بحوث ودراسات

النِّظام العالمي بين نهاية الحرب الباردة وبداية الحرب العالميَّة الثَّالثة

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

هل يُشعل النَّفط العربي منطقة الشَّرق الأوسط بحرب تعيد تشكيله؟

يخصِّص الدُّكتور عزَّت السَّيِّد أحمد فصلًا كاملًا في كتابه (1993م) تحت عنوان “جذور الصِّراع على النَّفط العربي”، يستعرض فيه أهمَّ محطَّات تصارُع القوى الاستعماريَّة الغربيَّة على النَّفط العربي، خاصَّة بعد انتهاء الحرب العالميَّة الثَّانية، ورغبة الدُّول المنتصرة في إحداث طفرات اقتصاديَّة تعوِّض بها نفقات الحرب.

يوضح السَّيِّد أحمد أنَّ امتلاك العرب نصف الثَّروة النَّفطيَّة تقريبًا في العالم كانت عمة ونقمة في آن واحد، بأن حقَّق الثَّراء الوفرة لفئة محدودة من سكَّان المنطقة، لكنَّه عرَّض كافَّة السُّكَّان إلى تداعيات الصِّراع الغربي على انتزاع تلك الثَّروة الَّتي قام عليها الاقتصاد العالمي خلال القرن العشرين للميلاد، ولم يزل العالم يعتمد عليها في الحصول على الطَّاقة إلى يومنا، وربَّما لسنوات قادمة. ويوضح السَّيِّد أحمد أسباب حرْص الغرب على التَّزوُّد بالنَّفطي العربي كما يلي (صـ91)

اقرأ: النِّظام العالمي بين نهاية الحرب الباردة وبداية الحرب العالميَّة الثَّالثة (5 من 10)

وممَّا تتَّسم به آبار النَّفط العربي من سمات تجعلها تُفضَّل على الآبار الأخرى، سهولة الاستخراج لقرب النَّفط العربي من السَّطح أكثر، ووقع الآبار البحريَّة في المياه الضَّحلة، يُضاف إلى ذلك قُرب معظم موانئ التَّصدير والطَّرق التَّجاريَّة، ووقوعها في تجمُّعات متقاربة، وكلُّ ذلك يؤدِّي إلى قلَّة تكلفة الإنتاج ولا سيِّما إذا ما أضفنا إليها رخص الأيدي العاملة العربيَّة بأضعاف كثيرة إذا قورنت أُجرة العامل العربي بأُجرة العامل الغربي. ويُضاف إلى أمرين آخرين في غاية الأهميَّة، هما غزارة الإنتاج وضخامته، بالقياس إلى الإنتاج العامي…

إذا ما نظرنا إلى البُعد الاستراتيجي لتجارة النَّفط في العالم، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أهميَّته الحيويَّة بوصفه عصب الحياة في عصر الحداثة وما بعدها، فمن الطَّبيعي أن يُشعل الصِّراع على الحصول عليه حروبًا، وقد عبَّر السِّياسي الفرنسي ورئيس وزراء فرنسا الأسبق، جورج كليمنصو، خلال الحرب العالميَّة الأولى (1914-1918م) عن الأهميَّة القصوى للنَّفط بقوله “إنَّ النَّفط ضروري كالدَّم”. وينقل السَّيِّد أحمد (1993م) عن الباحث التُّونسي توفيق المديني ما أورده في مقاله “النَّفط العربي واغترابه عن قضايا التَّحرُّر والوحدة العربيَّة” (1988م)، عن تصريح الرَّئيس الأمريكي الأسبق، كالفين كوليدج (1923-1929م)، القائل “إنَّ تفوُّق الأمم يمكن أن يُقرَّر بواسطة امتلاك النَّفط ومنتجاته”. وفي ذلك التَّصريح، الَّذي يعود إلى عام 1924م، ما يبرز أهميَّة النَّفط بالنِّسبة للولايات المتَّحدة في تخطيطها للهيمنة على اقتصاد العالم، حتَّى قبل انتصارها في الحرب العالميَّة الثَّانية. 

تابعنا في فيسبوك

ولعلَّ في تصريح كوليدج ما أغرى خليفته جورج بوش الأب (1988-1992م) بالمشاركة في حرب الخليج الثَّانية وغزو الكويت مطلع عام 1991م. فقد أرادت إمبراطوريَّة العالم تأمين سيطرتها على النَّفط الخليجي بتدخُّل مباشر يضمن لها عدم انتفاع العرب من نفطهم، وكذلك عدم وصول النَّفط إلى منافسيها من الاقتصادات الصَّاعدة، وهو ما عبَّر عنه الدُّكتور سمير أمين في مقاله “النَّزعة العسكريَّة في النِّظام الدُّولي الجديد”، الَّذي نشرته مجلَّة الوَحدة في العدد 90 الصَّادر في مارس 1992م (صـ41):

أظنُّ أنَّ القرار القاضي بشنِّ الحرب في الخليج قد تمَّ اتِّخاذه بكيفيَّة معتمَدة من واشنطن، باعتباره إحدى الوسائل الكفيلة في حال استعمالها بالحيلولة دون قيام (الكتلة الأوروبيَّة)؛ بإضعاف أوروبَّا (عن طريق مراقبة النَّفط الَّذي تؤمِّنه الولايات المتَّحدة وحدها، من الآن فصاعدًا.

بزعم تحرير الكويت، غزَّت القوَّات الأمريكيَّة منطقة الخليج العربي لطرد القوَّات العراقيَّة، لكنَّ الهدف الحقيقي كان فرْض الوجود الأمريكي في المنطقة للأسباب آنفة الذِّكر، خاصَّةً بعد تحدِّي الرَّئيس العراقي الأسبق، صدَّام حسين، للأوامر الأمريكيَّة ورغبته في الانفراد بالتَّحكُّم في ثروة بلاده النَّفطيَّة. وُصف صدَّام حسين بالدِّيكتاتور والطَّاغية الواجب التَّخلُّص منه، وجُنِّدت الآلة الإعلاميَّة العربيَّة حينها لتبرير الغزو الأمريكي للكويت وتشويه صورة الرَّئيس العراقي. وقد شارك جورج بوش الأب، كما نقلت عن لسانه صحيفة نيويورك تايمز الأمريكيَّة في 9 أغسطس 1990م، في حملة التَّنديد العالمي بصدَّام حسين، حيث قال “إنَّ أعمالنا وطريقة حياتنا وحريَّة الدُّول الصَّديقة حول العالم، كلُّ ذلك سيتعرَّض للمعاناة إذا أصبحت السَّيطرة على احتياطي الوطن الكبير من النَّفط في يد هذا الرَّجل الأوحد”، في إشارة إلى الرَّئيس العراقي الرَّاحل. ويعلِّق المفكِّر الكبير على الموقف الأمريكي من غزو العراق للكويت بقوله (صـ98):

المشكلة هنا في النَّظرة الازدواجيَّة الفصاميَّة، والاعتقاد الَّذي ينطلق منه الغرب في التَّعامل مع الشَّرق، وكأنَّنا مساحة جرداء، خالية من الإنسانيَّة، ففي حين أنَّ هيمنة الولايات المتَّحدة علينا وعلى ثرواتنا أمرٌ مسوَّغ، فإنَّ هيمنتنا على ثرواتنا خطر على العالم؛ وفي حين أنَّ استغلال الولايات المتَّحدة نفطنا لخنْق الاقتصاد العالمي والتَّحكُّم بالدُّول الصِّناعيَّة أمرٌ مشروع، فإنَّ استغلالنا لنفطنا من أجل تحقيق مصالحنا، أو على نحو يهمُّنا، يعدُّ تهديدًا للأمن والسِّلم العالميين…


يتبيَّن ممَّا سبق أنَّ الدُّول الاستعماريَّة الكبرى في عصرنا هذا تعتبر النَّفط شريان الحياة، ولا تتوانى في إشعال الحروب، لا من أجل تأمين الحصول عليه فحسب، إنَّما لضمان احتكاره ومنْع المنافسين من الاستفادة منه، بما في ذلك الدُّول العربيَّة الَّتي يُستخرَج النَّفط من آبارها. 

مآل الخلاف الأمريكي-السَّعودي بشأن إنتاج النَّفط

كما سبق الإيضاح، يمثِّل النَّفط العربي، وبخاصَّة في منطقة الخليج، أهميَّة اقتصاديَّة فائقة، بحيث يُعتبر المصدر الأساسي للدَّخل في بعض الدُّول العربيَّة، وعلى رأسها المملكة العربيَّة السَّعوديَّة. وقد تصارَع القوى الغربيَّة منذ مطلع القرن العشرين للميلاد على السَّيطرة على آبار النَّفط في العالم العربي، حتَّى حُسم الصِّراع لصالح الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة. وترتبط السَّعوديَّة مع الولايات المتَّحدة باتِّفاق تاريخي أبرمه الرَّئيس الأمريكي الأسبق، فرانكلين روزفلت، مع الملِك عبد العزيز آل سعود، مؤسِّس السَّعوديَّة، في 14 فبراير 1945م، أي قُبيل انتهاء الحرب العالميَّة الثَّانية على متن سفينة أمريكيَّة مُنح الاتِّفاق اسمها، ليصبح اتِّفاق كوينسي (Quincy Pact). وبمقتضى ذلك الاتِّفاق، تعهَّد السَّعوديَّة بإمداد الولايات المتَّحدة بشحنات من النَّفط بحسب رغبتها، على أن تقدِّم الولايات المتَّحدة في المقابل للمملكة دعمًا غير مشروط.

فرانكلين روزفلت مع الملِك عبد العزيز آل سعود على متن سفينة كوينسي-فبراير 1945م

دعَّمت المملكة العربيَّة السَّعوديَّة اتِّفاق كوينسي باتِّفاق آخر عام 1974م، أبرمه الملك فيصل بن عبد العزيز مع الرَّئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون، يقوم على الالتزام ببيع النَّفط بالدُّولار الأمريكي، وهو ما بات معروفًا باسم اتِّفاق البترودولار (Petrodollar recycling)، كما أطلق العالم الاقتصادي الأمريكي مصري الأصل، إبراهيم عويس، أستاذ علم الاقتصاد بجامعة جورج تاون الأمريكيَّة مطلع سبعينات القرن العشرين. ظلَّ التَّفاهم يسود المشهد بين إمبراطورة العالم والمملكة النَّفطيَّة لأكثر من 7 عقود، حتَّى توتَّرت العلاقات منذ مجيء الرَّئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن (يناير 2021م-إلى الآن)، إلى البيت الأبيض، وانتقاده المستمرّ لسياسات المملكة، لا سيِّما فيما يتعلَّق بملفّ حقوق الإنسان. وازدادت العلاقات الأمريكيَّة-السَّعوديَّة توتُّرًا بعد رفْض المملكة طلب إدارة بايدن زيادة إنتاج النَّفط لتخفيض سعر البرميل، الَّذي صعد إلى معدَّل قياسي بعد اندلاع الحرب الرُّوسيَّة-الأوكرانيَّة في 24 فبراير 2022م. وهناك توقُّعات بمواجهة حاسمة بين طرفي النِّزاع قد تفضي إلى حرب إقليميَّة، أو لتقل، قد تُشعل جبهة الخليج في الحرب العالميَّة الثَّالثة.

يوضح السَّيِّد أحمد (1993م) أنَّ السِّياسة الأمريكيَّة بشأن النَّفط العربي كانت واضحة منذ نهاية الحرب العالميَّة الثَّانية عام 1945م، وهي الاستغلال غير المقيَّد؛ 

كيلا تلجأ الولايات المتَّحدة إلى النَّفط الرُّوسي، كما أعلن الرَّئيس الأمريكي الأسبق، دوايت أيزنهاور (1945-1948م). ووصل الأمر إلى حدِّ تهديد السِّياسي اليهودي ووزير الخارجيَّة الأمريكي الأسبق، هنري كسنجر، “باحتلال منابع النَّفط إذا دعت الحاجة”، وفق ما أورده عيسى درويش في مقاله “البترول وأهميَّته في معركة الصُّمود والتَّصدِّي”، الَّذي نشرته مجلَّة المناضل (عدد 117، يناير 1979م). كرَّر الرَّئيس الأمريكي الأسبق، جيمي كارتر (1977-1981م)، التَّهديد في يناير 1979م، بأن أعلن منطقة الخليج العربي “منطقة مصالح حيويَّة”، معتبرًا أنَّ التَّعدِّي على أمنها بمثابة “تطاوُل على المصالح الحيويَّة للولايات المتَّحدة الأمريكيَّة” يكون الرَّدُّ عليه باستخدام شتَّى الوسائل الممكنة، بما فيها “القوَّة العسكريَّة”، نقلًا عن افيومين زخاروف فيما أورده في كتابه كامب ديفيد سياسة مصيرها الفشل (صـ111). ويوجز المفكِّر الكبير (1993م) رأيه في السِّياسة الأمريكيَّة تجاه النَّفط العربي وإمكانيَّة اشتعال حرب بسبب الصِّراع عليه، بقوله (صـ100-101):

رغم كلِّ التَّطوُّرات الَّتي طرأت وتطرأ على السِّياسة الأمريكيَّة، فإنَّ النَّظر والتَّعامل مع النَّفط العربي واحد من الثَّوابت الَّتي لا تقبل أيَّ تغيير أو تعديل، إلَّا بما يعزِّز السَّيطرة الأمريكيَّة على هذه المنطقة المهمَّة في العالم…رغم كلِّ المحاولات لاستجرار النَّفط بعيدًا عن أيِّ مواجهة، ومحاولة إيهامنا باستحالة استخدام النَّفط كسلاح لضمان مصالحنا والدِّفاع عنها، فقد ظلَّ النَّفط هو السِّلاح الأكثر فعَّاليَّة وحسمًا في أيِّ مواجهة، ولقد أدرك أرباب السِّياسة والاقتصاد الغربيون هذه الحقيقة منذ البدايات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى