بحوث ودراسات

الحملة الفرنسية على مصر والشام: تجربة فاشلة لنشر الحداثة أم لفرضها بالقوة؟(3مت 8)

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب


يحسم الكاتب جوان كول مسألة اعتناق بونابرت الإسلام باستشهاده برأي الدبلوماسي الفرنسي المعاصر لبونابرت، لويز أنطوان دي بوريان، الذي قال في مذكِّراته عن قائد الحملة الفرنسيَّة أنَّه لم يثبُت عنه تحوُّله إلى الإسلام، أو ممارسته طقوس العبادة الإسلاميَّة على الإطلاق. يستطرد كول، قائلًا “من الواضح جدًّا أنَّه (بونابرت) كان يسعى لإيجاد طريق إعلان معتنقي الربوبيَّة مسلمين لخدمة أغراض سياسيَّة” (ص129). لا يجد كول في ذلك الزعم من بونابرت سوى استكمال لمحاولته في خطابه الأول، الصادر بالعربيَّة فور سيطرته على الإسكندريَّة، تمرير مسألة اعتبار المؤمنين بالعقيدة المسيحيَّة التوحيديَّة، أو بالربوبيَّة، مسلمين بسبب رفضهم التثليث. أمَّا عن مسألة احترام للنبي مُحمَّد، فهي ربَّما صحيحة؛ لأنَّه اعترف في مذكِّراته بتقدير لاستطاعة النبي توحيد دين الجزيرة العربيَّة، بعد تعدُّد الإلهة الوثنيَّة، وممارسات الجاهليَّة المنافية لأساليب التحضُّر واحترام آدميَّة الإنسان؛ فنجح في 15 عامًا فقط القضاء على الوثنيَّة، بينما عجزت اليهوديَّة والمسيحيَّة عن ذلك في 15 قرنًا. أبدى بونابرت كذلك قدرة العقيدة الإسلاميَّة على تربية جيل من المسلمين استطاع السيطرة على نصف العالم تقريبًا.

اقرأ: الحملة الفرنسية على مصر والشام: تجربة فاشلة لنشر الحداثة أم لفرضها بالقوة؟(2من 8)

أسس بونابرت المعهد المصري، على غرار المعهد الفرنسي، ليكون عبارة عن مجمع علمي يدرس مصر، ويساعد في الوفاء باحتياجات الجيش. كان القصد من إنشاء ذلك المعهد أن يؤدِّي مهامَّ ثقافيَّة وعلميَّة في آن واحد. واهتمَّ بونابرت كذلك بتأسيس أماكن ترفيهيَّة، من بينها مسرح لأعداء العروض الفنيَّة؛ حيث اعتبر تلك العروض “وسيلة للارتقاء بأرواح المبتدئين في مجال الحريَّة، ولخلق روح عامَّة في ذلك البلد، وهي العنصر الخامس لأيِّ شعب حرٍّ” (ص146). وعملت الحملة على استقطاب المواهب الفذَّة في المجالات الفنيَّة، ومنها الرقص، من خلال الاستعانة بالمطربات والراقصات-أو العوالم-اللاتي اعتبرهنَّ أحد أعضاء الحملة “قسِّيسات الشهوة” (ص147). واجتهدت الحملة كذلك في تحديث المنهج التعليمي المتَّبع في الأزهر، من خلال الاستعانة بالتقنيات الحديثة في إعداد الموادِّ التعليميَّة؛ ولعلَّ ماكينة الطباعة أحدث مُنتَج استُخدم حينها، ليثير انبهار لفيف من مشايخ الأزهر. اجتهد بونابرت بعد ذلك في إقناع المشايخ باتِّباع مبادئ الجمهوريَّة، وعلى رأسها الحريَّة.
في خضمَّ ذلك التطوُّر على الساحة المصريَّة، وبعد التماهي المتواصل بين مشايخ الأزهر وبونابرت، قرَّر السلطان سليم الثالث شنّ حرب دفاعيَّة ضدَّ الحملة الفرنسيَّة في مصر، معلنًا الجهاد في مواجهة الفرنسيِّين “الكفَّار”، ومعتبرًا ذلك فرض عين على الجميع، وليس فرض كفاية-كما هي طبيعة الجهاد-لأنَّ الحاجة تستدعي مواجهة حاسمة. اتَّهم سليم الثالث الحملة الفرنسيَّة وقائدها بالتعدِّي على قوانين الأمم وأعرافها، ثمَّ ألقى القبض على جميع موظَّفي السفارة الفرنسيَّة، وأودعهم سجن السبعة أبراج، بل وتحفَّظ على أموال التجَّار الفرنسيِّين في الإمبراطوريَّة العثمانيَّة وسجن بعضهم؛ ففسدت بذلك العلاقات التجاريَّة بين فرنسا والعثمانيِّين، بعد قرون من الازدهار. تجهَّزت دفاعات المجتمع المسلم في انتظار إطلاق نفير الحرب؛ لأنَّ الجهاد-وفق تحليل الكاتب-يقتضي أخذ أمر من المستبصرين من أصحاب القرار؛ لتفادي التنكيل بأبرياء من المسالمين، والنساء، والأطفال. يرى كول أنَّ سليم الثالث “بإعلانه حربًا دفاعيَّة، وكأنَّما قال أنَّ محاربة الفرنسيِّين أصبحت واجبًا فرديًّا، ومن ثمَّ رخَّص خوض المصريِّين في حرب عصابات ضدَّهم؛ ولم يكن هناك أخطر من ذلك على الفرنسيِّين. لعب سليم الثالث بورقتي الشريعة والقوانين الدوليَّة معًا، من خلال إثارة الحماسة الجهاديَّة، تزامنًا مع اللعب على وتر الأعراف الدوليَّة لأداء الدول” (ص157). وتعاونت القوَّات البحريَّة العثمانيَّة والروسيَّة لإنهاء وجود فرنسا في جُزُر البحر الأيوني وفي البحر الأدرياتيكي، بينما اقتربت سريَّة عثمانيَّة إنجليزيَّة مشتركة من سواحل الشام ومصر.

تابعنا في فيسبوك


أُصدر منشور يحمل توقيع الصدر الأعظم يوسف ضياء باشا، يشير إلى معرفة السلطان سليم الثالث بالاحتلال الفرنسي لمصر، ويكذِّب ادِّعاء قائد الحملة بأنَّه موفد إلى مصر لتأديب المماليك، ويكشف زيف المنشورات الموزَّعة باسم السلطنة كذبًا، معلنًا أنَّ كذب ادعاءات الفرنسيِّين كُشف من خلال اعتراض رسائلهم الموجَّهة إلى بلدهم، وأنَّ هدفهم الحقيقي لم يكن سوى احتلال مصر والشام وإيران-وهنا يعلِّق الكاتب بالإشارة إلى ما أشيع عن نيَّة بونابرت احتلال إيران، والتوغُّل منها شرقًا إلى أفغانستان، ثمَّ إلى دلهي؛ بهدف الهجوم على البريطانيِّين في الهند. على ذلك، أمر الصدر الأعظم الجماهير المصريَّة بالتصدِّي للغزو الفرنسي، وإلَّا سُلبت أموالهم، وسُبيت نساؤهم وأطفالهم.
يذكر الكاتب موقف مشايخ الأزهر من منشور السلطان العثماني، مشيرًا إلى ذهاب محاولات بونابرت استقطابهم عرض الحائط، وواصفًا إيَّاهم بالنفاق والتلوُّن حسب الظروف. أبرز كول موقف الشيخ عبد الله الشرقاوي، الذي عيَّنه بونابرت رئيسًا لديوان القاهرة، والذي تناوَب على إهانته وتزكيته، وكذلك على رشوته وازدرائه، مستشهدًا بكتاب ألَّفه الشرقاوي بعنوان تحفة الناظرين فيمن ولي مصر من الولاة والسلاطين، كشف فيه عن رأيه في الحملة الفرنسيَّة بعبارته “حقيقة الفرنسيِّين الذين جاؤوا إلى مصر أنَّهم فلاسفة تدفعهم المادَّة والشهوات”. يضيف الشرقاوي في كتابه أنَّ أعضاء الحملة ادَّعوا الاعتقاد في وحدانيَّة الرب، لكنَّ اعتقادهم قائم على الجدال، وليس الإيمان، كما أنَّ عقيدتهم لا تشتمل على الإيمان بالبعث، ولا الحياة الآخرة، ولا بإرسال الأنبياء، ولا بالوحي الإلهي. يعلِّق كول على رأي الشرقاوي في عقيدة أعضاء الحملة الفرنسيَّة، والذي يجده صحيحًا، ولكن من منظور متحيِّز لأهل بلاده، على حساب أيِّ وافد. يضيف كول أنَّ المفكِّرين العرب خلال القرون الوسطى شنُّوا حربًا ضروسًا على العقلانيَّة، وبالذات العقلانيَّة الإغريقيَّة، برغم اعتناق المفكِّرين خلال فترة الدولة العباسيَّة-من القرن الثامن إلى الثالث عشر للميلاد-العديد من المنجزات الفلسفيَّة والعلميَّة الغربيَّة. يُذكر أنَّ دراسة الفلسفة كانت من بين الأمور الجدليَّة في الأزهر في ذلك الحين، كما كان هناك انقسام بين الطلاب بشأن تدريس العلوم الفرنسيَّة؛ والمثير للانتباه وجود علاقة بين رفض تدريس تلك العلوم الموقف المتَّخذ من دراسة الفلسفة اليونانيَّة.
تضاعف الشروع بالنفور من الحملة الفرنسيَّة بعد قرار الجنرال كليبر، قائد الحملة في الإسكندريَّة، إعدام السيِّد محمَّد كريِّم، المحافظ السابق للمدينة؛ لما كان له من شعبيَّة لدى جماهير الشعب، ولانحداره من نسل النبي مُحمَّد. كانت قرار إعدام كريِّم، بتصديق بونابرت، بتُهمة التخابر لصالح المماليك المعادين للفرنسيِّين في الإسكندريَّة. ونُفِّذ الإعدام في ميدان القلعة، وحُملت رأس كُريِّم في جولة في شوارع القاهرة؛ للافتخار بقتله، وتحذير من يتَّبع نهجه في التآمر على الحملة. علاوة على ذلك، صُودرت أموال كُريِّم لصالح الجمهوريَّة الديموقراطيَّة، التي أسستها الحملة في مصر. وازدادت الجماهير سخطًا بعد استجابة بعض نساء مصر إلى دعوة التحرُّر الفرنسيَّة، وخلعهن الحجاب، بل ومصاحبتهن جنود الحملة؛ ويعلِّق الكاتب على ذلك، معتقدًا أنَّ غضب الرجال نُبع من شعورهم بالتهديد من إمكانيَّة تسلُّط النساء لاحقًا ومطالبتهنَّ بالمساواة (ص188).
كانت الحملة الفرنسيَّة على مصر مثمرةً بالنسبة إلى الغرب في كونها تجربة تعلَّموا منها كيفيَّة اختراق المجتمع المصري، وتطويعه بحسب معاييرهم. ما حدث هو دراسة عميقة لشتَّى أحوال مصر الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة، استخدمها الغرب في حملة الغزو الفكري، التي انطلقت منذ أواخر القرن التاسع عشر. وما يؤيَّد هذا الرأي أنَّ المستشرق الأمريكي، فلسطيني الأصل، إدوارد سعيد، قد اعتبر تلك الحملة “في صميم النقاش العلمي بشأن الإمبرياليَّة وطرق معرفة العالم في فترة ما بعد الاستعمار. فقد صوَّر الغزو على أنَّه سعي أوروبا وراء العلم الشامل والسيطرة الكاملة على المجتمع المشرقي، على أنَّه الخطيئة الأولى في العلاقة الحديثة بين المعرفة والقوَّة الغربيَّة المهيمنة”، كما ينقل كول (ص246). وبرغم ما ارتبط بالحملة الفرنسيَّة من إيجابيَّات على المستويين العلمي والثقافي، فقد تعرَّض سعي السلطات المصريَّة والفرنسيَّة الاحتفال بمرور مئتي عام على انطلاق الحملة، عام 1998 ميلاديًّا، لانتقادات شعبيَّة واسعة، أجبرت الجانب المصري على إلغاء الجزء الخاص بمصر في ذلك الاحتفال.


يرى الكاتب في الحملة الفرنسيَّة “أولى التجارب الحديثة لدمج أحد مجتمعات الشرق الأدنى في إمبراطوريَّة أوروبيَّة، لكنَّها لم تكن الأخيرة. ما نُطلق عليه اليوم الشرق الأوسط ليس كتلة من الدول القوميَّة، بل مجموعة من التفاعلات المعقَّدة مع القوى العالميَّة المهيمنة…لم ينتهِ الاستعمار الأوروبي لأنَّ هذا ما أراده الرئيس الفرنسي شارل ديجول؛ انتهى لأنَّ السياسيِّين والعامَّة في الشرق الأوسط لم يعودوا يريدون التعاون معه، ولأنَّهم اكتسبوا وسائل التصدي له (من خلال التمدُّن، والتصنيع، والتعليم، وتحسين التعليم ووسائل الاتصال، وتعظيم السعة التنظيميَّة من خلال تأسيس أحزاب سياسيَّة، وإدخال مزيد من التقنيات المتقدِّمة، بما في ذلك التقنيات العسكريَّة” (ص246-247). آذنت نهاية الاستعمار في المشرق الإسلامي في خمسينات وستِّينات القرن الماضي ببداية هيمنة اقتصاديَّة لمنطقة شمال الأطلسي، أخذت شكل الهيمنة الاقتصاديَّة، وتدخُّلات عسكريَّة مستهدفة؛ كما آذنت بموجة غير مسبوقة من الهجرات إلى أوروبا الغربيَّة والولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، أجبرت الغرب على إعادة تشكيل سياسته تجاه الشرق الأوسط، وسياساته الداخليَّة-فيما يتعلَّق بكيفيَّة التعامل مع المسلمين هناك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى