بحوث ودراسات

الحملة الفرنسيَّة على مصر والشَّام: تجربة فاشلة لنشر الحداثة أم لفرْضها بالقوَّة؟ 1من 8

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

يتناول هذا القسم ثلاثة أراء متباينة عن الحملة الفرنسيَّة (1798-1801 ميلاديًّا)، ما بين اعتبارها محاولة لإحياء الحضارة المصريَّة القديمة، المليئة بالإنجازات الفكريَّة والماديَّة، ودمجها في الحضارة الغربيَّة الحديثة، واعتبارها احتلالًا استهدف تأسيس نظام سياسي واجتماعي على النسق الفرنسي في مصر والشام، لكنَّه فشل بسبب تحالُف الإمبراطوريَّتين، العثمانيَّة والبريطانيَّة، واعتبارها معركة نضال بذل فيها الشعب المصري الروح والدم في سبيل الدفاع عن أرضه وعرضه.

لماذا امتنعت “مصر نابليون” عن إكمال حُلم التحديث والتمدُّن؟

برغم كثرة المؤلَّفات التي تناولت الحملة الفرنسيَّة على مصر، يعتبر الكاتب الأمريكي جوان كول أنَّ كتابه Napoleon’s Egypt: Invading the Middle East-مصر نابليون: غزو الشرق الأوسط (2007) “أوَّل تناوُل بالإنجليزيَّة لمتخصِّص في دراسات الشرق الأوسط تُقرأ فيه المصادر الفرنسيَّة من خلال عدسة الحقائق المصريَّة” (صix). يتعرَّض الكتاب أكثر من غيره لمعاناة الفرنسيِّين في مصر، وكذلك السياق الثقافي والمؤسسي لمقاومة الاحتلال الفرنسي في الشرق الأوسط، بخلفيَّة اجتمع فيها التراث العثماني والمصري، وقبلهما الإسلامي. لا يبني الكاتب فرضيَّته على أساس وجود صراع حضاري بين فرنسا والشرق الأوسط، إنَّما على اعتبار أنَّ لحوض البحر المتوسِّط حضارة واحدة منذ أمد. يتناول الكتاب قصَّة غزو نابليون للشرق الأوسط حتَّى عشيَّة إبحاره إلى سوريا؛ لأنَّ سياق الحديث عن حملته هناك مختلف.

يشير الكاتب إلى وجود مفارقتين تاريخيَّتين في عنوان الكتاب، الأولى هي تعظيم نابليون، وكأنَّما كان في زمن الغزو إمبراطور فرنسا الذي يضمُّ مصر إلى أراضيه؛ ويرجع سبب هذا التقديم إلى طريقة تأريخ الحملة الفرنسيَّة بعد سنوات من الحملة، ووفق ما كتبه عنها نابليون بعد أن صار إمبراطورًا. أمَّا المفارقة الثانية، فهي إشارته إلى العالم الإسلامي العربي بـ “الشرق الأوسط”، وليس “المشرق”؛ والسبب هو أنَّ كلمة “المشرق” قد لا يألفها القارئ المعاصر. استند الكاتب في إعداد مؤلَّفه إلى مصادر تاريخيَّة متنوِّعة، من بينها كتابات الفرنسيِّين فرنسوا برنوي، وجوزيف-ماري مواريه، وتشارل أنطوان موراند؛ والمصريِّين عزَّت حسن الدارندلي، وعبد الله الشرقاوي، إلى جانب ترجمة تأريخ الجبرتي للحملة في ترجمتها إلى الإنجليزيَّة. وقد زار الكاتب كذلك المكتبة الوطنيَّة الفرنسيَّة في رحلة علميَّة موَّلتها جامعة متشجن للحصول على وثائق استلزمتها الدراسة.

يعتقد كول في هذه الدراسة أنَّ تصوُّر الفرنسيِّين للمصريِّين اعتمد في المرتبة الأولى على مفاهيم الثورة الفرنسيَّة وأيديولوجيَّة الجمهوريَّة الفرنسيَّة الناشئة حينها. يعتقد كول أنَّ بونابرت وأعضاء حملته رأوا مصر تمرُّ بمرحلة ما قبل الثورة؛ فالمماليك كانوا يمثِّلون النظام القديم، المفروض على الشعب بلا انتخاب. وبرغم فشل الحملة في تحقيق هدفها الأساسي في رأيه، دفع الشعب على المطالبة بحريَّته، فقد أرست قواعد الديموقراطيَّة، التي أشعلت الحماسة في نفوس دعاة التحديث من أبناء مصر لكي ينهضوا ببلادهم على النسق الأوروبي. كان كول منصفًا بما يكفي، بأن قال عام 1997 ميلاديًّا، خلال مؤتمر في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، “على مدار قرنين، أطلق عليه حملة نابليون على مصر، وهذا يكفي. لقد كان غزوًا”.

يبدأ الكاتب بالتعريف بنابليون، وهو مواطن من جزيرة كورسيكا، الواقعة على البحر المتوسِّط بالقرب من فرنسا، أُوفد إلى الأكاديميَّة العسكريَّة الملكيَّة الفرنسيَّة لتلقِّي تعليمًا عسكريًّا، فأثبت بتفوُّقه في الرياضيَّات ونشر المدفعيَّة، ثمَّ تجلَّت براعته العسكريَّة لاحقًا؛ فترقَّى في المناصب في مرحلة شائكة في تاريخ فرنسا الحديث، مرحلة الثورة الفرنسيَّة وما تلاها. أثيرت العديد من الزعامات الملكيَّة الأوروبيَّة ضدَّ فرنسا بعد ثورتها، التي اندلعت عام 1789 ميلاديًّا، وتطوَّرت الأحداث إلى أن أُعدم ملكا فرنسا، لويس السادس عشر وماري أنطوانيت. انتفضت بريطانيا ضدَّ فرنسا، وعملت على إعاقة سُبُل سيطرة الأخيرة على موانئ في بلدان استعمرتها في بقاع متفرِّقة من العالم. أرادت الجمهوريَّة الفرنسيَّة الانتقام من بريطانيا بعد مؤامراتها على الحريَّة، التي تمخَّضت عنها الثورة الفرنسيَّة، واختارت قطع سبل وصول بريطانيا إلى مستعمراتها في الهند.

تكوَّنت لجنة العلوم والآداب المصاحبة للحملة العسكريَّة من 151 فردًا، 84 منهم كانوا من أصحاب الخبرات في المجال التقني، و10 من الأطباء؛ وكان هذا العدد في مجموعه أكبر عدد من الخبراء صاحَب حملة عسكريَّة. تجدر الإشارة إلى أنَّ الحملة المنطلقة من ميناء تولون تكوَّنت من 20 ألف جندي، معهم آلاف البحَّارة. غير أنَّ الحملة بعد وصولها إلى كورسيكا-مسقط رأس نابليون-في مايو من عام 1798 ميلاديًّا، ثم انطلاقها من جديدة إلى المشرق، وصل عدد أعضائها إلى 36 ألفًا: 276 ضابطًا، و28 ألف من المشاة، و2800 من الفرسان، و2000 من جنود المدفعيَّة، و1157 من مهندسًا عسكريًّا، و900 من الأطباء والصيادلة والممرضين والعلماء والأدباء والكتَّاب.

كان نابليون على علم بولاء المماليك، حُكَّام مصر بتفويض من السلطنة العثمانيَّة، لبريطانيا، وبتعاونهم معهم لخدمة مصلحة بريطانيا التجاريَّة، على حساب مصلحة فرنسا. وبما أنَّ حملته كان من أهدافها إضعاف النفوذ البريطاني في المشرق، فقد شدَّد على تأثيرها على تلك المنطقة، حضاريًّا وتجاريًّا. وحرص نابليون على تحذير أصحاب الفكر الديني الحرِّ، والملحدين، والربوبيِّين والكاثوليك من أعضاء حملته، من الإساءة إلى الإسلام، أسوةً بالمسلمين، الذين تعايشوا مع أصحاب الديانات الأخرى في أوروبا وفي بلادهم؛ وأسوةً بالرومان وقت استعمارهم المشرق الإسلامي.

هناك اعتقاد بأنَّ نابليون بدأ يخطِّط لحملته على مصر والشام منذ صيف عام 1797 ميلاديًّا، تأثُّرًا بخطاب للسياسي والدبلوماسي والقائد العسكري الفرنسي شارل موريس تاليران ألقاه في المعهد الوطني في فرنسا، وذكر فيه أنَّ الجمهوريَّة الفرنسيَّة كانت تحتاج إلى مستعمرات كي تزدهر. زرع تاليران هذا المطلب في الروح القوميَّة للشعب الفرنسي بعد ثورته، اعتقادًا منه بأنَّ أيام الرقِّ صارت معدودة، وأنَّ الحل الوحيد لتعويض المستعمرات التي خسرتها فرنسا قبل عقود من الزمن هو تأسيس مستعمرات جديدة تحمل نفس الفكر وأسلوب الحياة الفرنسيِّين. أثار خطاب تاليران ذلك حفيظة بعض رافضي الاستعمار من فلاسفة عصر التنوير، مما انتقدوا ظلم الشعوب الأخرى، ونادوا بالمساواة والحريَّة. غير أنَّ تاليران لم يتراجع عن موقفه، زاعمًا قدرة الحملات الغربيَّة على تأسيس “مستعمرات ما بعد الرقِّ”، ويقصد بذلك استبدال إجبار سكَّان العالم من غير الغربيِّين لمصلحة الغرب، ولكن بدون استخدام العنف؛ ولا يتسنَّى حدوث ذلك سوى من خلال إعادة تشكيل هويَّة غير الغربيِّين الفكريَّة بما يتَّفق مع نظام الحياة في الغرب (ص13). أثار خطاب تاليران، المشار إليه في مقالٍ له بعنوان ” Essai sur les avantages à retirer de colonies nouvelles dans les circonstances présentes -مقال عن مزايا استعادة المستعمرات الجديدة في ظلِّ الظروف الحالية“، هذا اهتمام الكثير من قادة الجيش، ممن أغراهم إعادة النشاط الاستعماري الفرنسي بتحقيق طموحات سياسيَّة واقتصاديَّة هائلة، وكان نابليون بونابرت من بين هؤلاء.

في غمرة نجاح حملته على إيطاليا، تواصل بونابرت مع تاليران بشأن إمكانيَّة وضع خطَّة لفرض بعض السيطرة على حوض البحر المتوسِّط، بما يضرُّ بمصالح بريطانيا-أكبر منافس من القوى الاستعماريَّة. ويذكر تشارل-رو فرانسوا في كتابه d’Égypte Les Origines de l’expédition-أصول الحملة الفرنسيَّة على مصر (1910) ما ورد في خطاب لنابليون بتاريخ 16 أغسطس من عام 1797 ميلاديًّا عن هدفه الأساسي من حملته على مصر “لم يبقَ وقتٌ طويلٌ حتَّى نشعر أنَّ، في سبيل القضاء على إنجلترا، لا بدَّ أن تسولي على مصر. تجبرنا الإمبراطوريَّة العثمانيَّة، الآخذة في الزوال تدريجيًّا، على التفكير بتروٍّ بشأن طرق حماية تجارتنا في الشام”. خشي بونابرت وتاليران من إمكانيَّة استيلاء بريطانيا وروسيا على أراضي الإمبراطوريَّة العثمانيَّة، مما شكَّل تهديدًا لمستقبل مصالح فرنسا في المشرق.

لن ننسى أنَّ نابليون قد نال مكانته العسكريَّة المرموقة من خلال حملاته على إيطاليا في الفترة ما بين عامي 1796 و1797 ميلاديًّا، حيث نجحت تلك الحملات في تأسيس جمهوريَّات تابعة، وانطبق الأمر ذاته على سويسرا، التي أُخضعت إلى سُلطان فرنسا مطلع عام 1798، وأُسست فيها جمهوريَّة ديموقراطيَّة. شجَّع نجاح التجربة الفرنسيَّة في أوروبا بتأسيس جمهوريَّات ديموقراطيَّة، يُطلق عليها directorial republics، تقوم على مشاركة السلطة بين إدارة حاكمة، يرأسها رئيس جمهوريَّة، أو رئيس وزراء، بونابرت على الاعتقاد في إمكانيَّة نجاح التجربة ذاتها في المشرق الإسلامي. لم يخطر على ذهن القائد العسكري المظفَّر، ابن الثامنة والعشرين، أنَّ نجاح تجربته في أوروبا يرجع إلى اشتراك مواطني الجمهوريَّات التي أسَّسها مع بلاده في الثقافة والعقيدة الدينيَّة؛ فوجد في تلك التجربة “نموذجًا للبلدان الأخرى، يجب تطبيقه، ولو بالقوَّة” (ص19). ويعترف كول أنَّ سكَّان تلك الجمهوريَّات الجديدة لم يتمتَّعوا بقدر كبير من الحريَّة الشخصيَّة، وإن لم يخفِ حصولهم على قسط غير مسبوق من الديموقراطيَّة، وحريَّة الصحاف، ولكن على حساب سلب ثرواتهم وتحفهم الفنيَّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى