دين ودنيا

القـــــواعـــد الفـقـهـــية ..القاعدة (12) “إعْمَالُ الْكَلَامِ أَوْلَى مِنْ إهْمَالِهِ”

محمد عبد الحي عوينة

كاتب وداعية إسلامي. إندونيسيا.
عرض مقالات الكاتب



هذه القاعدة ذات مكانة عظيمة وفوائد عميمة ذكرها كل من كتب في القواعد أو صنف فيها، ولكن العلماء الذين دونوا القواعد لم يعتبروها من القواعد الكبرى ولم يتوسعوا في الحديث عنها ولم يذكروا في فروعها إلا القليل.
وتظهر أهمية هذه القاعدة عندما نعلم أنها محل اتفاق عند جميع العلماء كما يظهر من تفريعاتهم عليها وتعليلاتها بها، كما تزداد أهميتها عندما نعلم أنها تتعلق بالدرجة الأولى بخطابات الشارع الحكيم، كما تتعلق بالكلام الصادر عن المكلف من حيث كونه يجب صونه عن الإهمال والإلغاء.
ومن هنا كان لهذه القاعدة تأثير كبير في بعض الأبحاث القرآنية التي تتعلق بكلام الله سبحانه وتعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
كما أن لهذه القاعدة تعلقاً كبيراً وتأثيراً واضحاً في بعض المسائل الأصولية التي تتعلق بالخطابات الشرعية. (الوجيز في إيضاح قواعد الفقه ص314)
ومحل هذه القاعدة أن يستوي الإعمال والإهمال بالنسبة إلى الكلام ،أما إذا بعد إعمال اللفظ، صار بالنسبة كاللغز الخفي، فلا يصير راجحاً بل الإهمال مقدم. (القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة 1/ 365)

اقرأ: القواعد الفقهية.. القاعدة (10) الأصل في الكلام الحقيقة

معنى القاعدة:
إعمال الكلام: أي إعطاؤه حكماً مفيداً حسب مقتضاه اللغوي.
وإهمال الكلام: عدم ترتب ثمرة عملية عليه بإلغاء مقتضاه ومضمونه.
والعاقل يصان كلامه عن الإلغاء ما أمكن، بأن ينظر إلى الوجه المقتضي لتصحيح كلامه فيرجح، سواء كان بالحمل على الحقيقة أم المجاز، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أُهْمِلَ.
فإن اللفظ الصادر في مقام التشريع أو التصرف إذا كان حمله على أحد المعاني الممكنة يرتب عليه حكم، وحمله على معنى آخر يقتضيه لا يترتب عليه حكم، فالواجب حمله على المعنى المفيد للحكم، لأن خلافه إهمال وإلغاء.
أما إذا لم يوجد إمكان لحمل الكلام على الحقيقة أو المجاز فيلغى ويهمل. (الوجيز في إيضاح قواعد الفقة الكلية ص315)
إن إعمال الكلام بما يمكن إعماله بحمله على معنى أولى من إهماله، لأن المهمل لغو، وكلام العاقل يصان عنه، فيجب حمله ما أمكن على أقرب وأولى وجه يجعله معمولاً به من حقيقة ممكنة، وإلا فمجاز، طالما يمكن استعماله في معنى يناسبه؛ لأن الكلام الصادر من العاقل يحمل على الحقيقة ما أمكن، فإذا تعذرت يصار إلى المجاز، لتصحيح كلامه إلا إذا تعذر فيلغو.

تابعنا في فيسبوك

أدلة القاعدة:
من أدلتها قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق 18]
وقوله عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَ كُلِّ لِسَانِ قَائِلٍ، فَلْيَتَّقِ اللَّهَ امْرُؤٌ عَلَى مَا يَقُولُ» الجامع لابن وهب ت مصطفى أبو الخير (ص450، رقم334) قال: وَحَدَّثَنِي مَسْلَمَةُ، عَنِ الْعَدَوِيِّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فذكره

تطبيقات القاعدة وفروعها:
1- من حلف لا يأكل من هذه النخلة شيئاً، ثم أكل من ثمرها أو جُمارها أو طلعها أو بسرها أو الدبس الذي يخرج من رطبها حنث بِأَكْلِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَبِثَمَنِهَا إنْ بَاعَهَا، وَاشْتَرَى بِهِ مَأْكُولًا ، لأن النخلة لا يتأتى أكل عينها فحمل على ما يتولد منها. (الأشباه والنظائر لابن نجيم ص114، غمز عيون البصائر1/ 398)

2- إذا لم يوجد إمكان لحمل الكلام على الحقيقة أو المجاز أُلغِيَ، كقول الرجل لزوجته الثابت نسبها من غيره: هذه بنتي فلا تحرم عليه، سواء كانت أكبر منه سناً أو أصغر. لأنه لما تعذر كل من الحقيقة والمجاز وقع لغواً.
ووَجْهُ تعذر الحقيقة استحالة أن تكون ابنته إن كانت أكبر منه سناً، وإن كانت أصغر فإن اشْتِهَارَ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ يَمْنَعُ ثُبُوتَهُ مِنْهُ ، فإقراره في حق نفسه لا يعتبر إقراراً في حق غيره.
وأما تعذر المجاز، وهو إرادة الطلاق المحرم بقوله هذا، فلا يجوز استعارة، هذه بنتي للطلاق الذي هو من حقوق النكاح. (الأشباه والنظائر لابن نجيم ص114، غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر 1/ 399)

3 – لو وقف أحد على أولاده، أو أوصى لأولاده، فيتناول أولاده الصلبية فقط إن كانوا لأنه الحقيقة، فإن لم يكن له أولاد من الصلب تناول أولادهم حملاً عليهم بطريق المجاز، صوناً للفظ عن سقوطه؛ لأن إعمال الكلام أولى من إهماله. (الأشباه والنظائر للسيوطي ص128)

4- لَوْ أَوْصَى بِطَبْلٍ مِنْ طُبُولِهِ وَلَهُ طَبْلُ لَهْوٍ وَطَبْلُ حَرْبٍ صَحَّ وَحُمِلَ عَلَى الْجَائِزِ، أو كَانَ لَهُ زِقَّانِ أَحَدُهُمَا خَمْرٌ وَالْآخَرُ خَلٌّ، فَقَالَ أَوْصَيْت لِزَيْدٍ بِأَحَدِهِمَا يَصِحُّ وَيُحْمَلُ عَلَى الْخَلِّ. (الأشباه والنظائر للسيوطي ص128)

5- لَوْ جَمَعَ بَيْنَ مَنْ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، وَمَنْ لَا يَقَعُ كَالْبَهِيمَةِ، وَالْحَجَرِ ، كما لَوْ جَمَعَ بَيْنَ مَنْكُوحَتِهِ، وَرَجُلٍ، وَقَالَ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا وَلِأَجْنَبِيَّةٍ، وَقَصَدَ الْأَجْنَبِيَّةَ يُقْبَلُ عَلَى الصَّحِيحِ لِكَوْنِ الْأَجْنَبِيَّة مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ قَابِلَةٌ. (الأشباه والنظائر للسيوطي ص128، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص115)

6- لو قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَنْتِ طَالِقٌ، بِحَذْفِ الْفَاءِ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ قَبْلَ الدُّخُولِ. صَوْنًا لِلَّفْظِ عَنْ الْإِهْمَالِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يَقَعُ، لِعَدَمِ صَلَاحِيَّةِ اللَّفْظِ لِلْجَزَاءِ، بِسَبَبِ عَدَمِ الْفَاءِ، فَحُمِلَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ: عَدَم الْوُقُوعِ عَنْ جَمَاعَةٍ، ثُمَّ نَقَلَ عَنْ الْبُوشَنْجِيِّ: أَنَّهُ يُسْأَلُ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت التَّنْجِيزَ، حُكِمَ بِهِ.
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: وَمَا قَالَهُ الْبُوشَنْجِيُّ لَا إشْكَالَ فِيهِ، إلَّا أَنَّهُ يُشْعِرُ بِوُجُوبِ سُؤَالِهِ. (الأشباه والنظائر للسيوطي ص129)

7- لو قَالَ لِزَوْجَتِهِ فِي مِصْرَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي مَكَّةَ فقيل: أَنَّهَا تَطْلُقُ فِي الْحَالِ، وَسَبَبُهُ: أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ فِي بَلَدٍ مُطَلَّقَةٌ فِي بَاقِي الْبِلَادِ.
وقيل: أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ، حَتَّى تَدْخُلَ مَكَّةَ، لإِنْ حُمِلَ الْكَلَامُ عَلَى فَائِدَةٍ أَوْلَى مِنْ إلْغَائِهِ. (الأشباه والنظائر للسيوطي ص128)

8-وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَتِهِ، وَبَيْنَ مَا لَيْسَ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ كَالْبَهِيمَةِ، وَالْحَجَرِ، وَقَالَ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ؛ طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا تَطْلُقُ. (الأشباه والنظائر لابن نجيم ص114)

9- لَوْ قَالَ: زَوْجَاتِي طَوَالِقُ. وَلَيْسَ لَهُ إلَّا رَجْعِيَّاتٌ طُلِّقْنَ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ فِي دُخُولِ الرَّجْعِيَّةِ فِي ذَلِكَ مَعَ الزَّوْجَاتِ خِلَافٌ.

تَنْبِيه:
الأَصْل فِي الْكَلَام أَن يُفِيد فَائِدَة مستأنفة غير مَا أَفَادَهُ سابقه، لِأَن الِاسْتِئْنَاف تأسيس، وإفادة مَا أَفَادَهُ السَّابِق تَأْكِيد، والتأسيس أولى من التَّأْكِيد، وَعَلِيهِ فيراد بالإهمال فِي الْقَاعِدَة مَا هُوَ أَعم من الإلغاء بالمرة وإلغاء الْفَائِدَة المستأنفة بجعله مؤكداً. فَلَو أقرّ بِأَلف فِي صك وَلم يبين سَببهَا ثمَّ أقرّ بِأَلف كَذَلِك؛ يُطَالب بالألفين. وَكَذَا لَو قَالَ لزوجته الْمَدْخُول بهَا: أَنْت طَالِق طَالِق طَالِق، وَقع ثَلَاثًا، ويدين فِي أَنه نوى التَّأْكِيد. (شرح القواعد الفقهية ص316)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى