النِّظام الحاكم الحالي في تركيا يتَّبع الصُّوفيَّة، بانتماء الرَّئيس التُّركي إلى الطَّريقة النَّقشبنديَّة. ولم تتوقَّف معارضة السَّلفيين، أصحاب الفكر الوهَّابي، على الصُّوفيَّة، بل طالت الشِّيعة والتَّشيُّع، ووصل الأمر إلى “إخراج الشِّيعة من دائرة الإسلام، برغم تعايُش الفريقين منذ قرون” (صـ25). ويقول الكاتب عن التشُّيع، مدافعًا عن عقيدته، أنَّ الوهابيَّة هي أساس اضطهاد التَّشيُّع؛ لأن الوهابيين تبنُّوا مفهوم ابن تيميَّة عن الشِّيعة، حيث أسماهم ‘‘الرَّافضة’’، و “أصدر عليهم أحكامًا غوغائيَّة وعشوائيَّة ومطلقة” (صـ25).
وينقل الكاتب قول ابن تيميَّة عن الشِّيعة في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم “إنَّ الرَّافضة أكذب طوائف أهل الأهواء، وأعظمهم شركًا، فلا يوجد في أهل الأهواء أكذب منهم، ولا أبعد عن التَّوحيد، حتى إنَّهم يخربون مساجد الله الَّتي يذكر فيها اسمه، فيعطلونها عن الجمعة والجماعات، ويعمرون المشاهد الَّتي أقيمت على القبور الَّتي نهى الله ورسوله ﷺ عن اتِّخاذها” (صـ391)، وكذلك قوله في نفس الكتاب “الرَّافضة أمة مخذولة ليس لها عقل صريح، ولا نقل صحيح، ولا دين مقبول، ولا دنيا منصورة” (صـ439). ومن المثير للانتباه أنَّ الإمام ابن تيميَّة تنبَّأ في القرن الرَّابع عشر الميلادي بتعاوُن الشِّيعة مع اليهود والنَّصارى ضدَّ أهل السُّنَّة في العراق، فقد قال في كتابه منهاج السُّنَّة النَّبوية “إذا صار لليهود دولةٌ بـالعراق وغيره، تكون الرَّافضة من أعظم أعوانهم، فهم دائماً يوالون الكّفار من المشركين واليهود والنَّصارى، ويعاونونهم على قتال المسلمين ومعاداتهم” (صـ208). وأثبتت الأيام صدق ذلك التَّنبُّؤ، حيث اعترف رونالد رامسفيلد، وزير الدِّفاع الأمريكي وقت حرب العراق عام 2003م، أنَّ المرجع الشِّيعي العراقي علي الحسيني السِّستاني، المرجع الأكبر في العالم وزعيم حوزة النَّجف العلميَّة، قد تقاضى 200 مليون دولار أمريكي لإصدار فتوى بعدم محاربة جنود التَّحالف الأمريكي البريطاني عند غزو العراق، بل والتَّعاون معهم ضدَّ صدَّام حسين ونظامه. وقد نشر صحيفة الأهرام المصريَّة عن ذلك، بتاريخ 3 يناير من عام 2014م:

أمريكا‏: السِّستاني باع لنا العراق بـ ‏200‏ مليون دولار
البعض قال إنه ورد في مذكرات دونالد رامسفيلد وزير الدِّفاع الأمريكي وقت احتلال العراق، والبعض الآخر قال إنه جاء في مذكرات بول بريمر الَّذي عيَّنه الرَّئيس الأمريكي جورج دبليو بوش حاكًما مدنيًّا على العراق ومشرفًا على إعادة الإعمار (وتفكيك ما تبقي من الجيش العراقي). وعلى أية حال فقد أنكر رامسفيلد أنه قال إن السِّستاني باع لنا العراق بـ 200 مليون دولار وأنكر أيضا أنَّه قابل السِّستاني من الأساس. ولم ينكر بريمر ذلك، بل أكَّده وأضاف تفاصيل أخرى مهمَّة في مذكراته الَّتي نشرها في2006 تحت عنوان عام قضيته في العراق. وما قاله بريمر يكشف بعض تفاصيل ما حدث في العراق، لكنَّه في الوقت نفسه يفضح طريقة الإدارة الأمريكيَّة في إدارة علاقتها بالمتعاونين معها من داخل الدَّولة الهدف. فيقول مثلًا ما ترجمته لقد أبلغنا السِّستاني بعد التَّحرير مباشرة ومن خلال قنوات خاصة أنه لن يقابل أحدًا من التَّحالف ولذلك لم أطالب بعقد اجتماع شخصي معه.
وقد ذكر ذلك هاني فاروقي، أستاذ العلوم الإنسانيَّة في جامعة ميتشغان الأمريكيَّة، على مدوَّنة Middle East Today، نقلًا عمَّا ذكره وزير الدِّفاع الأمريكي الأسبق في مذكِّراته، في مقال عنونه ‘‘رشوة الإدارة الأمريكيَّ’ للسِّيستاني’’. ويشير المقال، المنشور في 29 أغسطس من عام 2011م، إلى أنَّ رامسفيلد كوَّن صداقة مع السِّستاني منذ عام 1987م، قبل حرب الخليج الأولى، وتوطَّدت تلك الصداقة بعد الحرب، من خلال وساطة صديق مشترك، هو جوَّاد المهري، سكرتير السِّستاني في الكويت، الَّذي تقاضى ‘‘الرِّشوة’’ نيابة عن السِّستاني. يضيف المقال أنَّ الرَّئيس الأسبق جورج بوش الابن ووزير دفاعه كانا على درايَّة تامَّة بمدى قُرب السِّستاني وسكرتيره في الكويت من إيران، وقد خصَّص بوش حينها مكتبًا في وكالة الاستخبارات المركزيَّة الأمريكيَّة للتواصل مع السِّستاني.

تابعنا في فيسبوك


عودةً إلى تناوُل الكاتب لتأثُّر السَّلفيين العراقيين بالفكر الوهَّابي في تعاملهم مع الشِّيعة، فقد رأى أنَّ أفكار ابن تيميَّة المغذِّيَّة للوهابيَّة كانت وراء النظرة النمطيَّة السَّلفيَّة تجاه الشِّيعة؛ فأطلقوا عليهم جميعًا الروافض، “ولم يفرِّقوا بين الخاصَّة والعامَّة، ولا بين المعتدلين والمتطرفين الغلاة، ولا بين جيل وآخر، ولا بين الفرق البائدة والمعاصرة” (صـ26). غير أنَّ تلك النظرة الأيديولوجيَّة قد تلاشت، أو لتقل اختبأت، في فترة المد الاشتراكي في خمسينات وستِّينات القرن الماضي، وعاد التلاحُم الجماهيري، على حدِّ وصف الكاتب، بين السُّنَّة والشِّيعة، ولكن عاد التُّركيز على الفروق العقائديَّة من جديد إلى الصُّورة، ويتَّهم الكاتبُ السَّلفيين بتأجيج مشاعر النفور من الشِّيعة، دون إشارة منه إلى موقف الشِّيعة الدَّاعم للغزو الأمريكي للعراق في 2003م، بغضِّ النظر عن مسألة الرشوة الَّتي نفى وزير الدِّفاع الأمريكي نفسه تقديمها للسيستاني، برغم أنَّه أورد ذلك في مذكِّراته، في موقف يذكِّرنا بنفي برنارد لويس تشجيعه للحرب ذاتها، برغم دعوته إليها في مقاله ” Time for Toppling”، أو وقت الإطاحة، الَّي نشرته صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكيَّة في 27 سبتمبر 2002م، أي 6 أشهر قبل الغزو الأمريكي للعراق في مارس 2003م.
وشهد عقد التِّسعينات عودة النزعة الطَّائفيَّة على يد مشايخ الحركة السَّلفيَّة، وقد ظهر اختلاف في مواقفهم من تكفير الشِّيعة، بين مَن اعتبرهم كفَّار أصليين ومَن رآهم مرتدين، وساعد اتِّهام نظام صدَّام حسين بالتستُّر على تنظيم القاعدة في انتشار الفكر الجهادي في مختلف محافظات العراق. ويشير الكاتب إلى أنَّ فِكر السَّلفيين في العراق ركَّز على تحريم العمل بالقوانين الوضعيَّة، والحُكم بالكفر والردَّة على العاملين وفق شريعة غير شرع الله؛ وقد اعتبر أنَّ العلمانيَّة كفرٌ بواحٌ وخروج عن الإسلام، وأنَّ الدِّيموقراطيَّة تتعارض مع الحاكميَّة الإلهيَّة، كونها تكرِّس لحُكم الفرد، وأنَّ المشاركة في الانتخابات التَّشريعيَّة بدعة، كما يعرض الكاتب، نقلًا عن بيان السَّلفي أبو الفضل العراقي عن “معالم الطَّائفة المنصورة في بلاد الرَّافدين”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى