مقالات

دارفور.. مستودع الأزمات

د. ياسر محجوب الحسين

صحفي ومحلل سياسي
عرض مقالات الكاتب

لم تهدأ نار إقليم دارفور السوداني المستعرة منذ نحو عقدين من الزمان بسقوط نظام الرئيس عمر البشير في 2019، بل بقيت ألسنة اللهب ترتفع من حين إلى حين رغم خراطيم المياه والمركبات الكيميائية المضادة للنار. فقد ارتفعت وتيرة الصراعات القبلية مخلفة حصيلة وافرة من الضحايا، مما أسفر عن مقتل أكثر من 900 شخص وإصابة ألف وتشريد نحو 300 ألف فقط في العام 2022 وفقا لتقرير صدر حديثا عن الأمم المتحدة. وأمس الأول الخميس تجدد هجوم مليشيات مسلحة على مخيم في مدينة زالنجي مركز ولاية وسط دارفور، مما أسفر عن مقتل نازح، ليرتفع بذلك عدد القتلى إلى 8، إضافة إلى إصابة 11 شخصا.اليوم حال انسان دارفور مثله مثل ذلك الثائر التونسي الذي قال جملته المؤثرة (لقد هرمنا.. هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية) ومن حسن حظه أنه نال مبتغاه بسقوط نظام الرئيس زين العابدين بن علي، بيد أن إنسان دارفور بلغ من عمر الانتظار المميت عتياً. فهل تأتي اللحظة التاريخية يشهد الإقليم إغلاق ملف الأزمة؟. لا يبدو أن هذه اللحظة تبدو قريبة طالما الاستعمار الجديد يظل يستهدف ترويض همم المستضعفين ليصبحوا على استعداد لقبول أي شيء ثم إعادة تشكيل أفكارهم وأحلامهم بوسائل عديدة تبدأ بالإغاثة والإنجيل وقد تنتهي بالمدفع والدبابة. فالأجندة الأجنبية في دارفور تهدف لأن تبقى حالة عدم الاستقرار التي يمرر من خلالها الغرب استراتيجياته في كامل المنطقة وليس في السودان وحده. والمنظمات الانسانية إحدى الأدوات الغربية في تنفيذ الأجندة، استخدمت مساحة تحركها في تضخيم المشكلة تمهيدا لاستصدار القرارات الدولية والتمهيد لوجود عسكري عبر البوابة الأممية؛ تقول صحيفة “كريستيانساينس مونيتور” الأمريكية ذائعة الصيت في تقرير لها قبل عدة سنوات، أن منظمات ونشطاء غربيين في مقدمتهم تحالف “أنقذوا دارفور” قد لعبوا دورا سلبيا في تضخيم أزمة دارفور لأسباب تتعلق بتوزيع الأموال المرصودة للأزمة والترويج للتحالف، الأمر الذي انعكس على إعاقة الجهود الإنسانية الإغاثية والتغطية على جرائم الحركات المسلحة المتمردة ونسب كل المشاكل إلى الحكومة المركزية تحت مزاعم حدوث إبادة جماعية. في العام 2011ضبطت حكومة ولاية شمال دارفور 50 صندوقا تحوي 3400 نسخة من الإنجيل بمقر منظمة أمريكية تدعى “لا مزيد من العطش”. وكانت المؤسسات الدولية يدا طيعة في يد القوى المتربصة بدارفور ففي الفترة من 2004 – 2006 أصدر مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، 10 قرارات بشأن قضية دارفور وحدها وهي القرارات بالأرقام: 1556 و1564 و1574 و1590و1591 و1593 و1663 و1665 و1679، و1706، مع العلم أن كل تلك القرارات لم تجد فتيلا.وبمعزل عن تفاعلات الأجندة الأجنبية، فإن اتساع مساحة الاقليم وبعده عن المركز ساهم في تأخر التنمية بمختلف أشكالها وأنواعها. فكل ذلك شكل بيئة مواتية للأطماع الدولية في ثروات الاقليم تحت الأرض وفوقها، فأصبحت دارفور مسرحا لصراع أجندات الخارج، فيما غابت الحكومة المركزية أو كادت تغيب. كما أن الصراع بين مكوناته لم يكن صراع هوية كما يذهب البعض؛ فعلى سبيل المثال، فإن عناصر المقارنة بين التركيبة الاجتماعية والثقافية في كل من السودان وتشاد – وهي الدولة التي تحادد دارفور من ناحية الغرب – بارزة وواضحة ومتعددة، فقد شهدت الأجزاء الشمالية في كلا البلدين قيام دول إسلامية تأثرت تأثرا قويا بهجرات القبائل العربية التي انداحت من الشمال والشرق التي وجدت في أراض السودان وتشاد امتدادا طبيعيا لحياة البدو العرب من حيث البيئة الصحراوية. لقد كانت دارفور مملكة إسلامية مستقلة حكمها عدد من السلاطين كان آخرهم وأشهرهم السلطان علي دينار، وعند اندلاع الحرب العالمية الأولى أيد سلطان دارفور الدولة العثمانية التي كانت تمثل مركز الخلافة الإسلامية. ولهذا فليس من صالح أي كيان سياسي أو عسكري المساس بأحد أركان الهوية الدارفورية المتمثل في الثقافة العربية والإسلامية خشية وطمعا في ولاء مواطن دارفور وحرصا على مشاعره الوطنية.بيد أن الحركات المسلحة التي بدأت تقاتل المركز يحمل قادتها طموحات شخصية وساعد في تغذية هذه الطموحات الأسلوب الذي يعالج به المركز القائم على الرشوة السياسية بالمناصب. ولعل حالة التشظي والانقسامات العنيفة بين صفوف هذه الحركات تعطي مؤشرا قويا لغياب والرؤية السياسية المتماسكة المفضية لتحقيق أهداف الثورة أو الانتفاض.

وليس واضحا لدى هذه الحركات ما إذا كانت تقوم بثورة مسلحة أم غير ذلك. فالتيار الثوري عادة يحمل أفكارا تؤمن بالثورة المسلحة كخيار ضد الاستعمار. وحتى ما يعرف بالكفاح التحرري، فهو نشاط مقاوم في المناطق التي تخضع للاستعمار، ويتخذ أشكالا مختلفة إما سياسية أو عسكرية أو كليهما، معبرة عن رفض الاستعمار. أما المقاومة فهي رد فعل سياسي أو عسكري يعبر عن رفض التدخل الأجنبي (الاستعمار). فكل هذه الأشكال تتحدث عن الاستعمار بينما لا تتطبق صفة الاستعمار بالضرورة على الحكومة في الخرطوم التي تقاتلها الحركات المسلحة. ربما كان توقيع وثيقة الدوحة للسلام في يوليو 2011م بين حكومة الخرطوم وحركة التحرير والعدالة، أكثر الخطوات السياسية جدية لحل قضية دارفور. وقد نظمت الوثيقة اقتسام السلطة والثروة وحقوق الإنسان واللجوء والنزوح والتعويضات ووضع الإقليم الإداري والعدالة والمصالحات. وعند اجراء استفتاء دارفور وفق الاتفاقية والذي جرى لاحقا، سارعت الولايات المتحدة الأمريكية بإبداء اعتراضها عليه مغلفا بحجج فنية. وما من سبب منطقي لذلك الاعتراض إلا أن الاستقرار الذي سيصنعه اتفاق الدوحة لا يلائم الأجندة الغربية في الإقليم. والولايات المتحدة التي أيدت بشدة من قبل استفتاء جنوب السودان الذي أفضى للانفصال، لم تتحدث حينها عن انعدام الأمن في الجنوب والتسجيل غير الكافي لسكانه لأنها كانت في عجلة من أمرها ليتم الانفصال بأسرع فرصة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى