ثقافة وأدب

قالت العرب: إنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وأَسْرَعُهُمْ إفاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ..

نصير محمد المفرجي

إعلامي وباحث في اللغة العربية.
عرض مقالات الكاتب

قالت العرب: إنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وأَسْرَعُهُمْ إفاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ وخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ ويَتِيمٍ وضَعِيفٍ، وأَمْنَعُهُمْ مِن ظُلْمِ المُلُوكِ.

هذا القول للصحابيّ الجليل عمرو بن العاص – رضي الله عنه – داهية العرب، صاحب النظرة الثاقبة للشعوب والأمم، وهو يتحدث عن صفات الروم.

تَقُومُ السَّاعَةُ والرُّومُ أكْثَرُ النَّاسِ. فَقالَ له عَمْرٌو: أبْصِرْ ما تَقُولُ، قالَ: أقُولُ ما سَمِعْتُ مِن رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: لَئِنْ قُلْتَ ذلكَ، إنَّ فيهم لَخِصالًا أرْبَعًا: إنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وأَسْرَعُهُمْ إفاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ وخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ ويَتِيمٍ وضَعِيفٍ، وخامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وأَمْنَعُهُمْ مِن ظُلْمِ المُلُوكِ.

الراوي: المستورِد بن شدّاد | المُحدِّث: مسلم | المصدر: صحيح مسلم.

كان العرب أهل فراسة، وازداد مَن آمَنَ منهم بالإيمان بصيرةً، فنجد هذا الربط من عمرو بن العاص رضي الله عنه – بما منَّ الله به عليه من بصيرة، وما لديه من سابق خبرة – يُعدِّد خصالًا في الروم يراها تُؤهِّلهم للبقاء عند هلاك أمم أخرى!

وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَذكُرُ لأصحابِه بعضَ أحداثِ آخِرِ الزَّمانِ وقبْلَ قيامِ السَّاعةِ، ويَذكُرُ سُبلَ النَّجاةِ منها، وكيْف يَتعامَلُ معها مَن يُدرِكُها مِن المسْلِمين.

وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ الصَّحابيُّ الجليلُ المُسْتورِدُ بنُ شَدَّادٍ رَضيَ اللهُ عنه عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعَلامةٍ مِن عَلاماتِ اقترابِ يومِ القيامةِ، فقال: «تَقُومُ السَّاعَةُ والرُّومُ أكْثَرُ النَّاسِ» عن غيرِهم مِن باقي الأجناسِ والأدْيانِ، والمرادُ بالرُّومِ النَّصارى؛ لأنَّ أهلَ الرُّومِ حينئذٍ نَصارى، وكان عَمرُو بنُ العاصِ رَضيَ اللهُ عنه حاضرًا وقْتَ أنْ حَدَّث المُسْتورِدُ رَضيَ اللهُ عنه بهذا الحديثِ، فلمَّا سَمِعَ عمرُو بنُ العاصِ رَضيَ اللهُ عنه هذا الحديثَ منَ المُستورِدِ بنِ شَدَّادٍ رَضيَ اللهُ عنه، قالَ لَه: «أَبصرْ ما تَقولُ» يُراجِعُه في صِحَّةِ هذا القولِ ونِسبتِه إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كما هي عادةُ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم في التَّأكُّدِ مِن صِحَّةِ المَرويَّاتِ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، حتَّى مِن بعضِهم، فلمَّا أكَّد لَه المُستورِدُ أنَّه سَمِعَه منَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، علَّل عَمرُو بنُ العاصِ رَضيَ اللهُ عنه سَببَ كَثرَتِهم آخِرَ الزَّمانِ؛ لأنَّ عندهم مِن الخصالِ والصِّفاتِ ما يَستحِقُّون به ذلك، وعدَّد رَضيَ اللهُ عنه خِصالَهم، وهذا مِن بابِ الإنصافِ وليْس مِن بابِ المدْحِ لهم وما هُم عليه مِن عَقيدةٍ، فقال رَضيَ اللهُ عنه فيهم: «أَحلمُ النَّاسِ عندَ فِتنةٍ»، يكونُ فيهم العقلُ والتَّثبيتُ عندَ وُقوعِ الفِتنِ، فيكونونُ أصبَرَ النَّاسِ عندَ حُصولِ شِدَّةٍ ومَهلكةٍ، «وأَسرعُهم إفاقةً» أي: يَعودون لِصوابِ أمرِهم بعْدَ كلِّ مُصيبةٍ في سُرعةٍ ورُشدٍ، «وأَوشكُهم كرَّةً بَعدَ فرَّةٍ»، أي: هُم أسرَعُ النَّاسِ في المُبادَرةِ إلى القِتالِ والرُّجوعِ إلى العدوِّ بعْدَ الهَزيمةِ، وهُم خيرُ النَّاسِ وأرحَمُهم وأشْفَقُهم لِمِسكينٍ ويَتيمٍ وضَعيفٍ، وفي رِوايةٍ أُخرى لمسْلمٍ: «وخَيرُ النَّاسِ لِمساكينِهم وضُعفائهِم» فيَقومونَ بالإحسانِ إليهمْ، ثمَّ ذكَرَ لهم عَمرٌو رَضيَ اللهُ عنه خَصلةً خامسةً؛ وهي أحسَنُهم وأجْمَلُهم، وهي أنَّهم: أمنَعُ النَّاسِ مِن ظُلمِ مُلوكِهم، أي: أنَّهم يَمنَعون الملوكَ مِن الظُّلمِ، أو أنَّهم يَحمُون النَّاسَ مِن ظُلمِ الملوكِ.

لقد كان ابن العاص عارفًا بأخلاق الروم، ونفسياتهم وخصالهم، وانطلق من ذلك إلى تفسير حديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، وتحليله،وكأنه مركز دراسات استراتيجية!

قيل: إنَّ تلك الأوصافَ الجميلةَ كلَّها إنَّما كانت غالبةً على الرُّومِ الَّذين أدْرَكَ عَمرو زَمانَهم.

وفي الحديثِ: أنَّه لا بأْسَ بمَدحِ الأوصافِ الحَسَنةِ وإنْ وُجِدَت في الكفَّارِ، ويَحسُنُ ذِكرُها على سَبيلِ الاعتبارِ، ولِحضِّ المسْلِمين على الأخْذِ بها؛ فإنَّهم أحَقُّ بها وأهْلُها.

وإذا أردنا أن نحدّد الروم المعهودين عند المسلمين في ذلك الزمن فإنهم هم المذكورون في سورة الروم، حيث يفرح المؤمنون بنصرهم على الوثنيين، الذين غلبوهم في أدنى الأرض أي بلاد فلسطين، وانهم من بعد غلبهم سيغلبون هؤلاء الوثنيين من الفرس، وسبب فرح المؤمنين بنصر الروم هو أنهم أقرب إلى المسلمين من سائر الكفار من غير أهل الكتاب، وقد تحققت تلك النبوّة، فيكون المقصود بالروم هي الدولة البيزنطية التي كانت تحت حكم هرقل، وهي شاملة لبلاد الشام وما وراءها، ومصر وما حولها. وتمتد إلى الدولة الرومانية، في أوربا وبلاد إفريقيا قبل الفتح الإسلامي.

(العرب يومئذ قليل) و(الروم أكثر الناس)

يقال اليوم: “البقاء للأقوى” و “البقاء للأصلح”، وإننا نجد في سنَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم أحاديثَ تخبرنا بالأخلاق المؤهِّلة للبقاء إلى الأجل المُسمَّى، ولعلها نذير لهذه الأُمة؛ فعن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها قالت: استيقظ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من النوم محمرًّا وجهُه يقول: ((لا إله إلا الله، ويلٌ للعربِ من شرٍّ قد اقترب، فُتِحَ اليومَ مِن رَدْمِ يأجوج ومأجوجَ مثلُ هذه))، وعقد سفيان تسعين أو مائةً، قيل: أَنهلِك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم، إذا كثُر الخبثُ))؛ رواه البخاريُّ في صحيحه.

إذًا؛ فالصلاح ليس مؤهِّلًا من مؤهِّلات البقاء، إلّا إذا تعدَّى ليكون إصلاحًا في الآخرين.

فكيف يكثُر الخبث مع وجود الصالحين إلّا إذا صار وجود هؤلاء الصالحين غيرَ مؤثِّر؟!

فالإصلاح تلازمه صفتان هما المنَعة والقوَّة

المنعة صفة عدم تقبُّل أخطاء المجتمع بالتصدِّي لها، وأما القوة فلازمة للردع حين يصبح للفاسدين أو المفسدين تأثير.

ولعلّ هذا يفسر لماذا يكون العرب حين خروج الدجَّال قليلين، على حين يكون الروم أكثرَ الناس عند قيام الساعة؟

﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [هود: 117]

فنجد الصلاح وحده لا يؤهِّل صالحي العرب المسلمين للبقاء إلى الأجل المسمَّى، على حين نجد هذه الخصال الخمس المفقودة أهَّلت الروم للبقاء إلى الأجل، ولننظر في هذه الصفات على أنها نذير الهلاك لفاقديها من هذه الأمة: أحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقةً بعد مصيبة، وأوشكهم كرَّة بعد فرَّة، وخيرهم لمسكين وضعيفٍ، وأمنعهم من ظلم الملوك.

معرفتنا بتلك الخصال ليست لنقول: هم أفضل منا، أو لنُعظِّمهم في نفوسنا، بل لنُحذر أنفسنا من فقدانها، فهذه الصفات تتكامل معًا لتُشكِّل مجتمعًا متماسكًا منيعًا، سريع النهوض بعد السقوط.

فالجراح الواقعة بمرور الأحداث تُنهك الأمم، والظلم يَفتك بها سريعًا ويُوهنها، إلّا أن المنعة والتلاحم تُمثّلان حصنًا للأمة المتمسِّكة بهما، ولذلك فإن النوازل لا تفتك بها بالسرعة التي تفعلها بالآخرين إلا بقدر الله عزّ وجلّ!

ولعلنا لو أخذنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير التفكُّر في أهمية الخبر وما وراءه من بيان، وبمعزلٍ عن الحوار الدائر بين الصحابيَّين لم ننتفع على النحو المطلوب، فهما يُعلِّمانِنا كيف ننتفع بالخبر من الناحية العملية!

فإقامة الدين في مجتمع لا تستمر من غير القوة والمنعة؛ عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده، لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتَنْهَوُنَّ عن المنكر، أو ليُوشِكَنَّ الله أن يبعثَ عليكم عقابًا منه، ثم تَدعونه فلا يَستجيب لكم))؛ صحيح الترمذيِّ.

والواقع الآن أن الأمة تُسارع في تشرُّب عكس هذه الصفات المؤهِّلة للبقاء إلى أجلٍ، وفي ذلك تفريط في سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث حثَّنا على التمسك بها في مواطنَ متعدِّدةٍ.

وخلاصة القول:

لا يمكن لأي مجتمع أن يجنِّب نفسه الكوارث أو الأزمات، لكنه يستطيع أن يمنع حدوثها مرة أخرى!

قال عالم الغيب والشهادة تبارك اسمه {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر/ 43].

ومن المؤلم عندما يرى المواطن البسيط ثروات أوطانه تبدّد ويتولاها سفهاء المال العام وسُرّاقه وهو يرى بأم عينه كيف هي أوضاعهم وأوضاع المقربين منهم وفي المقابل لا جدوى من المطالبات والمناشدات لأنها لا تُجدي مع من لا يخاف الله في عباده، فما دام أنه في مأمن بظنه عن زوال هذه النعمة التي أنعمها الله عليه ولا خوف عليه من المراقبة والمحاسبة فهو في أمان واستقرار، وما عَلِم المسكين بأن الظالم له يوم لا مفر منه إن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة وليس ذلك ببعيد عليه ولا مفر له من الموت

فمن أخذ بأسباب النصر انتصر ولو كان كافرا.. ومن أخذ بأسباب الهزيمة انهزم حتى لو كان مؤمنا.. إنّها“سُنّةُ الله ولن تجد لسنة الله تبديلا”… فهل نعي الدرس أم نكتفي بتوعد الحضارة الغربية بالزوال لنسوّغ عجزنا نحن عن إقامة الحضارة البديلة.

نحن اليوم –ومستقبلا- بحاجة إلى أن نقوي ثقتنا في نفوسنا وثقتنا بديننا، بقوته الذاتية، وبقدرته الاستيعابية، وبأنه لا يمنعنا أبدا من أن نتحاور ونأخذ ونعطي، ولا يمنعنا أبدا –بل يوجب علينا- أن نبصر ما عند غيرنا من خير وحق ومن فضل وسبق، وأن نمدحهم عليه وننافسهم فيه، ونستعين بهم عليه. واثقين في الوقت نفسه بأحقية دين الإسلام وشريعة الإسلام، وأنه رحمة الله وهداه وعدله بين عباده، وأنه لذلك يعلو ولا يعلى عليه.

وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ” كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أهْلِ الكِتَابِ فِيما لَمْ يُؤْمَرْ فيه بشَيءٍ”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى