مقالات

مؤتمر الاستئناف الحضاري ومشاريع الإحياء في الأمة الإسلامية.. أين أخفق المؤتمر وأين نجح؟

د. عثمان محمد بخاش

باحث في الفكر الإسلامي والقضايا المعاصرة
عرض مقالات الكاتب


أين أخفق المؤتمر وأين نجح؟

طرحنا هنا يأتي استكمالاً للجدالات العاصفة التي شهدتها مداولات المؤتمر، والتي تراوحت بين الدعوة لضرورة إجراء مراجعات نقدية جذرية تستهدف الإجابة على أسئلة ملحة لم يعد بالإمكان تجاهلها بعد قرن من مسيرة الدعوة الإسلامية التي انطلقت، أول ما انطلقت، تبتغي استئناف المشروع الحضاري الإسلامي، الذي اُوقف عند آخر محطة له المتمثلة بدولة الخلافة العثمانية، وبين الانزعاج الواضح مما اعتبره البعض “جلد الذات” المثبط للعزائم، خاصة أن النظر في واقع الأمة يشير بوضوح إلى عظم الإنجازات التي حققتها الحركة الإسلامية، المراد بها عند المتحدثين حركة الإخوان المسلمين حصرا، حيث إن النقاشات كلها لم تأت على ذكر أي حركة إسلامية أخرى لا من الحركات السلفية، بفروعها، ولا الجهاديةـ بفروعها، ولا السياسية كحزب التحرير والجماعة الإسلامية في باكستان، كما لم تتضمن أي مناقشة لرؤية حركة طالبان في أفغانستان وهذا أمر مستغرب خاصة وأن طالبان أصبحت قي سدة الحكم.

وقد اتفق كثير من المتحدثين على أن من أهم الإنجازات المشار إليها هي المحافظة على الهوية الإسلامية للأمة في وجه الحملة التغريبية خلال القرن العشرين، بل ذهب الدكتور طارق سويدان إلى القول إنه نظر في أهداف الحركة الإسلامية فوجد أن 90 % منها ليست أهدافا سياسية، وانها تحققت، وهذا إنجاز عظيم يحسب لها! 

تابعنا في فيسبوك

أما أين أخفق المؤتمر فيتضح في الأمور التالية:

عُقد المؤتمر تحت عنوان: “الاستئناف الحضاري ومشاريع الإحياء في الأمة الإسلامية: الجذور والواقع والمستقبل”، والمفروض أن الورقات/ الكلمات التي القيت في جلسات المؤتمر تم إعدادها وصياغتها قبل أشهر من عقد المؤتمر، وهو المؤتمر السادس في سلسلة المؤتمرات التي ينظمها منتدى كوالا لامبور للفكر والحضارة؛ وكان المؤتمر الرابع عُقد في اسطنبول ما بين 13-15 نيسان 2018، خلص المشاركون فيه “إلى ضرورة التوافق بين كافة الشركاء السياسيين، لتحقيق التحول الديمقراطي في أي قطر من العالم العربي”.و صرح المفكر المغربي الدكتور محمد الطلابي يومها أن “جوهر مشكلة الربيع العربي تكمن في كونه تحركا شعبيا جريئا، لكنه ما زال يفتقر إلى النظرية السياسية في الدولة والمجتمع المدني والمواطنة والتحالفات، معتبرا أن صياغة هذه النظرية هي مسؤولية المفكرين الذين جمعهم ملتقى كوالالمبور.”

في الجلسة الأولى ألقى الدكتور عصام البشير كلمته والتي طرحت جملة ملاحظات حول مسيرة قرن للحركة الإسلامية (الإخوان المسلمين) في سياق الدعوة إلى تقييم المسيرة و إجراء مراجعات لمعرفة مواطن الخلل واستدراكها، و إعادة النظر في الجهد البشري في الدعوة وهو عرضة للخطأ والقصور والاقتراب حينا من الوحي الرباني أو  الابتعاد عنه. في فترة التعقيبات من الحضور تمنى الدكتور عزالدين الكومي أن يخرج المؤتمر بمشروع حضاري عملي يتم العمل على تجسيده في الواقع، وتساءل هل عجزت الأمة عن تقديم مشروع حضاري بعد مسيرة قرن من العمل الدعوي؟ وهذا استفز الدكتور عبدالرزاق مقريء الذي انتقد تعقيبات الحضور السلبية ـ ورأى أن الحركة الإسلامية قد حققت أهدافها وإنْ كانت الجماهير سبقت الحركة في الدعوة للتغيير الجذري (أي بدل الاكتفاء بالترقيع الإصلاحي)، و دعا الحضور إلى عدم استعجال الأمور فالمؤتمر يعد بالكثير و لا زلنا في مستهله في اليوم الأول.

ولكن في الجلسة الختامية ألقى المهندس عماد البناني كلمة باهتة خلص فيها إلى رمي “كرة”  مسؤولية بلورة وصياغة مشروع استئناف النهضة الإسلامية في ملعب العلماء والمفكرين من الحضور…أي عود على بدء! وللمراقب أن يسأل كما سأل الدكتور الكومي: هل عجز علماء الأمة  ومفكروها عن صياغة المشروع الحضاري بعد قرن من مسيرة العمل الدعوي؟؟ وإذن ما مغزى عقد المؤتمر تلو المؤتمر من ثان وثالث ورابع إلى سادس وسابع إلى إلى؟؟ 

و يصبح هذا التساؤل أكثر إلحاحا حين ندرك أن منتدى كوالا لامبور يحظى بتأييد رفيع المستوى من حكومات: ماليزيا – حيث مقره الأساس، وسبق أن احتضنت المؤتمر الأول والثاني والخامس، كما ألقى د مهاتير محمد كلمة ترحيب عبر الفيديو بالمشاركين في مؤتمر اسطنبول، وتركيا- (التي احتضنت المؤتمرين الرابع والسادس) ، و السودان- الذي احتضن المؤتمر الثالث…ثم إن أنشطة المنتدى تضم شبكة عالمية من الباحثين في الفكر الإسلامي ،وهي تضم العلماء والمفكرين والكتاب والباحثين المقتنعين برسالة المنتدى في مختلف أنحاء العالم….فهل يصعب على هؤلاء تخصيص فريق عمل يخلص فيه إلى بلورة المشروع الحضاري للأمة؟؟ فإذا عجز هؤلاء، مع الدعم السخي الذي يحظون به من تلك الحكومات فمن يتصدى لهذه المهمة المصيرية؟ 

خاصة أن مداولات المؤتمر دلت دلالة  واضحة إلى “ضياع البوصلة” بين قائلٍ بأن الحركة الإسلامية حققت أهدافها ولا داع ل “جلد الذات”، وبين منادٍ بضرورة تقييم المسيرة ومراجعات الأداء، إلى المطالبين بضرورة بلورة طبيعة الحل الإسلامي خاصة لجهة الصيياغة المتعلقة بالدولة ونظام الحكم.

و أرى أن هذه المداولات، وغيرها خارج المؤتمر المذكور، إنما تكشف عن أزمة الرؤية الحضارية المنطلقة من فهم الرسالة الإسلامية وكيفية بلورة مشروع حضاري تقود الحركة الإسلامية الأمة في الكفاح والنضال لتجسيده في عالم الواقع، بعيدا عن المنظومة المعرفية المستوردة من الغرب، و نظرة الدونية التي تجتهد لاستنساخ النموذج الديمقراطي الأثيني الذي تبناه الغرب، ويزعم أنه يريد “التصدق” به على المسلمين متى بلغت مرحلة النضج الحضاري، ولن تبلغه في نظر الغرب، في واقع الأمر، لأنه يخشى أن تتفلت الأمة من هيمنته متى أعطيت حق تقرير المصير وحق اختيار نظام العيش الخاص بها، كما يفترض بالطرح الديمقراطي باحترام الارادة الشعبية، وهذا ما تجسد أكثر من مرة في الجزائر ومصر وغيرها..

ولعل خير شاهد على ذلك، أن المؤتمر لم يأت على ذكر طالبان لا من قريب ولا من بعيد. أفلم يأن للجهاد الأفغاني بعد أربعة عقود من النضال والكفاح أن “يثمر ربيعه”؟ ولم لا تمد الحركة الإسلامية يدها إليه؟ أم أن احتضان حكومات ماليزيا وتركيا لها هو صوري فحسب وذر للرماد في العيون؟ وقد حكم حزب العدالة  و التنمية تركيا لعقدين من الزمن و حكم مهاتير محمد ماليزيا أكثر من ذلك؟

هناك سؤال مصيري طرحه  الدكتور حسين القزاز في كلمته، فقد قال إن الحركة الإسلامية (الإخوان المسلمين)، في القرن العشرين، كانت على مفترق طرق أمام مهمتين مصيريتين: أولاهما تشخيص واقع الأنظمة القائمة وثانيهما تحديد الموقف تجاه هذه الأنظمة. فأما المهمة الأولى فقد رأت الحركة الإسلامية أن الغرب فرض الأنظمة التي تبنت نموذج  التغريب العلماني القائم على مركزية الحضارة الغربية ومنظومتها المعرفية، وأما المهمة الثانية فقد قررت الحركة ، إذ رأت أن لا قِبل لها بدفع المشروع التغريبي المدعوم من الغرب فقررت “التعايش” معه والعمل على تبطئة زحفه بالتركيز على الحفاظ على الهوية الإسلامية، ويرى د القزاز أن هذا كان القرار الممكن بحكم الواقع  وبالتالي القرار الصواب.

وهنا خلاصة الأمر والتحدي الذي يواجه الحركة الإسلامية: هل يقبل الله سبحانه وتعالى للأمة الإسلامية، التي هي خير أمة أخرجت للناس بشهادة الوحي الرباني، وهي التي شرّفها رب العالمين باحتضان خاتمة الرسالات إلى يوم الدين لتقوم بدور الشهادة على الناس بدعوتهم للدخول في دين الله كما قام بذلك حقا وصدقا الرسول الكرم صلوت ربي وسلامه عليه واقتفى أثره من  بعده الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فهل يقبل الله للمسلمين بعد هذا كله أن يُعرضوا عن الرسالة الربانية ويرتضوا لأنفسهم باللهاث وراء فتات من أوساخ الحضارة الغربية العاهرة التي لا ترقب في المؤمنين إلا ولا ذمة، كما نطقت بذلك الشواهد والوقائع التي لم ننسى أوجاعها الكارثية بعد، كما يذكّرنا بها صباح مساء معاناة أهلنا وإخواننا حيث يممنا وجوهنا ليس فقط في أرض الإسراء والمعرج أولى القبلتين وليس فقط في سوريا الجريحة و مصر المغلوبة على أمرها وكشمير و و و، ثم يأبى الغرب الشيطاني إلا أن يفرض علينا وساخته المسماة ب LGBT  والجندرة وغيرها من المصائب الهادفة إلى مسح الإسلام من على وجه الأرض! كما يريد لنا أن نطبل ونزمر لصرف 220 مليار دولار على مهزلة لعبة الكرة في قطر التي تحتضن أكبر قاعدة عسكرية أمريكا في المنطقة ومنها تنطلق الطائرات لتصب حممها على المسلمين في المنطلقة من أفغانستان إلى العراق إلى الصومال واليمن وحيثما أراد صاحب البيت الأبيض.

آن الآوان لرفع الصوت عاليا: إني أرى الملك عاريا..هذه هي حقيقة المواجهة الحضارية المصيرية التي تخوضها الأمة: أـن تكون أو لا تكون، ولا كينونة للأمة إلا باعتصامها بحبل الله والامتثال التام للرسالة الربانية خالصة صافية نقية من أي لوثة مستوردة، بحسن نية أو بسوئها. ولا كينونة للأمة إلا بوحدتها في كيان دولة واحدة تقوم على العقيدة الإسلامية بعيدا عن لوثات الجاهلية المعاصرة.

 وصدق الحق سبحانه وهو القائل:

 ( كنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)

(وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)

اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، إنك ولي ذلك والقادر عليه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى