دين ودنيا

بيعة الرضوان

طريف مشوح

كاتب وباحث سوري
عرض مقالات الكاتب

استقرت نسبياً أمور وأحوال المجتمع في المدينة المنورة خلال السنة السادسة للهجرة، فتحركت نفوس المهاجرين شوقاً لمكة بدروبها وحواريها وكعبتها المشرفة، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه في المنام -ورؤياه حق- أنه يشد الرحال إلى مكة معتمراً هو وأصحابه وأنه يطوف بالبيت العتيق فأخبرهم بما رأى وأمرهم أن يتأهبوا للسفر إلى مكة المكرمة معتمرين ففرحوا بذلك كثيراً وتاقت نفوسهم لتلك الساعة.

تابعنا في فيسبوك


وانطلق الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه زوجته أم سلمة رضي الله عنها قاصدًا مكة لأداء العمرة في غرة ذي القعدة من السنة السادسة، والمسلمون في أكثر من 1400 رجل بسلاح السفر فقط دون سلاح القتال.
واستخلف الرسول عليه الصلاة والسلام على المدينة ابن ام مكتوم.
سمعت قريش يتحرك الرسول والمسلمون معه إلى مكة فتحسبت للأمر وعقدت اجتماعاً عاماً قرروا فيه بإجماعهم دفع المسلمين عن مكة، وعدم السماح لهم بدخولها وصدهم عن البيت الحرام وأرسلت مبعوثين الى الرسول صلى الله عليه وسلم كي يتراجع عن قراره دخول مكة.
وبهدف إفساد المفاوضات قام مجموعة من شباب المشركين بمحاولة لخلق الفتنة مابين الطرفين، إلا أن المسلمين أسروهم جميعاً وسلموهم للرسول الكريم الذي أفرج عنهم إبداء لحسن النية وفي ذلك أنزل الله‏ قوله:‏ ‏{‏وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم ‏}‏ (‏الفتح‏:24).

وبالمقابل وأمام رغبة الرسول عليه الصلاة والسلام بدخول مكة وأداء العمرة مع المسلمين اختار عثمان بن عفان للذهاب رسولاً إلى مكة لبيان هدف المسلمين من الزيارة، والتفاوض مع قريش على دخول المسلمين مكة والطواف حول الكعبة واداء العمرة والعودة إلى المدينة.

ذهب عثمان رضي الله عنه إلى قريش وأبان لهم الأمر ودعاهم إلى الإسلام ولكنهم رفضوا وسمحوا له بالطواف حول الكعبة منفرداً، ولكنه رفض ذلك إلا مع رسول الله.. وإمعاناً منهم في الصد والمجابهة احتجزوا عثمان أسيراً عندهم فلما طالت غيبته رضي الله عنه أشيع أنه قتل.

وصل الخبر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فدعا صحابته رضي الله عنهم وقال: «ﻻ ﻧﺒﺮﺡ ﺣﺘﻰ ﻧﻨﺎﺟﺰ اﻟﻘﻮﻡ» ﺛﻢ ﺩﻋاهم إلى اﻟﺒﻴﻌﺔ، ﻓﺜﺎﺭﻭا ﺇﻟﻴﻪ ﻳﺒﺎﻳﻌﻮﻧﻪ ﻋﻠﻰ ﺃﻻ ﻳﻔﺮﻭا، ﻭﺑﺎﻳﻌﺘﻪ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﻋﻠﻰ اﻟﻤﻮﺕ، وكان أول من بايع النبي عليه الصلاة والسلام الصحابي أبو سنان الأسدي الذي قال للرسول “أبسط يدك أبايعك” فبايعه على نفسه في سبيل الله وبايع بعده المسلمون.

وتمت مبايعة الرسول على الجهاد في سبيل الله إعلاء لكلمة الحق ونصرة للدين وأخذ الصحابة يبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم واحداً عقب الآخر على الموت في سبيل الله وقد قام الرسول عليه الصلاة والسلام بمبايعة نفسه عن عثمان رضي الله عنه الذي كان متغيباً عن البيعة مع إشاعة مقتله حيث أخذ بيد نفسه، وقال (هذه عن عثمان) ولما جاء عثمان رضي الله عنه بايعه ولم يتخلف عن البيعة إلا رجل واحد هو جد بن قيس.

أثنى الله عز وجل على الصحابة ومدحهم وأبدى رضاه عن بيعتهم للرسول فقال في القرآن الكريم (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريبا)-الفتح 18.
وسميت هذه البيعة بيعة الرضوان نتيجة رضا الله عن الصحابة وتصرفهم كما ورد في الآية السابقة.

والبيعة في اللغة هي الصفقة المعقودة في البيع وقد أطلقت على مبايعة الصحابة للرسول الكريم على بذل أنفسهم في سبيل الدعوة إلى توحيد الله عز وجل ونصرة لرسوله صلى الله عليه وسلم وثأرا لعثمان رضي الله عنه ويقابل ذلك رضا الله عنهم والجنة.

والرضوان جاءت من الرضا الذي ورد في الآية السابقة. وفي بيعة الرضوان بايع المسلمون الرسول عليه الصلاة والسلام على عدم التولي عندما ينادي المنادي إلى الجهاد في سبيل الله واضعين نصب أعينهم أما النصر وأما الشهادة.
وأما الشجرة التي تمت البيعة تحتها فقد اندثر مكانها وهناك أكثر من رواية تفسر سبب ذلك..
أظهرت بيعة الرضوان وقوف المسلمين واتحادهم مع بعض نصرة للحق ورفعاً لراية التوحيد ودفعاً لأذى قريش ونياتها السيئة فبان إخلاص المسلمين لبعضهم وقت الشدة حيث كانوا على قلب رجل واحد لإنقاذ عثمان وتقديم أرواحهم حباً لله عز وجل وبيان محبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم كما تعاهدوا على الموت في سبيل الله.
أثنى الله جل جلاله على المبايعين ومدحهم مدحاً عظيمًا عندما أنزل فيهم قوله: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيما) -الفتح 10-

وقد وعد سبحانه وتعالى من أدرك بيعة الرضوان بالجنة، إذ قال: { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم } (التوبة:100) .

كما بشرهم الرسول الكريم أن مصيرهم الجنة وأنهم لا يدخلون النار، عندما قال في الحديث الصحيح الذي أورده أبو داوود (لا يدخل النار احد ممن بايع تحت الشجرة).
وهم خير أهل الارض..أورد البخاري عن جابر بن عبد الله، أنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية (أنتم خير أهل الارض وكنا 1400 ولو كنت أبصر لأريتكم مكان الشجرة -وكان قد كف بصره-).
برزت من حادثة بيعة الرضوان دروس وعبر في منتهى الوضوح والبيان: من أبرز تلك الدروس أنها بينت المقصود من حياة المسلم التي هي لله في جميع الأفعال والأقوال فحياته ومماته وعبادته لله رب العالمين تحقيقاً لقوله تعالى (قل إن صلاتي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) -الأنعام١٦٢- لذلك منّ الله عليهم بالفتح المبين وهو صلح الحديبية الذي قال فيه تعالى (إنا فتحنا لك فتحاً مبينا)-الفتح ١- وهم الذين اختاروا الموت في سبيل الله وأصروا على ألا يتراجعوا مع ضعف تسليحهم..
فهم أرادوا الموت فوهبت لهم الحياة.
كما ذكرت سابقا أدت بيعة الرضوان إلى حدث فارق في التاريخ الإسلامي هو صلح الحديبية والذي أرجو ان يكون له حديث آخر.

مراجع :
سيرة ابن هشام.
الرحيق المختوم- المباركفوري
السيرة النبوية – الدكتور الصلابي.

[

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى