مقالات

“الكريسماس” وصراعُ الْهُوِيّات

د. عطية عدلان

مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول
عرض مقالات الكاتب

على الرغم من يقيني بصحة ما اتفق عليه العلماء من حُرْمَةِ تهنئة أهل الكتاب بأعيادهم، وعلى الرغم من رفضي القاطع للتأويلات والتعللات التي يبديها أصحاب الفقه المأزوم، الذين يجيزون هذا الأمر ويسوغونه، فلستُ مَعْنِيًّا بهذه المسألة ولا مهتمًا بها؛ لا لصغرٍ أو ضآلةِ شأنٍ أو غير ذلك مما تتسم به بعض الأمور، ولكن لأنّ هناك ما هو أكبر وأخطر، وهو ما يمكن أن نسميه: صراع الهويات، فهل هذا الصراع على جانب من الأهمية والخطورة؟ وهل يمثل الكريسماس رمزا لهويةٍ مُحادِدَةٍ للهوية الإسلامية؟

 الكريسماس يعني “ميلاد المخَلِّص” والمخَلِّصُ في عقيدة النصارى هو المسيح، الذي هو الربّ عند بعضهم، وابن الربّ عند آخرين منهم، هذا العيدُ عيدٌ دينيٌّ كبير، ففي إنجيل لوقا: (إنّي أبشركم بفرح عظيم يعم الشعب كله؛ إنّه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرَّبّ) (إنجيل لوقا 2/10-11)، ومن ثمّ فهو رمز لهويتهم لا يقل عن رمزية عيد القيامة، وذلك مثلما لعيد الفطر ولعيد الأضحى عندنا من رمزية تبرز الهوية الأسلامية، وقد اندمجت المناسبة الدينية تلك برأس السنة الميلادية بشكل كامل.

 وقد درج الناس على الاحتفال بهذا “الكريسماس”، وكثيرٌ من المسلمين لا يكتفي فقط بتهنة النصاري في عيدهم هذا، وإنّما يشاركونهم الاحتفال بالصور والأشكال ذاتها، لكنّ هذا على ضآلته في حسهم يُعَدُّ وِزْرًا كبيرا وانحرافا خطيرا؛ لأنّ الأمر هنا قبل أن يكون أفعالا محرمة في الإسلام أو ممارساتٍ مُجَرَّمةً في الشريعة هو قبل ذلك صورةٌ من صور التَّبَعِيَّة التي تطمس الهوية الإسلامية وتذيبها في الهويات المحاددة، وهم لا يبالون بصراع الهويات الذي يحتدم عند تخوم الحضارات والأديان، وهو الصراع الأكثر خطورة؛ لأنّه يمثل خط التماس الأول في جميع أصعدة الصراع بين الأمم المختلفة، وما وراءه متأثر به.

تابعنا في فيسبوك

ولعل هذا الصنيع من أوائل ما يدخل في الحديث المتفق على صحته عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: اليَهُودَ، وَالنَّصَارَى قَالَ: «فَمَنْ» أي: من غيرهم يمثل خطرا عليكم ويكون حريصا على إضلالكم؟ واختيار جحر الضب هنا للإشارة إلى ما يشترك فيه سلوكُ طريقِهِم مع سلوكِ جحرِ الضَّبِّ من الدواهي، فجحر الضبّ يتميز بِنَتَنِهِ وضِيقِهِ وتَعَرُّجِهِ وظُلْمَتِهِ وانْسِدادِ أُفُقِهِ. 

وإذا أردنا كلمة قرآنية تساوي كلمة “هوية” فهي كلمة “صِبْغَة” وقد وردت في سورة البقرة في سياق ما تتميز به الأمة المسلمة على لَدُنْ إبراهيم عليه السلام من الإسلام والحنيفية السمحة، قال تعالى: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) (البقرة: 138)، ثم جاء بعد هذا الوصف في نفس السورة ربع كامل يتحدث عن الهوية، بدءًا من قول الله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة: 142).

وعلى الرغم من أنّ الأصل الذي تقرر من قَبْلُ في نفس السورة هو أنّ الجهات كلها لله وأنّ من صلى إلى أيّ جهة قاصدا وجه الله فَثَمَّ وجهُ الله: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) (البقرة: 115)، وعلى الرغم من عظمة بيت المقدس وعلو قدره، وما انتشر فيه وحوله من بركة النبوات وعبق التاريخ: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) (المائدة: 21)، (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا) (الأعراف: 137)، (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) (الإسراءء: 1)، وعلى الرغم من أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون صلوا إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، كما روى البراء بن عازب؛ على الرغم من ذلك كله فقد صدر الأمر الإلهيّ بالتوجه في الصلاة إلى المسجد الحرام: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (البقرة: 144)، وصار من يومها استقبالُ المسجد الحرام شرطا لصحة الصلاة، لا تصح ولا تقبل بدونه.

  لماذا؟ لهذا السبب الوحيد: الهوية المميزة، فالأمّة الإسلامية أمّة قائدة رائدة يجب أن تكون متبوعة لا تابعة، لذلك جاء جواب القرآن على سؤال السفهاء البُلَهاء: (ما ولَّاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها)؟ جاء على هذا النحو: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة: 143)، فالأمة الإسلامية جعلها الله أمةً وسطًا عَدْلًا، وأعطاها المنهج الذي يُعَدُّ معيارا تُقَيَّمُ به الأفكار والأفعال والمواقف والأشخاص والمذاهب والأمم، فلا يصح أن تكون تابعة، ولا يحق أن تنطمس هويتها، ولاسيما مع أهل الكتاب الذين سيبقى صراعهم مع المسلمين ويدوم إلى يوم الدين.

ولأنّ مسألة الهوية على هذه الدرجة من الخطورة فإنّ الوضع الطبيعيّ والواقع التلقائيّ والموقف البدهيّ هو تمسك كل قوم بهويتهم، وإبرازهم لكل ما يرمز لهذه الهوية، من أجل ذلك قرر القرآن هذا الواقع الطبيعيّ البدهيّ: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) (البقرة: 145)، فلا يصح للأمّة الإسلامية أن تفرط في القبلة ولا في أيّ رمز للهوية الإسلامية المميزة؛ حتى لا يكون للناس عليهم حجة، وحتى يتم الله عليهم نعمته بالنصر والتمكين وتمام الهدى: (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (البقرة: 150).

ولا ريب أنّ هذا كلَّه لا علاقة له بالبر والقسط مع أهل الكتاب وغيرهم من شعوب الأرض، فهذا مشروعٌ ومستحبٌ بل واجبٌ، وميدان المجاملة فيه هو الأمور الدنيوية لا الدينية، كالتهنئة بالأفراح والتعزية في المصائب، والمساعدة والنجدة وإغاثة الملهوف، وقد كان وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت له قبل البعثة وبعدها كما قالت خديجة: (إنّك لَتَصِلُ الرّحم وتَحْمِل الكَلَّ وتُكْسِبُ المعدوم وتُقْرِي الضيف وتُعِينُ على نوائب الحقّ)، فَهَلَّا وعينا الخطر المحدق بنا؟ وفَرَّقنا بين مواقف البر والإحسان والعدل والقسط والرحمة، ومواقف المفاصلة والمباينة والتَّميز، فأمّا الأولى فهي في الأمور الدنيوية، وأمّا الأخرى فهي في أمور الدين والشعائر وكل ما يتعلق بالهوية المميزة، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

مقالات ذات صلة

‫4 تعليقات

  1. السلام عليكم ورخمة الله وبركاته
    ما أردتُ إيضاحه بشأن تحريم معايدة غير المسلمين في عيد الكريسماس هو أنَّ ذلك العيد عيد وثني، هو عيد ميلاد الإله “سول انفكتوس”، إله الشمس عند الرومان، وهو ذاته عيد ميلاد الإله الفارسي “ميثرا”، والإله الهندي “بوذا”، وهو في الأصل يرمز لإله الشمس في مختلف العقائد الوثنية، أو لتقل للشَّيطان. قال الله تعالى عن مولد عيسى بن مريم (عليه السَّلام) “وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا” (سورة مريم: 25)، والتمر لا يظهر إلا في الصيف. تقدِّس عقيدة إله الكتاب لوسيفر، أو حامل الضوء، الذي دلَّ آدم وزوجه على شجرة معرفة الخير والشر،ويزخر الكتاب المقدس بآيات تبجل إله النور الذي أنقذ الإنسان الأول من كيد الإله الخالق، الموصوم بالحقد والكذب والأنانية والاستئثار بالخلود، وهو ما أوضحته في أكثر من مقال، منها ما يلي:
    https://resalapost.us.to/2019/08/25/%d8%b9%d9%82%d9%8a%d8%af%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b3%d9%8a%d9%91%d9%8e%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ae%d9%84%d9%91%d9%90%d8%b5-%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%b1%d8%a2%d9%86-%d9%88%d8%a7-8/
    وهذا أيضا
    https://resalapost.us.to/2020/10/05/%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%a7%d9%86%d8%aa%d9%82%d9%84%d8%aa-%d8%b1%d9%85%d9%88%d8%b2-%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%ab%d9%86%d9%8a%d9%91%d9%8e%d8%a9-%d8%a5%d9%84%d9%89-%d9%85%d9%84%d9%91%d9%8e%d8%a9-%d8%a3%d9%87-6/
    وهذا
    https://resalapost.us.to/2021/09/13/%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%a8%d8%b1%d8%a7%d9%87%d9%8a%d9%85%d9%8a%d9%91%d9%8e%d8%a9-%d8%a3%d8%ad%d8%af-%d8%ad%d9%8a%d9%84-%d9%86%d8%b4%d9%92%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%91%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b9/

    1. أحسنت معالي الدكتور الحبيب
      أوافقك الرأي في كل ما تفضلت به
      وقد أفدت منه كثيرا

  2. السلام عليكم ورحمة الله أخانا د. عطية،

    بارك الله فيك على هذه الكلمة الطيبة النافعة.

    لا غبار على ما ذكرتَ أخي الكريم، لكن لدي تعقيب على نقطة لا تقل أهمية، إذ هي بدروها متعلقة بالهوية، ألا وهي الرطانة، مهما قل حجمها أو كبر.

    لا أفهم البتة، لماذا يستعمل الغالبية الساحقة للمسلمين، وعلى رأسهم المشايخ والمثقفون والصحفيون، لفظ “الكريسماس”، الكلمة الأعجمية (إنجليزية) المكتوبة بأحرف عربية؟ لماذا لا يُستعمل الاسم العربي الفصيح “ميلاد المسيح”؟

    شعوب الغرب نفسها التي تتبنى “الديانة النصرانية”، كلٌّ منها يستعمل لغته، التي هي جزء من هويته، لتسمية ذكرى “ميلاد المسيح”. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
    الانجليزية (أمريكان وبريطانيين) يسمون الذكرى: Christmas
    الفرنسيون: Noël
    الإسبان: Navidad
    الإيطاليون: Natale
    الألمان: Weihnachten
    العربية (وليس العرب إلا من رحم الله): ميلاد المسيح
    ……..

    لكن العرب وحدهم الذين يتخلون عن لغتهم العربية، يتخلون عن هويتهم، فيسمون المناسبة باللغة الانجليزية أو الفرنسية! وهناك الكثير من الأشياء الأخرى التي يستغني فيها المسلمون عن الأسماء العربية، ليسمونها بالأسماء الأعجمية!
    أليس هذا أيضا أحد مظاهر صراع الهوية الذي انهزم فيه المسلمون، وللأسف حتى أهل العلم الذين يًعوَّل عليهم لحماية الهوية، ورد المسلمين الى هويتهم وإلزامهم بها؟

    نُذَكِّر في هذا المقام بقول عمر بن الخطاب: “لا تعلَّموا رطانة الأعاجم”، وقول الشافعي: “لا نحب أن يسمي رجل يعرف العربية تاجراً إلا تاجراً، ولا ينطق بالعربية فيسمي شيئا بالعجمية، وذلك أن اللسان الذي اختاره الله عز وجل لسان العرب، فأنزل به كتابه وجعله لسان خاتم أنبيائه”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى