الفارق كبير بين التعامل المدروس الهادف مع قوى دولية كالولايات المتحدة الأمريكية وقوى إقليمية كتركيا، وبين انتظار ما تصنع تلك القوى والارتباط به أو التسليم له أو اتباعه دون استخدام ميزان المصالح ومقتضيات المنطق السياسي. ويوجب ميزان المصالح قياسها بمدى ما يتحقق لصالح الهدف المحوري للثورة الشعبية في سورية، أي التحرر الحقيقي دون التبعية لقوة أجنبية، أما المنطق السياسي فيقتضي التواصل لا القطيعة، وهذا مع الاعتماد على قوة الارتباط بالإرادة الشعبية، وإدراك عدم مشروعية المساس بها لحساب أي مكاسب مزعومة عبر التسليم لإرادة سياسية أجنبية.
في هذا الإطار يحق التساؤل: ما الذي صنعته السياسات الأمريكية تجاه سورية وشعبها ومستقبله، منذ انطلاق الثورة الشعبية في سورية حتى اليوم؟
سؤال موجه إلى من لا يزالون ينتظرون فقط الحل الأمريكي أو فقط العون الأمريكي، وقد يروّجون لذلك ترويجاً ضمنياً بنشر التيئيس من البحث عن سواه، واستبعاد مجرد التفكير بالسعي لسواه، وذلك عندما يؤكدون أنه لا يستطيع أحد صنع شيء إلا بإذن أمريكي أو توجيه أمريكي مسبق؛ حسناً: ماذا عن نتائج ذلك عالمياً وإقليمياً على أرض الواقع؟!
ندع التاريخ للمؤرخين حول السياسات الأمريكية عموماً وسورية تخصيصاً، ونحدد السؤال المطروح عما صنعت السياسات الأمريكية حتى الآن بمراجعة حصيلة السنوات التي مرت على انطلاق الثورة، والتي شهدت تبدل اسم من يجلس على كرسي الرئاسة الأمريكية عدة مرات، وكذلك تبدل الأغلبيات في المجلس النيابي ومجلس الشيوخ أكثر من مرة.
ثلاثة عناوين يمكن وضعها في محاولة الجواب على هذا السؤال لتعداد الوقائع على الأرض وفق ما يقول به الواقع الفعلي والرسمي:
١- إصدار قوانين أمريكية بمفعول عابر للحدود “الأمريكية” ومنها ما أدّى إلى تقنين “عقوبات” عابرة للحدود أيضاً، دون أن يصل شيء من حصيلتها إلى رأس البلاء في سورية، بما يتجاوز حدود التضييق المالي نسبياً فحسب.
٢- إعلان هدف التركيز على مكافحة منظمة داعش الإرهابية ، واستخدام ذلك الهدف بالسيطرة على شمال شرق سورية الغني غذائياً ونفطياً، وكذلك بدعم فريق من الأكراد تسلّحاً وسياسياً، مع ملاحظة أنه فريق تتعارض تطلعاته مع فئات أخرى من الأكراد، ومع الفصائل الأقرب إلى مسار الثورة، ومع هدف استبقاء وحدة الأراضي السورية مستقبلاً، كما تتناقض مع السياسات التركية التي احتضنت الثورة الشعبية، سياسياً وإنسانياً وأمنياً، أكثر من سياسات أي دولة أخرى.
٣- تحت عنوان الجواب على استخدام السلاح الكيمياوي ضد الشعب، تحقّق واقعياً هدف آخر هو تجريد سورية -بغض النظر عمّن تفضي إليه السلطة مستقبلاً- من التسلح بما قد يردع جهة أجنبية معادية من التهديد باستخدام أسلحة الدمار الشامل ضد سورية سلطة وشعباً.
السؤال: هل يوجد في هذه الميادين الثلاثة الأبرز من سواها ما يمكن اعتباره بذور سياسة أمريكية بما يكفي لتبرير انتظار من ينتظر حلاً أمريكياً في المستقبل المنظور أو المتوسط، على أن يكون حلاً إيجابياً، أي أن ينطوي على تلبية المطالب الثورية الشعبية، المشروعة وفق جميع المعايير المعتبرة؟
حتى في نطاق ما يقال عن الاستهداف الأمريكي للخصوم مثل روسيا وإيران، لم تخرج حصيلة السنوات المتتاليات عمّا سبق وتقرر بخطوطه العريضة في اتفاق جنيف واحد واتفاق فيينا في مفاوضات مباشرة حصرياً مع موسكو، وكذلك -إلى حد لا بأس- في استمرار الالتزام بما اقترن بالاتفاق النووي الأول مع طهران؛ أي عدم التعرض المباشر لتوسع مشروع الهيمنة الإيراني إقليمياً.
أما الخطوط الحمر وغير الحمر الأمريكية والغربية عموماً، تجاه سياسات وممارسات روسية وإيرانية في سورية، فلم تصل يوماً إلى خطوة مباشرة وفعالة لوقف مسلسلات ترسيخ القمع الدموي “للثورة” وترسيخ الاحتلال الثنائي “للدولة”، بل نشهد واقعياً أنها لم تصل -كمثال- إلى عشر معشار ما تصنعه واشنطون تجاه الحرب الروسية في أوكرانيا وكذلك ما تصنعه لتحرير فرد أمريكي واحد يقع في أيدي إيران لسبب ما.
وحتى في نطاق الجانب الإنساني المحض لم تصل التحركات الأمريكية إلى ما يتجاوز الإسهام المحدود من أجل استبقاء الحد الأدنى الضروري لمحض استمرار الحياة مع المعاناة القصوى، بالنسبة لفئات الشعب السوري داخل الحدود وفي الشتات.
* * *
إن الحل الذي يجب السعي له هو الحل الذي لا يربط “الآمال والتطلعات” ولا يربط خطوة عملية ما بالإرادة السياسية الأمريكية أو أي إرادة دولية سواها، وهذا ما تعنيه ممارسة سياسات مدروسة بعيداً عن أساليب المواجهة الشاملة المستحيلة، وعن أساليب الخضوع والتسليم الانتحارية.
المطلوب هو البذور الأولية لصناعة لغة مصالح ومعطيات مشروعة، واستخدامها الهادف، مع السعي لتنمية تلك البذور وفق تواصل مستدام (١) مع الأصحاب الشرعيين لحق تقرير المصير من أهل سورية في الداخل والشتات، و(٢) مع من يتجاوب مع لغة المصالح المشروعة من مسؤولين من القوى الإقليمية والدولية.
والعقبة الحقيقية نملك تجاوزها؛ فلن يتحقق ما سبق ولا سواه دون أن نغير واقعنا الممزق، والمقصود بذلك: جميع من بقي يتحرك ولو لمجرد إثبات وجوده، في ساحة الثورة، باسم تمثيلها أو السعي لتمثيلها، من السوريين أنفسهم، الذين كانوا يدركون من البداية أو أصبحوا يدركون مع مرور الزمن، أن التلاقي الذاتي على رؤية مشتركة، من فوق تعدد الانتماءات والتوجهات، ودون إقصاء أي طرف أو استبعاد أي اجتهاد لممارسة السلطة مستقبلاً، هو مصدر القوة الأول الفعال للتعامل مع القوى الإقليمية والدولية، وهو المنطلق الذي لا غنى عنه، للوصول إلى الهدف المشترك: التحرر الحقيقي وفي مقدمة عناصره إنهاء سيطرة بقايا العصابات الدموية على السلطة في سورية.