دين ودنيا

القـــــواعـــد الفـقـهـــية (18) القاعدة 16_ “الأصل في كل حادث تقديره بأقرب زمنه”

محمد عبد الحي عوينة

كاتب وداعية إسلامي. إندونيسيا.
عرض مقالات الكاتب


معنى القاعدة:
يَعْنِي أَنه إِذا وَقع الِاخْتِلَاف فِي زمن حُدُوث أَمر فَحِينَئِذٍ ينْسب إِلَى أقرب الْأَوْقَات إِلَى الْحَال، مَا لم تثبت نسبته إِلَى زمن بعيد، فَإِذا ثبتَتْ نسبته إِلَى الزَّمن الْبعيد يحكم بذلك، وَهَذَا إِذا كَانَ الْحُدُوث مُتَّفقاً عَلَيْهِ وَإِنَّمَا وَقع الِاخْتِلَاف فِي تَارِيخ حُدُوثه، فادّعى أَحدهمَا حُدُوثه فِي وَقت، وَادّعى الآخر حُدُوثه قبل ذَلِك الْوَقْت، فقد اتفقَا على أَنه كَانَ مَوْجُودا فِي الْوَقْت الْأَقْرَب، وَانْفَرَدَ أَحدهمَا بِدَعْوَى أَنه كَانَ مَوْجُودا قبل ذَلِك، وَالْآخر يُنكر دَعْوَاهُ، وَالْقَوْل للْمُنكر. (شرح القواعد الفقهية ص125)
أما إِذا كَانَ الْحُدُوث غير مُتَّفق عَلَيْهِ بِأَن كَانَ الِاخْتِلَاف فِي أصل حُدُوث الشَّيْء وَعدمه، كَمَا لَو كَانَ فِي ملك أحدٍ مسيل لآخر وَوَقع بَينهمَا اخْتِلَاف فِي الْحُدُوث والعدم، فَادّعى صَاحب الدَّار حُدُوثه وَطلب رَفعه وَادّعى صَاحب المسيل قدمه، فَإِن القَوْل لمُدعِي الْقدَم، وَالْبَيِّنَة لمُدعِي الْحُدُوث، حَتَّى إِذا أَقَامَ كل مِنْهُمَا بَينته رجحت بَيِّنَة مدعي الْحُدُوث وَهُوَ صَاحب الدَّار. وَذَلِكَ لِأَن بَينته تثبت ولَايَة النَّقْض فَكَانَت أولى، أما مدعي الْقدَم فَهُوَ مُنكر متمسك بِالْأَصْلِ.
وقد تتعارض هذه القاعدة مع قواعد أخرى، لذلك فصّل العلماء القول في ذلك.
أمثلة وتطبيقات:
يتَفَرَّع على هَذِه الْقَاعِدَة كثير من مسَائِل الطَّلَاق، وَالْمِيرَاث، وَالْإِقْرَار، وَالْهِبَة، وَالْبيع وفسخه، وَالْحجر، وَالْوكَالَة وَغَيرهَا.
1- فَمن ذَلِك: ضرب بطن الحامل فانفصل الولد حياً وبقى زمناً بلا ألمٍ ثم مات، فلا ضمان لأن الظاهر أنه مات بسبب آخر لأنه الأقرب منه.
2- رأى في ثوبه منياً ولم يذكر احتلاماً لزمه الغسل، وتجب إعادة كل صلاة صلاها من آخر نومة نامها لأن ذلك أقرب الزمان. (الأشباه والنظائر لابن نجيم ص55)
3-لَوْ رَأَى فِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةً وَقَدْ صَلَّى فِيهِ وَلَا يَدْرِي مَتَى أَصَابَتْهُ يُعِيدُهَا مِنْ آخِرِ حَدَثٍ أَحْدَثَهُ. (الأشباه والنظائر لابن نجيم ص55)
4- مَا إِذا طلق رجل زَوجته طَلَاقا بَائِنا ثمَّ مَاتَ قبل أَن تَنْقَضِي عدتهَا، فادعت الزَّوْجَة أَنه أَبَانهَا وَهُوَ فِي مَرضه فَصَارَ بذلك فَارًّا، فترث هِيَ مِنْهُ، وَقَالَ الْوَرَثَة: إِنَّه أَبَانهَا وَهُوَ فِي صِحَّته فَلم يكن فَارًّا فَلَا تَرث، فَإِن القَوْل فِي ذَلِك قَول الزَّوْجَة، وَالْبَيِّنَة على الْوَرَثَة، لِأَن الزَّوْجَة تضيف الْحَادِث، وَهُوَ الطَّلَاق، إِلَى أقرب الْأَوْقَات من الْحَال وَهُوَ زمن الْمَرَض.
5- وَمِنْه: مَا لَو مَاتَ رجل مُسلم وَله امْرَأَة نَصْرَانِيَّة فَجَاءَت امْرَأَته بعد مَوته مسلمة وَقَالَت: أسلمت قبل مَوته فَأَنا وارثة مِنْهُ، وَقَالَ الْوَرَثَة: إِنَّك أسلمت بعد مَوته فَلَا ترثين مِنْهُ لاخْتِلَاف دينيكما عِنْد مَوته، فَالْقَوْل للْوَرَثَة وَالْبَيِّنَة على الزَّوْجَة.
6-وَمِنْه: مَا لَو أقرّ إِنْسَان لأحد ورثته بِعَين أَو دين ثمَّ مَاتَ، فَاخْتلف الْمقر لَهُ مَعَ الْوَرَثَة فَقَالَ الْمقر لَهُ: أقرّ لي فِي صِحَّته فالإقرار نَافِذ، وَقَالَ الْوَرَثَة: أقرّ لَك فِي مَرضه فالإقرار غير نَافِذ، فَإِن القَوْل للْوَرَثَة وَالْبَيِّنَة على الْمقر لَهُ.
7-وَكَذَا الحكم فِيمَا لَو وهب إِنْسَان شَيْئا لأحد ورثته ثمَّ مَاتَ فَاخْتلف الْمَوْهُوب لَهُ وَبَقِيَّة الْوَرَثَة على الْكَيْفِيَّة الْمَذْكُورَة
8- وَمِنْه: مَا لَو اشْترى إِنْسَان شَيْئا بِالْخِيَارِ ثمَّ بعد مُضِيّ مُدَّة الْخِيَار جَاءَ المُشْتَرِي ليَرُدهُ على البَائِع قَائِلا: إِنَّه فسخ قبل مُضِيّ مُدَّة الْخِيَار، وَقَالَ البَائِع: فسخت بعد مُضِيّ الْمدَّة فَلَا يَصح فسخك، فَإِن القَوْل قَول البَائِع، لإضافة الْفَسْخ إِلَى أقرب أوقاته من الْحَال
9-وَمِنْه مَا لَو بَاعَ الْأَب مَال ابْنه بِحكم الْولَايَة ثمَّ اخْتلف المُشْتَرِي وَالِابْن فَقَالَ المُشْتَرِي: كَانَ ذَلِك قبل بلوغك وَالْبيع نَافِذ، وَقَالَ الابْن: كَانَ بعد بلوغي فَالْبيع غير نَافِذ، فَإِن القَوْل للِابْن على الْأَصَح.
10- لَو قَالَ الْمَحْجُور: بِعْت وتصرفت بعد الْحجر عَليّ، فتصرفي غير صَحِيح، وَقَالَ الْخصم: قبل الْحجر، فَالْقَوْل للمحجور وَالْبَيِّنَة على الْخصم. وَلَو أطلق من حجره فَاخْتلف مَعَ المُشْتَرِي فَقَالَ الْمَحْجُور: بِعْت مِنْك قبل فك الْحجر، وَقَالَ المُشْتَرِي: بعده، فَالْقَوْل للْمُشْتَرِي.
شرح لبعض الأمثلة والتطبيقات:
1- مات رجل بعد أن طلق امرأته.
فقالت المرأة طلقني في مرض موته . وهذا يعني أنها ترثه.
وقال باقي الورثة : بل طلقها قبل مرض موته، وهذا يعني أنها لا ترث.
فكيف يحكم القاضي؟ وما هو قول الفقيه؟
في مثل هذه الحالة تطبق القاعدة: الأصل إضافة الحدث لأقرب أوقاته.
الحدث هنا هو الطلاق
وقبل مرض الموت أبعد في الزمن ، الأقرب إلى موته زمناً هو مرض الموت.
فيضاف الحدث الذي هو الطلاق إلى أقرب وقت وهو مرض الموت، تطبيقاً لهذه القاعدة.
وعلى الورثة البينة إن أرادوا الحكم لهم، كوثيقة طلاق بتاريخ يفيد أنه قبل مرض الموت.
وبالتالي يكون القول قول المرأة في هذا المثل.
2-مات رجل مسلم وله زوجة نصرانية، فبعد موت زوجها المسلم ادعت أنها أسلمت قبل موت زوجها، وبالتالي فهي تستحق أن يكون لها نصيب في الميراث.
لكن الورثة قالوا أنه أسلمت بعد موته، فهي لا تستحق شيئاً من الميراث، حيث كانت وقت الموت نصرانية، ولا توارث بين مسلم وكافر، فما هوحكم الشرع؟ وكيف يحكم القاضي؟
في مثل هذه الحالة تطبق القاعدة: الأصل إضافة الحدث لأقرب أوقاته.
الحدث هنا هو إسلام المرأة.
وأقرب الأوقات هو بعد موت الرجل.
وبالتالي يحكم القاضي بأن القول قول الورثة، وهي إنها أسلمت بعد موت زوجها ، وبالتالي ليس لها حق في الميراث.
فحسب القاعدة القول قول الورثة بيمينهم، وعلى الزوجة البينة، فإن أتت ببينة تثبت أن أسلامها قبل موته حكم لها، كأن يكون معها شهادة إشهار إسلام بتاريخ قبل موت زوجها، أو أي بينة أخرى، أو شهود.
3-رجل أقَرَّ بدينٍ لأحد ورثته (أحد أبنائه أو أبيه أو زوجته) فلما مات الرجل قال الوثة أنه أقر له في مرض موته، وقال المُقر له بل أقر لي قبل مرض موته.
هنا أيضاً نطبق القاعدة: الأصل إضافة الحدث لأقرب أوقاته.
الحادث هنا هو الإقرار بالدين.
والوقت قبل مرض الموت، أو في مرض الموت.
وأقرب الأوقات للموت هو مرض الموت، فيكون القول قول الورثة، أما المقر فعليه البينة إذا أراد أن يُحكَم له.
ممّا استثني من مسائل هذه القاعدة:
هذه القاعدة ليست على إطلاقها، فهناك استثناءات لتعارض القواعد. فيشترط عند تطبق هذه القاعدة ألا تؤدي إلى نقض أمر ثابت.
فقاعدة “إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته “إذا تعارضت مع قاعدة: “الأصل براءة الذمة” أو “الأصل بقاء ما كان على ما كان ” تترك قاعدة “إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته “
ويعمل بهاتين القاعدتين دونها، لأنهما أقوى.
مثال لعدم تطبيق قاعدة إضافة الحادث لقرب أوقاته
1- لَو قَالَ الْوَكِيل بِالْبيعِ بعد عَزله: بِعْت وسلمت قبل الْعَزْل، وَقَالَ مُوكله: إِنَّك بِعْت وسلمت بعد الْعَزْل، وَكَانَ الْمَبِيع قَائِما غير مستهلك فَإِن القَوْل للْمُوكل الَّذِي يضيف الْحَادِث إِلَى أقرب أوقاته.
وَأما إِذا كَانَ الْمَبِيع مُسْتَهْلكا فَإِن القَوْل للْوَكِيل. وَتَكون الْمَسْأَلَة حِينَئِذٍ من جملَة المستثنيات.
وَالْفرق بَين الْحَالَتَيْنِ أَنه فِي حَالَة هَلَاك الْمَبِيع يكون مَقْصُود الْمُوكل إِيجَاب
الضَّمَان فِي ذمَّة الْوَكِيل، وَالْوَكِيل يُنكر الضَّمَان فَالْقَوْل قَوْله، لِأَن الأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة كما سبق في القاعدة الثامنة.
2- لَوْ قَالَ الْقَاضِي بَعْدَ عَزْلِهِ لِرَجُلٍ: أَخَذْت مِنْك أَلْفًا وَدَفَعْتهَا إلَى زَيْدٍ قَضَيْت بِهَا عَلَيْك، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَخَذْتهَا ظُلْمًا بَعْدَ الْعَزْلِ فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْقَوْلَ لِلْقَاضِي مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ حَادِثٌ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ إلَى أَقْرَبِ، أَوْقَاتِهِ، وَهُوَ وَقْتُ الْعَزْلِ، وَبِهِ قَالَ الْبَعْضُ وَاخْتَارَهُ السَّرَخْسِيُّ، لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ أَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ
3- رجل نصراني وزوجته نصرانية، أسلمت، وقالت إن إسلامها كان بعد وفاة زوجها، فلها حق في ميراثه، حيث كانت على دينه وقت موته، وادعى الورثة أن إسلامها كان قبل وفاته، فهي لا ترثه، فحسب قاعدة: الأصل إضافة الحدث لأقرب أوقاته، والحدث هنا هو إسلام الزوجة.
وأقرب الأوقات بعد موت الرجل فيكون القول قولها.
لكن هذه الصورة مستثناه من هذه القاعدة لتعارضها مع قاعدة أخرى وهي الاستصحاب، ونعني بالاستصحاب: أن الشيء على حالته الحاضرة يُحكم أنه كان عليها في الزمن الماضي ما لم يوجد دليل يغَيِّرها، وبالتالي تكون المرأة في الزمن الماضي مسلمة أيضا، وهي تقضي بأن إختلاف الدين يمنع الإرث
4-إذا قال شخص لغيره: قطعت يدك وأنا صغير، فقال المُقرُّ له: بل قطعتها وأنت كبير. ولا بيِّنة له – كان القول للمقرِّ مع يمينه؛ لأنّه ينفي عن نفسه الضّمان. مع أنّه تبعاً للقاعدة يكون القول للمقرّ له؛ لأنّه يضيف الحادث إلى أقرب أوقاته، لكن هنا كان القول للمقرّ مع يمينه؛ لأنّه استند إلى قاعدة أخرى تقول (الأصل براءة الذّمّة) عن الضّمان وهو ينفيه عن نفسه، فكان القول قوله مع يمينه.
وهكذا في كلّ مستثنى من قاعدة إنّما استثني لأنّه تنازعه قاعدتان فيندرج تحت أقواهما وأقربه شبهاً بها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى