مختارات

هل نحن شعوبٌ عاطفية أم واقعية؟

الأغيد السيد علي

كاتب سوري
عرض مقالات الكاتب

لن أستهلَّ مقدمتي هذه المرة للشرح والتعريف عن العاطفة والواقعية وما الفرق بينهما، لكنها ستكون مختلفةً نوعًا ما، حيث أنَّ العاطفة والواقعية مرتبطتين مع بعضهما البعض ارتباطًا وثيقًا عبر التاريخ البشري كله، لكن المشكلة تكمن في كيفية استخدامهما بالشكل السليم دون تفريطٍ أو مغالاة.

إنَّ العاطفة عبارة عن كتلةٍ من المشاعر الرقيقة التي تلامس القلب، والأحاسيس المرهفة التي لا يستطيع الإنسان أن يتخلّى عنها أو يُضمرها في جوفه، وذلك لأنَّ الإنسان جُبُل بالعاطفة وهي جزءٌ منه، فلولا العاطفة لما تسنّى للزوج أن يعاشر زوجته، ولا للأب أن يعايش أفراد أسرته!!


وقد جمع العرب -في الجاهلية وبعد الإسلام- ما بين العاطفة والواقعية على حدٍ سواء، فلم يُهملوا جانبًا ويهتموا بآخر، فتراهم واقعيّين لا يمشون على الهواء ولا ينتظرون الخوارق كي يعيشوا يومهم، لم يركنوا إلى التخمين والحدس؛ بقدر ما كانوا يعيشون حياتهم مع الواقع ويتفاعلون مع قضاياهم بشكلٍ مرن دون انتظار معجزة أو حدثٍ خارق كي يستمروا في حياتهم، أمّا في الإسلام فقد جاء الصحابة -رضوان الله عليهم جميعا- بالأعاجيب العجاب في البذل والعطاء، والتضحية والفداء نصرةً للحبيب “محمد” -صلّى الله عليه وسلم-، كما سطّروا أروع أنواع الملاحم والبطولات على مر التاريخ، فبهذا لو بالغوا في عاطفتهم الجيّاشة وتغلّبوا على واقعيتهم؛ لربّما يتشوّش تفكيرهم وتتشتّت أفكارهم وتذهب أعمالهم أدراج الرياح، فلو سيطرت العاطفة وتغلّبت على الواقعية؛ لأثّرت على القرار السليم التي تسيطر عليه المشاعر وتجعله هَشّ.

ذهب الكثير من الناس -في عصرنا هذا- إلى إهمال الجانب الواقعي من حياتهم بشكل لا يُصدّق، مُعلّلين ذلك بأنَّ الإنسان يجب أن يكون عاطفيًا أكثر من أن يكون واقعيًّا، كي يستطيع أن يتعايش مع أبناء المجتمع في ظلّ الاختلاف والبلاءات التي طالت الأمّة والمجتمعات المحافظة، ويزعمون بأنَّ الإنسان الذي يخلو من العاطفة بحجّة أنّه واقعي وأنَّ له إطارًا محدودًا لا يحيد عنه؛ إنسانًا جامدًا لا يستحق أن يعيش مع بني الإنس!!

تابعنا في فيسبوك


من حقّ الشعوب العربيّة أن تكون صاحبة عواطف جيّاشة وأحاسيس مرهفة، علّها ترقّ القلوب وتصبح أكثر ألفة، ومن حقّهم أن يفتخروا بذلك، ولكن بمغالاتهم لهذا الأمر؛ أصبح العرب آخر الخلق حضارةً ورقيّ، أصبحوا لقمةً سائغة لدى عدوّهم الماجن، حيث جعلوا الحياة معجونةً بالعواطف والأحاسيس على طريقة الأفلام الهنديّة التي تكاد لا تخلي من الشهيق والدموع.

في الآونة الأخيرة -وعلى وجه الخصوص- في “مونديال كأس العالم” لعام 2022م الحاصل في دولة قطر، أوقفتني بعض المشاهد المضحكة المبكية، وأودُّ المرور عليها والتكلّم عنها قليلًا في هذا المقال..


لقد تفاعل ملايين العرب مع صورة العلم الفلسطيني الذي تمَّ رفعه من قبل أحد المشجّعين التونسيّين، في حين قد غضّوا الطرف عن آلاف الفلسطينيّين الذين يذوقون أشدَّ أنواع الاضطهاد والتهجير القسري في مدينتيّ (نابلس ومخيم جنين) !! تضامن الآلاف مع صورة الطفلة التي رفعت علم الثورة السوريّة، وأصبحت مسألة رأي عام؛ في حين قد أغمضوا أعينهم وصمّوا آذانهم وأغلقوا أفواههم عن ملايين السوريّين المشرّدين في خيام الشتات التي لا تقِي حرَّ الصيف ولا برد الشتاء!! ما فائدة هذه العواطف الجيّاشة والمشاعر المرهفة إن لم تُترجم على أرض الواقع في الوقوف مع قضايا الشعوب العادلة ونصرتها ودعمها ماديًا ومعنويًا كي تنجح وتستمر في إسقاط الأنظمة الاستبداديّة!! ما الفائدة من عرض هذه العواطف على الملأ، وبقاؤها في نطاق الكلام المعسول والشاعرية العاطفية التي لا تجدي نفعًا ولا ضرّا!!
في النهاية أودُّ أن أقول بأنَّ العاطفة إذا تغلّبت على الواقعية، فإنّها حتمًا ستبعثر الفكر وتُشوّش على التركيز، وهذا لا يصب في مصلحة الجميع لأنّه يؤثر على القرار الصائب الذي يسيطر عليه هذه المشاعر الفارغة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى