ثقافة وأدب

قالت العرب: ليس الخَبَرُ كالعِيَان

نصير محمد المفرجي

إعلامي وباحث في اللغة العربية.
عرض مقالات الكاتب

فقد سُمع عن العرب قولهم: ليس الخَبَر كالعِيَان و ليس المُخْبر كالمُعايِن و ليس الخَبَر كالمُعايِنة. وقد رواه أبو عبيد في معرفة الأخبار وصحتها على أنه حديث، وقال الزمخشري يُروى “المخبر كالمعاين”. وروى المفضل بن سلمة صاحب الفاخر عن الميداني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أول من قال ذلك.

وهو أسلوب جرى مجرى المثل.  قال الإمام أحمد حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ” وفي رواية أخرى عند أحمد أيضاً عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَ مُوسَى بِمَا صَنَعَ قَوْمُهُ فِي الْعِجْلِ فَلَمْ يُلْقِ الألْوَاحَ فَلَمَّا عَايَنَ مَا صَنَعُوا أَلْقَى الألْوَاحَ فَانْكَسَرَتْ”.

ولقد تلقّى الأنبياء تعليمهم وفق هذا النهج الربّاني. قال تعالى “وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” (سورة البقرة، الآية: 260).

 وهذا فوق ما سمعه إبراهيم عليه السلام من الخبر، لكنه يسأل عن حقيقة الخبر، ليس تكذيبًا ولا تشكيكًا، ولكنْ ترقيًّا من مرتبة السماع إلى مرتبة المشاهدة (قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي).

هذا والحوار بين إبراهيم عليه السلام، وربه جل في علاه، إذ انعدمت واستحالت كل الاحتمالات الداخلة على الخبر، وإنما جاء هذا طلبًا لليقين فيه.

وقد أفاد الحديث النبوي المذكور آنفًا أنه ليس حال الإنسان عند معاينة الشيء كحاله عند الخبر عنه في السكون والحركة وقوة التأثر، قال ابن القيّم –رحمه الله-((  فلما قدم موسى عليه السلام ورأى ما أصاب قومه من الفتنة اشتد غضبه وألقى الألواح عن رأسه وفيها كلام الله الذي كتبه له، وأخذ برأس أخيه ولحيته، ولم يعتب الله عليه في ذلك لأنه حمله عليه الغضب لله، وكان الله عز وجل قد أعلمه بفتنة قومه، ولكن لمّا رأى الحال مشاهدة حدث له غضب آخر فإنه ليس الخبر كالمعاينة )).

إن هذا المعنى ليس محصورًا في هذه الواقعة؛ بل إن إيرادها تنبيه إلى الفرق المحسوس، بين الخبر والمعاينة فحسب. ويبقى متعلَّق الحديث مطلقا على أصله اللغوي. والمقصود بالخبر، هو ما يبلغ المرءَ عن طريق السمع، فيكون في سعة من تصوره بما لا يتصادم مع إدراكه أو أغراضه. والخبر، في مستطاع الناس إهماله في النهاية إن لم يعجبهم سماعه، ولو إلى حين. أما المعاينة، والتي هي المشاهدة عموما، فإن المرء ليس في مقدوره تجاوزها، بغض النظر عن رأيه فيما يشاهد؛ لذلك هو يتأثر بالمشهود بما يناسبه. فإن كان سببا لخوف خاف، وإن كان سببا لفرح فرح، وإن كان سببا للغضب (كما هو حال موسى عليه السلام في الحديث) غضب.

وقال الكلاباذي: الخبر خبران صادق لا يجوز عليه الخطأ، وهو خبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومحتمل وهو ما عداه فإن حمل الخبر على الأول فمعناه ليس المعاينة كالخبر في القوة، أي الخبر أقوى وآكد وأبعد عن الشكوك إذا كان خبرًا لصادق والمعاينة قد تخطئ فقد يرى الإنسان الشيء على خلاف ما هو عليه كما في قصة موسى والسحرة، وإن حمل على الثاني فمعناه ليس المعاينة كالخبر بل هي أقوى وآكد، لأن المخبر لا يطمئن قلبه وتزول عنه الشكوك في خبر من يجوز السهو عليه والغلط.

والمراد بالمثل “ليس الخَبَرُ كالعِيَان” أو ” ليس الخَبَر كالمُعايِنة” أن المعنى قد ينتقل ويشيع وهو خلاف الواقع، والمعاينة أصح وأوْكد، ولذلك قال عنترة:

أَنـا الـعَبدُ الَّذي خُبِّرتَ عَنهُ *** وَقَـد عـايَنْتَني فَدَعِ السَماعا

وقديمًا قالت العرب “لا تطلب أثرًا بعد عين” ويضرب لمن ترك شيئًا يراه ثم تبع أمره بعد فوت عينه. وأول من قاله مالك العاملي.

قال المتنبي:

خُذْ ما تَراهُ وَدَعْ شَيْئًا سَمِعْتَ بهِ *** في طَلعَةِ البَدرِ ما يُغنيكَ عن زُحَلِ

ومن حِكم العرب أيضًا قول أحدهم:

يَا ابْنَ الكِرَامِ أَلاَ تَدْنُو فَتُبْصِرَ مَا *** قَدْ حَدَّثُوكَ فَمَا رَاءٍ كَمَنْ سَمِعَا

وقد حثّ التنزيل على تمحيص الخبر والمُخبِر بقوله عزّ وجلّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} الحجرات 6.

فلعل النبأ دخله من التغييرات والتحريفات من ناقله ما لم يرد على لسان قائله.


ومن الأخطاء الشائعة في اللغة قول بعضهم: “ليس الخبر كالعَيان” بفتح العين وهذا خطأ، والصحيح بكسر العين “ليس الخبر كالعِيان”.

وكثيرًا ما نسمعهم يقولون: هذا شاهد عَيان – بفتح العين، وهذا غير صحيح، والصواب أن يُقال: هذا شاهد عِيان – بكسر العين – و(العِيان) هو المعاينة والرؤية بالعين، «عاينَه مُعاينةً، وعِيانًا: رآه بعينه، ولقيتُه عِيانًا، ومعاينةً: لم أشُكّ في رؤيتي إياه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى