دين ودنيا

القواعد الفقهية.. القاعدة (10) الأصل في الكلام الحقيقة

محمد عبد الحي عوينة

كاتب وداعية إسلامي. إندونيسيا.
عرض مقالات الكاتب

الأصل في الألفاظ الحقيقة عند الإطلاق، والأصل في الإطلاق الحقيقة، وقد يصرف إلى المجاز بقرائن. لأن الْمجَاز فرع فِيهِ وَخَلَفٌ عَنْهَا، ولكونها أصلا قُدِّمت على الْمجَاز وَكَانَ الْعَمَل بهَا أولى من الْعَمَل بِهِ، مَا لم يُوجد مُرَجّح لَهُ فيصار إِلَيْهِ. (الفروق للقرافي 3/ 114، شرح القواعد الفقهية ص133)
والحقيقة ما وضعت اللفظة له ولم تتجاوزه.
وفي الاصطلاح: اللفظ المستعمل فيما وضع له فِي اصْطِلَاح التخاطب ، أي تعين له بحيث يدل عليه بغير قرينة، سواء أكان التعيين من جهة واضع اللغة أو غيره في الشرع أو العرف أو الاصطلاح.
مثال الحقيقة اللغوية: كالأسد للحيوان المفترس.
والحقيقة الشرعية: هي الألفاظ التي وضعها الشارع للدلالة على معانيها الخاصة كالصلاة والزكاة والصوم والحج، ….. إلخ.
والحقيقة العرفية: كالدابة لما يركب.
والحقيقة الاصطلاحية: هي الألفاظ التي يستعملها بعض الطوائف كاصطلاح لهم، كلفظ الفعل والفاعل عند النحاة، والجوهر والعرض عند المتكلمين، والسبب والوتد عند العروضيين.(الوجيز في إيضاح قواعد الفقة ص300)
ويقابل الحقيقة المجاز، وَالْمجَاز: هُوَ اسْتِعْمَال الْكَلِمَة فِي غير مَا وضعت لَهُ لقَرِينَة، أو مع قرينة مانعة عن إرادة المعنى الموضوع له. (القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة 1/ 367)
ولا يصرف اللفظ عن معناه الحقيقي إلى المجازي إلا عند عدم الإمكان، بأن تعذرت الحقيقة، أو تعسرت، أو هُجِرت، فيُصار إلى المجاز، ويُحمل الكلام على المعنى المجازي ضرورة عدم إهمال كلام العاقل، وتطبق قاعدة: المجاز على خلاف الأصل.

اقرأ: القواعد الفقهية (7) (الأصل براءة الذمة)

معنى القاعدة:
الأصل في الكلام الحقيقة، أي الراجح عند السامع هو الحقيقة لا المجاز(نهاية السول شرح منهاج الوصول ص8، البحر المحيط في أصول الفقه 1/ 26)
وَلِذَا تَتَرَجَّحُ عَلَى الْمَجَازِ عِنْدَ التَّعَارُضِ.(التقرير والتحبير على التحرير 2/ 23)
فهذه القاعدة فرع عن قاعدة إعمال الكلام أولى من إهماله ” وفرع عن قاعدة ” اليقين لا يزول بالشك”، لأن الحقيقة يقين، والمجاز شك، واليقين لا يزول بالشك إلا لسبب أو علة.
والمراد بهذه القاعدة أنه إذا كان للفظ معنيان متساوٍ استعمالهما، معنى حقيقي، ومعنى مجازي، وورد مجرداً عن مرجح يرجح أحد المعنيين على الآخر، فيراد به حينئذ المعنى الحقيقي لا المجازي؛ لأن المجاز خلفٌ عن الحقيقة، فترجح هي عليه في نفسها. (القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب1/ 368)
لكن قد تترك دلالة اللفظ الحقيقية ولا تعتبر إذا دل العرف والعادة على استعمال هذه اللفظة استعمالاً مغايراً لمعناها الحقيقي، ويبني الحكم على المعنى الذي دل عليه العرف والعادة.(الوجيز في إيضاح قواعد الفقة الكلية ص300)
كما أن الأصل في الكلام الحقيقة فالأصل عدم الاشتراك(شرح تنقيح الفصول ص252)

تابعنا في فيسبوك

دليل القاعدة:
1- لو لم يكن الأصل في الكلام الحقيقة، لكان الأصل إما أن يكون هو المجاز، وهو باطل بإجماع الأمة، أو لا يكون واحد منهما أصلاً، أو يكون عليهما معاً؛ والثلاثة الأخيرة باطلة، فتعين الأول.
لأنه لا يجوز حمله على مجازه؛ لأن شرط الحمل على المجاز حصول القرينة؛ فإن الواضع، لو أمر بحمل اللفظ عند تجرده على ذلك المعنى، لكان حقيقة فيه؛ إذ لا معنى للحقيقة إلا ذلك.
و لا يجوز حمله عليهما معاً لأن الواضع لو قال: (احملوه وحده عليهما معا) كان اللفظ حقيقة في ذلك المجموع، ولو قال: (احملوه إما على هذا، أو على ذاك) كان مشتركا بينهما.
ولا يجوز أن يحمل على واحد منهما البتة؛ لأنه على هذا التقدير يكون اللفظ حال تجرده من المهملات، لا من المستعملات، وإذا بطلت هذه الأقسام الثلاثة، تعين القسم الأول، وهو المطلوب. (المحصول للرازي 1/ 342،
نفائس الأصول في شرح المحصول 2/ 868)


2- إجماع الكل على أن الأصل في الكلام الحقيقة، وروي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: (ما كنت أعرف معنى الفاطر، حتى اختصم إلي شخصان في بئر، فقال أحدهما: فطرها أبي، أي: اخترعها)، وقال الأصمعي: (ما كنت أعرف الدهاق، حتى سمعت جارية بدوية تقول: اسقني دهاقا، أي: ملآنا). (المحصول للرازي 1/ 341)
فهاهنا استدلوا بالاستعمال على الحقيقة، فلولا أنهم عرفوا أن الأصل في الكلام الحقيقة، لما جاز لهم ذلك.(نفائس الأصول في شرح المحصول 2/ 869)
3- أن المجاز لا يتحقق إلا عند نقل اللفظ من شيء إلى شيء، لعلاقة بينهما، وذلك يستدعي أمورا ثلاثة: وضعه للأصل، ثم نقله إلى الفرع، ثم علة للنقل، وأما الحقيقة، فإنه يكفي فيها أمر واحد، وهو: وضعه للأصل.
ومن المعلوم أن الذي يتوقف على شيء واحد، أغلب وجوداً مما يتوقف على ذلك الشيء، مع شيئين آخرين معه.

4- أن واضع اللفظ للمعنى، إنما يضعه له، ليكتفي به في الدلالة عليه، وليستعمل فيه.
5- لو لم يكن الأصل في الكلام الحقيقة لكان الأصل إما أن يكون هو المجاز وهو باطل باجماع الأمة.

فُرُوعٌ وتطبيقات:
1- إذَا أوَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ، أَوْ أَوْصَى لَهُمْ، لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ وَلَدُ الْوَلَدِ فِي الْأَصَحِّ لِأَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ حَقِيقَةً فِي وَلَدِ الصُّلْبِ، وَفِي وَجْهٍ نَعَمْ، حَمْلًا لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. (الأشباه والنظائر للسيوطي ص63، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص60)
2- لَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ، أَوْ لَا يَشْتَرِي، أَوْ لَا يُؤَجِّرُ، أَوْ لَا يَسْتَأْجِرُ، أَوْ لَا يُصَالِحُ عَنْ مَالٍ، أَوْ لَا يُقَاسِمُ، أَوْ لَا يُخَاصِمُ، أَوَّلًا يَضْرِبُ عَبْدَهُ أو ولده، فَوَكَّلَ فِي ذَلِكَ، لَمْ يَحْنَثْ حَمْلًا لِلَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ لَا يُبَاشِرُ ذَلِكَ الْفِعْلَ بنفسه كَالْقَاضِي وَالْأَمِيرِ فَحِينَئِذٍ يَحْنَثُ.
أَوْ كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَعْتَادُ الْحَالِفُ فِعْلُهُ بِنَفْسِهِ، كَالْبِنَاءِ وَنَحْوِهِ حَنِثَ إذَا أَمَرَ بِفِعْلِهِ. (الأشباه والنظائر للسيوطي ص63، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص60)
وَإِنْ كَانَ يُبَاشِرُهُ مَرَّةً وَيُوَكِّلُ فِيهِ أُخْرَى فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ الْأَغْلَبُ.
3- لَوْ قَالَ: وَقَفْت عَلَى حُفَّاظِ الْقُرْآنِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ مَنْ كَانَ حَافِظًا وَنَسِيَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ حَافِظٌ إلَّا مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ نَقَلَهُ الْإِسْنَوِيُّ عَنْ الْبَحْر.
4- وَقَفَ عَلَى وَرَثَةِ زَيْدٍ وَهُوَ حَيٌّ، لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ الْحَيَّ لَا وَرَثَةَ لَهُ. قَالَهُ فِي الْبَحْرِ أَيْضًا: قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: وَلَوْ قِيلَ: يَصِحُّ، حَمْلًا عَلَى الْمَجَازِ: أَيْ وَرَثَتِهِ لَوْ مَاتَ لَكَانَ مُحْتَمِلًا.
5- لَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ أَوْ لَا يَشْتَرِي، أَوْ لَا يَسْتَأْجِرُ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ إلَّا بِالصَّحِيحِ، دُونَ الْفَاسِدِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَقَائِقَ الشَّرْعِيَّةَ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالصَّحِيحِ، دُونَ الْفَاسِدِ.(الأشباه والنظائر للسيوطي ص63، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص60)
6- لَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّار لِزَيْدٍ كَانَ إقْرَارًاً لَهُ بِالْمِلْكِ، حَتَّى لَوْ قَالَ أَرَدْت أَنَّهَا مَسْكَنُهُ لَمْ يُسْمَعُ. (الأشباه والنظائر للسيوطي ص63، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص60)
7- لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُل دَارَ زَيْدٍ لَمْ يَحْنَثْ إلَّا بِدُخُولِ مَا يَمْلِكُهَا، دُونَ مَا يَسْكُنُهَا بِإِعَارَةٍ أَوْ إجَارَةٍ ; لِأَنَّ إضَافَتَهَا إلَيْهِ مَجَازٌ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ مَسْكَنَهُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ مَسْكَنَهُ لَمْ يَحْنَثْ بِدُخُولِ دَارِهِ الَّتِي هِيَ مِلْكُهُ وَلَا يَسْكُنُهَا فِي الْأَصَحِّ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَسْكَنَهُ حَقِيقَةً. (الأشباه والنظائر للسيوطي ص64)
8- لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الشَّاةِ، حَنِثَ بِلَحْمِهَا، لِأَنَّهُ الْحَقِيقَةُ، دُونَ لَبَنِهَا وَنَتَاجِهَا لِأَنَّهُ مَجَازٌ. نَعَمْ، إنْ هُجِرَتْ الْحَقِيقَةُ تَعَيَّنَ الْعَمَلُ بِالْمَجَازِ الرَّاجِحِ، كَأَنْ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِثَمَرِهَا، وَإِنْ كَانَ مَجَازًا دُون وَرَقِهَا وَأَغْصَانِهَا وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً. (الأشباه والنظائر للسيوطي ص63، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص61)
9- لو حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ دِجْلَةَ حَنِثَ بِالْكَرْعِ لِأَنَّهُ الْحَقِيقَةُ وَلَا يَحْنَثُ بِالشُّرْبِ بِيَدِهِ، أَوْ بِإِنَاءٍ، بِخِلَافِ لو حلف لا يشرب مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ.
تَنْبِيهٌ:
قَدْ يُشْكِلُ عَلَى هَذَا الْأَصْل مَا لَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي، فَالْأَصَحُّ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِالتَّحَرُّمِ وَفِي وَجْهٍ: لَا يَحْنَثُ إلَّا بِالْفَرَاغِ ; لِأَنَّهَا قَدْ تَفْسُدُ قَبْلَ تَمَامِهَا، فَلَا يَكُونُ مُصَلِّيًا حَقِيقَةً وَهَذَا هُوَ قِيَاسُ الْقَاعِدَةِ، وَفِي ثَالِثٍ: لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَرْكَع ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُون أَتَى بِالْمُعْظَمِ، فَيَقُومُ مَقَامَ الْجَمِيعِ (الأشباه والنظائر للسيوطي ص64) وقال ابن نجيم: لَا يَحْنَثُ إلَّا بِرَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهَا الْحَقِيقَةُ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ آتِيًا بِجَمِيعِ الْأَرْكَانِ. وَهَلْ يَحْنَثُ بِوَضْعِ الْجِهَةِ، أَوْ بِالرَّفْعِ؟ (الأشباه والنظائر لابن نجيم ص62)

فرع:
إذا دار اللفظ بين الحقيقة المرجوحة، والمجاز الراجح، فأيهما أولى؟
فعند أبي حنيفة: الحقيقة المرجوحة أولى.
وعند أبي يوسف: المجاز الراجح أولى.
ومن الناس من قال: يحصل التعارض؛ لأن كل واحد منهما راجح على الآخر من وجه، ومرجوح من وجه آخر؛ فيحصل التعارض.
قال القرافي: اعلم أن المجاز المفرد أن ينقل الاسم المفرد عن المعنى المفرد إلى معنى مفرد فأكثر. (المحصول للرازي 1/ 341، نفائس الأصول في شرح المحصول 2/ 870)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى