اقتصاد

أحكام التعامل ب”الفوركس” 

د. عطية عدلان

مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول
عرض مقالات الكاتب

الفوركس (FOREX) هو عبارة عن سوق عالمية ألكترونية معاصرة لتبادل العملات بيعاً وشراءً، والذي يتحكم في هذه السوق هو البنوك المركزية للدول المتقدمة، ثم البنوك الاستثمارية، ثم السماسرة والعملاء المتداولين، ودخول السوق يكون من خلال الوسيط ( السمسار)، وكل سمسار له مقر وموقع وحساب ألكتروني، وله منصة للتداول (Platform)، وثمَّ نوعان من الوسطاء، الأول: شركات سمسرة رئيسية لديها مكاتب تعمل في الأسواق العالمية، والثاني: الوسطاء المحليون في البلدان المختلفة الذين لديهم حسابات مع شركات رئيسية، وقد تقوم بعض البنوك بهذه العملية من خلال محافظها الاستثمارية الخاصة بها. 

طريقة التعامل بالفوركس 

يقوم العميل بإيداع مبلغ لدى الشركة الوسيطة بمثابة تأمين؛ لضمان حقها إذا خسر العميل في الصفقة، بينما التعامل يكون بمبلغ كبير، قد يصل إلى حده الأقصى وهو مائة ضعف التأمين، فإذا وضع عشرة آلاف دولار يكون له الحق في التعامل بمليون دولار، هذا المبلغ المقتطع من حساب العميل للدخول في الصفقة لتأمين العملية يسمى المارجن (Margin)، أما ما يوضع فوق هذا المبلغ المقتطع من وديعة العميل فيسمى (الرافعة) وهو ائتمان (قرض). 

 ولا تضاف الفوائد إلا إذا تم تبييت الرافعة، وذلك إذا لم تحسم الصفقة في نفس اليوم، بحد أقصى الساعة 12 مساء بتوقيت جرينتش، وتسمى (رسوم التبييت)، والمفترض أن يقوم العميل عبر آلية ألكترونية سريعة بالبيع والشراء في العملات، ويتوقف الربح على حسن متابعته للسوق وما وراءها من عوامل سياسية واقتصادية مؤثرة، وعلى حسن التوقع وكثرة التمرس في هذه المعاملة، وقد يحدث في اليوم الواحد بل في الساعة الواحدة عمليات كثيرة من العميل، غير أنّ المعروف أن التسوية الكلية التي يتم بموجبها القبض والتصرف لا تتم إلا بعد يومين أو أكثر، حسب نظام يسمى: السبوت (spot).

وفي حالة وصول الخسارة إلى حد الهامش المتاح، فإن الشركة تقوم بإرسال ما يسمى بنداء الهامش (Margin Call)، وهو إخطار المتاجر بأن الخسارة قد بلغت مرحلة الخطر وأنه على وشك خسارة رأس ماله كاملا بالإضافة إلى مبلغ القرض الممنوح له من قبل الشركة، فيقوم إما ببيع ما لديه من مبلغ العملة وإغلاق الصفقة أو زيادة مبلغ الهامش بإيداع المزيد من المال لدى الشركة، وإن لم يستجب فإن الشركة تقوم بتنفيذ عملية إغلاق الصفقة وتصفية مركزه، حتى لا تسري الخسارة إلى المبلغ الذي قامت بإعطائه المتاجر دون الرجوع إليه ورضاه حول هذه المسألة.

نتائج التعامل بالفوركس 

من المعلوم أنَّ العميل قد يربح أو يخسر بسرعة كبيرة مبالغ طائلة، وبرغم أنَّ هناك من يتعامل بحذر ويعتمد على خبرة وتجربة إلا أنَّ الحظ كثيراً ما يلعب دوره فيرفع قوما ويخفض آخرين في زمن قياسيّ، أمَّا السماسرة والوسطاء فيربحون دائماً ولا يتعرضون لأدنى مخاطرة، إذ إنّ الغالب أن العميل إن خسر فلن يتجاوز بخسارته حدود المبلغ المودع تأميناً لدى الوسيط، وليس ثمَّ استثمار ولا تنمية ولا إنتاج، إنَّما هو فقط تداول صرفي أغلبه يقع على أرقام وديون.

تكييف حركات المعاملة بالفوركس

التعامل عبر الفوركس يمر بمراحل عديدة، أول هذه المراحل مرحلة تحريك الرافعة، وهي التي يطلب فيها العميلُ الائتمانَ الذي يريده فوق وديعته، وهذه تكييفها أنَّها عملية قرض بفائدة؛ بسبب وجود شرط رسوم التبييت، وأمَّا البيع والشراء بطريق الصفقات، فكل صفقة عبارة عن عملية (صرف) لا يتحقق فيها التقابض الفوريّ؛ لأنَّ التسوية تتم في مدة لا تقل عن يومين، كما يضاف لذلك أنَّ الوسيط يشترط على العميل لكي يوفر له الرافعة أن يتم التعامل من خلاله حصرًا، وهذه صورة من المنفعة التي جرها القرض، كما أنَّ التعامل بهذه الطريقة يكون فيه توسع في الديون، وانصراف عن الاستثمار الحقيقيّ؛ مما قد يؤدي لأزمات اقتصادية مفاجئة، يضاف لذلك أنَّ المعاملة فيها صورة من صور المقامرة؛ بسبب المجازفة والمضاربة على الحظ غارماً أو غانماً، فالعملية ليست سوى (مقامرة) على العملات، أمذا مقصود الاتجار فهو خافت وضعيف بجانب مقصود المقامرة.

الأحكام الشرعية للتعامل بالفوركس

ولكي نحكم على هذا النوع من المعاملة لا بدّ أن نستحضر الأحكام الشرعية الثابتة، ثم نسقطها على واقع المعاملة هذه، ذلك الواقع الذي سبق تصويره وتكييفه، فأمَّا عن الأحكام فإنَّ أول ما يعتري هذه المعاملة من أحكام أنَّها تشتمل على الربا الصريح المتمثل في رسوم التبييت؛ حيث إنَّ الهامش الذي يوفره الوسيط للعميل يكون قرضاً؛ فإذا وضع عليه زيادة مقابل مرور أكثر من يوم عليه فإنها زيادة مقابل التأخير، وهي عين الربا، الذي عرفه العلماء بأنَّه “زيادة مشروطة في دين لقاء الأجل” ولا عبرة بالتسمية إذ العبرة بحقائق الأمور لا بأسمائها.

ومما تشتمل عليه هذه المعاملة أيضاً – وهو يدخل في باب الربا الصريح ربا الجاهلية – أنَّ الهامش هذا أو الرافعة كما يسمونه يُعَدُّ قرضاً جر منفعة؛ فهو ربا بنصِّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كل قرض جرَّ منفعة فهو ربا” وبإجماع العلماء، وإذا كان العلماء قد اختلفوا في تصحيح الحديث فإنهم لم يختلفوا في الحكم بل نقلوا فيه الإجماع، وسبب كونه قرضا جرّ نفعاً أنّ الوسيط يعطي العميل الهامش في مقابل أن يتعامل معه حصريا، وهذه منفعة مالية مقابلة بالقرض، وهو حرام بلا خلاف.

وكما أنّ المعاملة يكتنفها ربا الديون المحرم بنص القرآن كذلك يكتنفها ربا البيوع المحرم بصريح السنة، حيث يتم التعامل في العملات (النقد) دون تحقق شرط التقابض الفعليّ الفوريّ؛ إذ لا يتم إلا بعد مدة قد تصل إلى يومين أو أكثر، وهذا هو ربا “النَّساء” أي التأخير والتأجيل، الذي يقع في الصرف، وفي بيع الأموال الربوية المتفقة في العلة، وهو منهي عنه بنص حديث عبادة بن الصامت وأحاديث أخرى وردت عن أبي سعيد وأبي هريرة  وعمر بن الخطاب وغيرهم، فاجتمع في المعاملة النوعان من الربا: ربا الديون وربا البيوع، فهي حرام لأجل ذلك.

 في معاملة المتاجرة بالهامش أن الشركة تشترط على المستثمر عدم قبض المبلغ قبضا حقيقيا، ولا حتى حكميا بالصورة المعتبرة؛ إذ إن المبلغ في السوق يتم تسجيله في الحساب المصرفي للشركة، ويتم عرضه على شاشة التداول، ليس قبضا فعليا وإنما هو تسجيل بأن المستثمر قد اشترى كمية معينة من العملة، ويجب عليه بيعها ولا يحق له التصرف فيها بالسحب وغيره، وإنما فقط بالمتاجرة به وبيعه والرجوع إلى أصل الحساب، فبناء على هذا لم يتحقق القبض لا حكميا ولا فعليا، وبذلك يكون المستثمر في حال تنفيذه لأمر البيع كأنه باع ما لا يملكه أو ما لا يقبضه وهذا منهيّ عنه في أحاديث كثيرة.

هذا بالإضافة إلى محاذير أخرى غاية في الخطورة، منها أنَّ البيع والشراء ليس مقصودا وإنما المقصود هو المضاربة على العملات، وعندما يجتمع هذا المقصد الذي يسيطر على روح المعاملة مع كونها غالبا لا يقع فيها التقابض الفعلي عقب كل صفقة؛ فهذا يلحقها بالمقامرة التي يجازف فيها الأطراف ويلعب الحظ دورا كبيرا في إخراج كل طرف من هذه الأطراف غانما أو غارماً، ومنها أنَّ التوسع في الديون الذي تحدثه هذه الأسواق يؤدي بمرور الزمن وتراكم المديونيات – مع كونها جميعا في الفضاء بلا رصيد – إلى صدمات اقتصادية لا يتضرر منها إلا الضعيف من الأفراد ومن المجتمعات والدول كذلك.

لذلك كله فإنَّ الحكم على هذه المعاملة بالتحريم حكم لا شك فيه ولا ارتياب، ويلحق بها في الحرمة – بدرجة أقل – ما يسمى بالفوركس الإسلامي، والفرق بينه وبين السابق أنَّه لا توجد فيه رسوم التبييت، ولكن توجد فيه باقي المفاسد التي ذكرناها آنفا؛ وعليه فإنّ سائر المخالفات الشرعية التي تكتنف المعاملة السابقة تتوفر في هذه المعاملة عدا المحذور الأول المتعلق برسوم التبييت، فهي حرام كذلك، وإن كانت في درجة الحرمة لا ترقى لمستوى الفوركس الأصليّ. والله تعالى أعلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى