دين ودنيا

القـــــواعـــد الفـقـهـــية (21) القاعدة الثامنة عشر “الحاجة قد تنزل منزلة الضرورة”

محمد عبد الحي عوينة

كاتب وداعية إسلامي. إندونيسيا.
عرض مقالات الكاتب


الحاجة تنزل منزلة الضرورة، عامة كانت أو خاصة.
ذكر هذه القاعدة عدد من العلماء منهم إمام الحرمين(غياث الأمم ص478)، والسيوطي (الأشباه والنظائر ص88)، وابن نجيم (الأشباه والنظائر ص91)، والزركشي وقد جعلها قاعدتين إحداهما في الحاجة العامة، والأخرى في الحاجة الخاصة.
وأشار إليها عدد منهم، كابن عبد السلام(قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2/9).
وأورد الونشريسي من الأمثلة على قاعدة: الضرورات تبيح المحضورات ما يصلح لإدراجه تحت هذه القاعدة. (إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك ص365)
وقال ابن نجيم: “إنها متفرعة من قاعدة: الضرر يزال. (الأشباه والنظائرص85)
معني القاعدة:
قسم العلماء المصالح التي جاء بها الشرع إلى ثلاث مراتب هي الضرورات، فالحاجيات، فالتحسينيات، فالحاجة إذن دون الضرورة. (انظر:الموافقات 2/8، والمستصفى 2/481)
الحاجة لغة: هي الاضطرار إلى الشيء، وتطلق على الافتقار نفسه، وعلى الشيء الذي يُفْتَقَر إليه، وقيل: هي القصور عن المطلوب.
وفي الاصطلاح: يمكن تعريفها من خلال تعريف العلماء للحاجيات حيث عرف الشاطبي بأنها: “المصالح المفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي – في الغالب – إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب.
فيقال في الحاجة: إنها حالة تطرأ على الإنسان يخاف معها فوت شيء من المصالح المفتقر إليها من حيث التوسعة، بحيث لا تندفع إلا بارتكاب محرّم، أو ما يخالف القواعد العامة للشرع. (القواعد المتضمنة للتيسير 1/ 243)
الضرورة لغة: من الضرر وهو: خلاف النفع.
وفي الاصطلاح: يمكن تعريفها من خلال تعريف العلماء للضروريات حيث عرّف الشاطبي الضروريات بأنها: “المصالح التي لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تَجرِ مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد، وتهارج، وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة، والنعيم، والرجوع بالخسران المبين.
والضروريات هي: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل.
الفرق بين الحاجة والضرورة والعرف:
الْحَاجة تتنزل فِيمَا يحظره ظَاهر الشَّرْع منزلَة الضَّرُورَة عَامَّة كَانَت أَو خَاصَّة. وتنزيلها منزلَة الضَّرُورَة فِي كَونهَا تثبت حكماً. وَإِن افْتَرقَا فِي كَون حكم الأولى (الحاجة) مستمراً وَحكم الثَّانِيَة (الضرورة) موقتاً بِمدَّة قيام الضَّرُورَة إِذْ الضَّرُورَة تقدر بِقَدرِهَا.
وكيفما كَانَت الْحَاجة فَالْحكم الثَّابِت بِسَبَبِهَا يكون عَاما بِخِلَاف الحكم الثَّابِت بِالْعرْفِ وَالْعَادَة فَإِنَّهُ يكون مُقْتَصرا وخاصاً بِمن تعارفوه وتعاملوا عَلَيْهِ واعتادوه، وَذَلِكَ لِأَن الْحَاجة إِذا مست إِلَى إِثْبَات حكم تسهيلاً على قوم لَا يمْنَع ذَلِك من التسهيل على آخَرين وَلَا يضر، بِخِلَاف الحكم الثَّابِت بِالْعرْفِ وَالْعَادَة فَإِنَّهُ يقْتَصر على أهل ذَلِك الْعرف إِذْ لَيْسَ من الْحِكْمَة إِلْزَام قوم بعرف آخَرين وعادتهم ومؤاخذاتهم بهَا.
وَالْحَاجة هِيَ الْحَالة الَّتِي تستدعي تيسيراً أَو تسهيلاً لأجل الْحُصُول على الْمَقْصُود، فَهِيَ دون الضَّرُورَة من هَذِه الْجِهَة، وَإِن كَانَ الحكم الثَّابِت لأَجلهَا مستمراً، وَالثَّابِت للضَّرُورَة موقتاً كَمَا تقدم.
وَالظَّاهِر أَن مَا يجوز للْحَاجة إِنَّمَا يجوز فِيمَا ورد فِيهِ نَص يجوزه، أَو لم يرد فِيهِ نَص يمنعهُ، وَكَانَ لَهُ نَظِير فِي الشَّرْع يُمكن إِلْحَاقه بِهِ، وَجعل مَا ورد فِي نَظِيره وارداً فِيهِ.
أَو لم يكن لَهُ نَظِير جَائِز فِي الشَّرْع يُمكن إِلْحَاقه بِهِ، وَلَكِن كَانَ فِيهِ نفع ومصلحة. كَمَا وَقع فِي الصَّدْر الأول من تدوين الدَّوَاوِين، وَضرب الدَّرَاهِم، والعهد بالخلافة وَغير ذَلِك مِمَّا لم يَأْمر بِهِ الشَّرْع وَلم ينْه عَنهُ وَلم يكن لَهُ نَظِير قبل، فَإِنَّهُ دعت إِلَيْهِ الْحَاجة وسوغته الْمصلحَة، بِخِلَاف الضَّرُورَة فَإِن مَا يجوز لأَجلهَا لَا يعْتَمد شَيْئا من ذَلِك.
أما مَا لم يرد فِيهِ نَص يسوغه، وَلَا تعاملت عَلَيْهِ الْأمة، وَلم يكن لَهُ نَظِير فِي الشَّرْع يُمكن إِلْحَاقه بِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مصلحَة عملية ظَاهِرَة، فَإِن الَّذِي يظْهر عندئذ عدم جَوَازه، جَرياً على ظواهر الشَّرْع، لِأَن مَا يتَصَوَّر فِيهِ أَنه حَاجَة وَالْحَالة هَذِه يكون غير منطبق على مَقَاصِد الشَّرْع.
الأمثلة والتطبيقات:
كما ذكرنا فإن الْحَاجَةُ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ عَامَّةً كَانَتْ أَوْ خَاصَّةً
فمن أمثلة الضرورة العامة:
1- مَشْرُوعِيَّةُ الْإِجَارَةِ، ، جُوِّزَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِمَا فِيها مِنْ وُرُودِ الْعَقْدِ عَلَى مَنَافِعَ مَعْدُومَةِ.
2- وَالْجَعَالَةِ جُوِّزَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِمَا فِيها مِنْ الْجَهَالَةِ.
3- وَالْحَوَالَةِ جُوِّزَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِمَا فِيها مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ.
4- وَإِبَاحَةِ النَّظَرِللأجنبية، لِلْمُعَامِلَةِ، والخطبة، وَنَحْوِهَا.
وإنما أبيح ذلك لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيه. وَالْحَاجَةُ إذَا عَمَّتْ كَانَتْ كَالضَّرُورَةِ. (الأشباه والنظائر للسيوطي ص88، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص78)
وَمِنْ أمثلة الضرورة الخاصة:
1- تَضْبِيبُ الْإِنَاءِ بِالْفِضَّةِ: يَجُوز لِلْحَاجَةِ وَلَا يُعْتَبَرُ الْعَجْزُ عَنْ غَيْرِ الْفِضَّةِ، بَلْ الْمُرَادُ الْأَغْرَاضُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّضْبِيبِ سِوَى التَّزْيِينِ: كَإِصْلَاحِ مَوْضِعِ الْكَسْرِ وَالشَّدِّ وَالتَّوَثُّقِ.
2- وَمِنْهَا: الْأَكْلُ مِنْ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، جَائِزٌ لِلْحَاجَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ لِلْآكِلِ أَنْ لَا يَكُونَ مَعَهُ غَيْرُهُ.
3-يجوز بيع المغيبات في الأرض عند بعضهم كاللفت والفجل والجزر والبصل، للمصلحة العامة التي لا بد للناس منها، فلو شرط لبيعه إخراجه دفعة واحدة، كان في ذلك مشقة وفساد أموال، ولم يأتِ الشرع بذلك، وإن منع بيعه إلا شيئاً فشيئاً، كلما أخرج شيئاً باعه، ففي ذلك مشقة وحرج، وتعطيل مصالح أرباب تلك الأموال، ومصالح المشتري. (الأشباه والنظائر للسيوطي ص88، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص78)
ومن ذلك جواز السلم على خلاف القياس، لكونه بيع المعدوم دفعاً لحاجة المفاليس، ومنها جواز الاستصناع للحاجة، ودخول الحمام مع جهالة مكثه فيها، وما يستعمله من مائها وشربة السقاء، ومنها الإفتاء بصحة بيع الوفاء حين كثر الدين على أهل بخارى وهكذا بمصر، وقد سموه بيع الأمانة والشافعية يسمونه الرهن المعاد، فكلام ابن نجيم هنا ظاهر في أنه أطلق تنزيل الحاجة منزلة الضرورة سواء كانت عامة أو خاصة. (الأشباه والنظائر لابن نجيم ص78، غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر 1/ 293، الوصف المناسب لشرع الحكم ص326)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى