بحوث ودراسات

النِّظام العالمي بين نهاية الحرب الباردة وبداية الحرب العالميَّة الثَّالثة (7 من 10)

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب


تسبَّب الصِّراع على النَّفط العربي في أزمات مع الغرب، لا سيِّما الولايات المتَّحدة، أكثر من مرَّة، لعلَّ من أشهرها ما حدث عن حظْر العاهل السَّعودي الرَّاحل، الملك فيصل بن عبد العزيز، تصدير النَّفط إلى الغرب إبَّان حرب أكتوبر 1973م، الأمر الَّذي عبَّر هنري كسنجر، وزير الخارجيَّة الأمريكي حينها، في خطاب ألقاه أمام الغرفة الصِّناعيَّة في ولاية بنسلفانيا في 11 سبتمبر 1975م، ألمح فيه إلى إمكانيَّة لجوء بلاده إلى “خيارات مؤلمة” في مواجهة الخسائر الفادحة الَّتي تحمَّلتها، وغيرها من الدُّول الصِّناعيَّة، نتيجة تصرُّف الملك فيصل. ويبدو أنَّ الولايات المتَّحدة لم تغفر تلك الصَّفعة للنِّظام السَّعودي الحاكم، ويُقال أنَّ الملك فيصل دفَع حياته ثمنًا لذلك التَّصرُّف، خاصَّةً بعد أن قال “سنحرق آبار النَّفط ونرجع إلى الخيام”، في إصرار منه على عدم السَّماح للغرب بفرض قيوده على العرب، استغلالًا لحاجتهم إلى عائدات النَّفط.

اقرأ: النِّظام العالمي بين نهاية الحرب الباردة وبداية الحرب العالميَّة الثَّالثة (6 من 10)

ولا شكَّ في أنَّ الغرب ظلَّ متوجِّسًا خيفة أن يظهر زعيم عربي آخر يحذو حذو فيصل بن عبد العزيز، في التَّحكُّم في صادرات النَّفط إلى الدُّول الصِّناعيَّة، حتَّى ظهر صدَّام حسين، الرَّئيس العراقي الأسبق، وأعاد الكرَّة. وقد عبَّر جيمس بيكر، وزير الخارجيَّة في إدارة جورج بوش الأب، عن ذلك في خطاب له أمام لجنة الشُّؤون الخارجيَّة لمجلس النُّوَّاب الأمريكي، في 4 سبتمبر 1990م، يبرِّر فيه إقدام بلاده على المشاركة في حرب الخليج الثَّانية، بأنَّ حماية مصالحها من ديكتاتور يتحكَّم يتلاعب بأسعار النَّفط، ويقصد صدَّام حسين، من دواعي الأمن القومي. وفي كلمات بيكر ما يعزِّز ما سبق وأن صرَّح به جورج بوش الأب بنفسه، لمَّا قال، نقلًا عن صحيفة نيويورك تايمز الأمريكيَّة فيما نشرته عن لسانه 9 أغسطس 1990م “إنَّ أعمالنا وطريقة حياتنا وحريَّة الدُّول الصَّديقة حول العالم، كلُّ ذلك سيتعرَّض للمعاناة إذا أصبحت السَّيطرة على احتياطي الوطن الكبير من النَّفط في يد هذا الرَّجل الأوحد”. ويورد السَّيِّد أحمد (1993م، صـ103) نصَّ خطاب جيمس بيكر، نقلًا عن الدُّكتور سمير أمين في مقاله “النَّزعة العسكريَّة في النِّظام الدُّولي الجديد” (عدد 90، في مارس 1992م):

تابعنا في فيسبوك

المشكلة لا تتعلَّق تمامًا بالموضوع الضَّيِّق حول تدفُّق النَّفط من الكويت والعراق، إنَّما تتعلَّق بديكتاتور واحد يمكنه لوحده، إذا لم يجد تحديًا، أن يخنق النِّظام الاقتصادي العالمي، بحيث يحدِّد بقرار منه ما إذا كنَّا سنعاني من ركود اقتصادي أو ندخل في نفق الكساد المظلم.

يتَّضح ممَّا سبق طرْحه مدى أهميَّة النَّفط العربي بالنِّسبة إلى الولايات المتَّحدة، ليس فقط للانتفاع به، إنَّما كذلك لاحتكاره ومنْع القوى الصِّناعيَّة الصَّاعدة من استغلاله في تحقيق الازدهار الاقتصادي. من الثَّابت أنَّ الولايات المتَّحدة تزخر بمقدار كبير من الاحتياطي النَّفطي يكاد يكون الأكبر على مستوى العالم، لكنَّه من نوع النَّفط الصَّخري صعب الاستخراج والتَّخزين. غير أنَّ الرَّئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، صرَّح لمجلَّة التَّايم الأمريكيَّة (TIME Magazine) في ديسمبر من عام 2012 ميلاديًّا، بأنَّ الولايات المتَّحدة على أعتاب مرحلة جديدة من تعاظُم إنتاج النفط والغاز الطَّبيعي، بفضل اكتشاف تقنيات جديدة ستسهِّل التَّنقيب عن النَّفط الصَّخري واستخراجه. وأضاف أوباما أنَّ إنتاج أمريكا من النفط قد يتجاوز المملكة العربيَّة السَّعوديَّة، أكبر منتج للنفط الأحفوري في العالم، مستقبلًا. وبالفعل، نشرت شبكة CNBC الإخباريَّة الأمريكيَّة في 31 يناير 2018م أنَّ إنتاج النَّفط الصَّخري في النَّفط الصَّخري قد وصل 10 ملايين برميل يوميًّا، لتستغني بذلك عن النَّفط العربي. ترتَّب على غزارة الإنتاج الأمريكي من النَّفط تراجُع كبير في أسعار برميل النَّفط، ليهبط من 110 دولارات إلى ما دون 60 دولارًا، لتعاني دول الخليج، وعلى رأسها السَّعوديَّة، من أزمة اقتصاديَّة ربَّما غير مسبوقة. 

يختتم الدُّكتور بهاء الأمير مقاله “كورونا” (2020م) بحديثه عن الآثار المترتّبة على انتشار الفيروس الوبائي في العالم بالإشارة إلى تراجُع أسعار النَّفط، وتأثُّر اقتصادات دول الخليج تأثُّرًا شديدًا ينذر بتعرُّضها لأزمات ماليَّة؛ إذ أنَّ اقتصادها يعتمد في المرتبة الأولى على مبيعات النَّفط. وقد أصرَّ الرَّئيس الأمريكي السَّابق، دونالد ترامب، على أن تخفّض الدُّول المنتجة للبترول إنتاجها، أملًا في إنقاذ أسعاره من الانهيار؛ والمفارقة أنَّه عمل في الوقت ذاته على استغلال تدنّي الأسعار في دعْم المخزون الاستراتيجي الأمريكي. وقد توصَّلت الدُّول المنتجة للنَّفط إلى اتّفاق في 12 أبريل 2020م لتخفيض الإنتاج بنسبة 10 بالمائة؛ ممَّا أثار إعجاب ترامب، الَّذي اعتبر أنَّ في ذلك إنقاذ لمئات الآلاف من الوظائف في مجال الطَّاقة. 

ترامب يشيد باتِّفاق أوبك على خفض إنتاج النَّفط ويعتبره “عظيما للجميع”


اتَّفقت منظمة أوبك وروسيا ودول أخرى منتجة للنَّفط على خفض الإنتاج بشكل قياسي يمثل حوالي 10 في المائة من الإمدادات العالميَّة لدعم أسعار النَّفط وسط تفشِّي فيروس كورونا.

مع التَّمهيد لإشعال الحرب العالميَّة الثَّانية، تآمر جوزيف ستالين مع القوَّة الخفيَّة في إحداث أزمة اقتصاديَّة عالميَّة بطرحه الحبوب الرُّوسيَّة بأسعار زهيدة، ممَّا أسفر عن حدوث كساد اقتصادي كبير. واليوم، يتكرَّر التَّآمر الرُّوسي على الاقتصاد العالمي، والسّلعة المستهدفة هذه المرَّة هي النَّفط، حيث أقدمت روسيا على تسديد ضربة لقطاع النَّفط الصَّخري في أمريكا من خلال تخفيض أسعار النَّفط، ممَّا دفَع السَّعوديَّة إلى معاقبة روسيا بزيادة إنتاجها من النَّفط الأحفوري، وفق ما نشرته شبكة CNN بالعربيَّة في 21 مارس 2020م.

معاقبة السَّعوديَّة لروسيا بحرب أسعار النفط لإثبات من المهيمن بالأسواق

ببساطة ما بدأ حرب أسعار النَّفط هو إثبات من الَّذي يهيمن على الأسواق، روسيا تريد خفض أسعار الخام بالأسواق العالميَّة بهدف تجفيف الازدهار الَّذي يحظى به قطاع صناعة النَّفط من الصَّخر الزَّيتي في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، السَّعوديَّة من جهتها وكرد فعل تقوم بمعاقبة روسيا عبر رفع معدلات إّنتاج النَّفط بالمملكة.

ما يحدث هو أنَّ المعركة الملحميَّة بين السعوديَّة وروسيا فاقمت الفوضى النَّاجمة عن فيروس كورونا في وول ستريت وأسعار النَّفط في حالة هبوط حر محطمة أدنى سعر لها منذ 18 عاما، خلال الأسبوع الماضي وسط انهيار بأسعار أسهم الطَّاقة.

تزامنت أزمة النَّفط العالميَّة مع انتشار فيروس كورونا القاتل، الَّذي صنَّفته منظَّمة الصَّحَّة العالميَّة وباءً عالميًّا في 11 مارس 2020م، والَّذي أدَّى إلى تراجُع في الطَّلب على النَّفط، مع حالة الرُّكود الَّتي تشهدها مختلف القطاعات الَّتي تستعين بالنَّفط ومشتقَّاته في تسيير عملها. تهاوي سعر برميل النَّفط إثر ذلك إلى أقل من 30 دولارًا أمريكيًّا، ممَّا ينذر بأزمة اقتصاديَّة كبيرة. 

ولن تقتصر الأزمة الاقتصاديَّة على كبرى الدُّول المنتجة للنَّفط، بل سيشمل الاقتصاد العالمي، ولانتشار فيروس كورونا دوره في ذلك. ومن الملفت أنَّ بنك غولدمان ساكس الأمريكي، الَّذي أسَّسه الاقتصادي اليهودي ألماني الأصل ماركوس غولدمان عام 1869م، بأنَّ الأزمة الماليَّة الحاليَّة ليس لها نظير طوال الفترة التَّالية للحرب العالميَّة الثَّانية. 

غير أنَّ عام 2021م شهد انتعاشًا ملحوظًا في أسعار النَّفط، وفق بيانات نشرتها صحيفة العين الإخباريَّة الإماراتيَّة في 30 ديسمبر 2021م.

قفزة قوية لأسعار النَّفط في 2021.. “التَّحالف” كلمة السِّر

بعد انهيار أسعار النَّفط خلال عام 2020، بسبب تفشِّي وباء كورونا، إلا أنَّها شهدت قفزات قويَّة في 2021.

وقفز خام برنت إلى مستوى 85 دولارًا للبرميل في الرُّبع الثَّالث من 2021، بعد أن هبط لأقل من 30 دولارًا في الرًّبع الأوَّل من عام 2020، وذلك بفعل عدة عوامل، أبرزها السِّياسة الإنتاجيَّة لتحالًف أوبك+، الَّذي يضمُّ السَّعوديَّة والإمارات وكبار منتجي النَّفط المستقلِّين مثل روسيا.

كما سبقت الإشارة، أسفرت الحرب الرُّوسيَّة-الأوكرانيَّة، منذ اندلاعها أواخر فبراير 2022م، عن أزمة نفطيَّة من جرَّاء العقوبات الأمريكيَّة على قطاع النَّفط الرُّوسي، أدَّت إلى ارتفاع أسعار البرميل إلى ما يقرب من 140 دولارًا. وبرغم تراجُع السِّعر إلى ما دون 110 دولارات، فهناك توقُّعات بوصول السِّعر إلى ما يزيد على 200 دولار للبرميل الواحد، إذا ما طال أمَد الحرب وتحوَّلت إلى حرب عالميَّة. وحلًّا لتلك المشكلة، خاصَّةً بعد تعنُّت السَّعوديَّة في الاستجابة لطلب إدارة جو بايدن زيادة الإنتاج لخفض السِّعر، أعلن الرَّئيس الأمريكي نهاية مارس 2022م سحب 180 مليون برميل على مدار 6 أشهر من الاحتياطي النَّفطي الأمريكي.

قرار غير مسبوق.. بايدن يعلن سحب مليون برميل نفط يوميًا من الاحتياطي الأمريكي

أعلن الرَّئيس الأمريكي، جو بايدن، عن إطلاق غير مسبوق للنَّفط من الاحتياطيات الأمريكيَّة، واتَّخذ خطوات لمعاقبة شركات النَّفط لعدم زيادة الإنتاج من الإيجارات غير المستخدمة على الأراضي الفيدراليَّة، بحسب البيت الأبيض…

وقال البيت الأبيض: “بعد التَّشاور مع الحلفاء والشَّركاء، سيعلن الرَّئيس عن أكبر تحرير لاحتياطيات النَّفط في التَّاريخ، ويضع مليون برميل إضافي في السُّوق يوميًا في المتوسط ​​- كلَّ يوم – للأشهر السِّتَّة المقبلة. حجم هذا الإصدار غير مسبوق: لم يكن للعالم إطلاقًا لاحتياطيات النَّفط بمعدل مليون واحد يوميًّا لهذه المدَّة الزَّمنيَّة. سيوفِّر هذا الإصدار القياسي كميَّة تاريخيَّة من الإمداد لتكون بمثابة جسر حتَّى نهاية العام الَّذي يرتفع فيه الإنتاج المحلي”.


ويعتقد مراقبون أنَّ إدارة بايدن ما كانت لتظلَّ صامتة إزاء التَّحدِّي السَّعودي لأوامرها، خاصَّةً بعد أن بدأت الصَّحافة الأمريكيَّة تمهِّد لفرْض الإدارة عقوبات رادعة على المملكة النَّفطيَّة. فقد نشرت مجلَّة السِّياسة الخارجيَّة (Foreign Policy) في 22 مارس الماضي مقالًا تحت عنوان “Biden Should Punish Saudi Arabia for Backing Russia”، أو بايدن ينبغي أن يعاقب السَّعوديَّة لدعمها روسيا، حرَّره خالد الجبري، نجل المسؤول الأمني السَّعودي الهارب سعد الجبري، الَّذي يقاضي وليَّ العهد السَّعودي مدَّعيًا أنَّه حاول قتله وابتزازه. وكذلك صحيفة شيكاغو تريبيون (Chicago Tribune) في 21 أبريل الجاري مقالًا تحت عنوان ” It’s time to leave Saudi Arabia to the wolves”، أو حان الوقت لترك السَّعوديَّة للذِّئاب، تنصح فيه الصَّحيفة بايدن بالتَّخلِّي عن حماية المملكة في مواجهة الاعتداءات الخارجيَّة. ويثير ذلك الاتِّجاه لمعاقبة النِّظام الحاكم بالمملكة تساؤلات عن مستقبل ذلك النِّظام ومدى قدرته على مواجهة الحيل الأمريكيَّة، خاصَّةً وأنَّ مصير مَن سبق وأن حاول التَّحكُّم في صادرات النَّفط بما يضرُّ بالمصالح الأمريكيَّة الإفناء! 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى