بحوث ودراسات

النِّظام العالمي بين نهاية الحرب الباردة وبداية الحرب العالميَّة الثَّالثة (5 من 10)

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

انتهاء الحرب الباردة يفرض نظامًا اقتصاديًّا جديدًا

كان من الطَّبيعي أن يخلِّف انهيار الاتِّحاد السُّوفييتي، قائد المعسكر الاشتراكي، بعد انتهاء الحرب الباردة لصالح الغرب الرَّأسمالي، نظامًا اقتصاديًّا عالميًّا جديدًا، تُحكم الولايات المتَّحدة، باعتبارها زعيمة المعسكر المنتصر في الحرب المستمرَّة لما يقرب من نصف قرن، فيه قبضتها على دفَّة قيادة عالم المال، وتفرض من خلاله ما شاءت من قيود على الشُّعوب. ويحلِّل الدُّكتور عزَّت السَّيِّد أحمد ماهيَّة ذلك النِّظام الجديد في كتابه النِّظام الاقتصادي العالمي الجديد: أبعاده وآفاقه (1993م)، في محاولة لكشف أبعاده والتَّنبُّؤ بآثاره، وإن كان قد توقَّع ألَّا يختلف عن النِّظام السَّائد قبل انهيار الاتِّحاد السُّوفييتي، من حيث استئثار فئة محدودة من الثَّروة في مقابل فقر السَّواد الأعظم من أهل الأرض، واستغلال الطَّبقة المستحوذة على الثَّروة حاجات الشُّعوب المادِّيَّة في فرْض أمر واقع يتناسب مع مصالح الطَّبقة الثَّريَّة. ويوضح المفكِّر الإسلامي صعوبة تحديد ملامح النَّظام الاقتصادي الجديد في تلك المرحلة، بُعيد انهيار الاتِّحاد السُّوفييتي، بقوله (صـ12):

تابعنا في فيسبوك


إنَّ المعطيات المعاصرة تشير وبكلِّ قوَّة إلى أنَّ النِّظام العالمي الجديد لم يبدأ بعد، وإنَّما نحن أمام إرهاصاته وممهِّداته الأولى، بمعنى أنَّه سائر نحو التَّحدُّد والتَّبلور. والمشكلة الحقَّة أنَّ القرائن والتَّحرُّكات المعاصرة، الَّتي تدور في الخفاء والعلن، تجعل من الصُّعوبة التَّكهُّن بأبعاد النِّظام العالمي الجديد، وأعني تحديدًا إلى مَن ستؤول موازين القوى في المرحلة القادمة، لأنَّ جوهر النِّظام العالمي لن يختلف البتَّة عن سابقه، فالأقوى هو المسيطر والمستبدُّ، والضَّعيف هو المنتَهك والمخترَق.  

يحدِّد المفكِّر الكبير أهمَّ أسباب فشل النَّظام الاشتراكي، وهو تعميم الملكيَّة العامَّة، أو ما يُطلق عليه دولنة الاقتصاد، انطلاقًا من فرضيَّة أنَّ الإنسان بطبيعته ليس ميَّالًا للتَّملُّك، والَّتي بنى عليها كارل ماركس نظريَّته الاقتصاديَّة. أمَّا عن تأثير التَّعميم الكامل للملكيَّة العامَّة، فكان العجز عن تحقيق الكفاية الإنتاجيَّة، بل وعرقلة الإنتاج؛ حيث أفضت محاولة تحقيق التَّكافؤ في الفرص إلى الاتِّكاليَّة وانعدام الشُّعور بالمسؤوليَّة، بعد أن أصبح الجميع يحصل على نفس القدر من الأجر، بغضِّ النَّظر عن مقدار اجتهاده في الإنتاج. ومع ذلك، فيُذكر من إيجابيَّات النِّظام الاشتراكي أنَّه سعى إلى إعفاء المواطنين من الأعباء، وتوفير مصادر الدَّخل لهم، وكذلك منْع الاحتكار والتَّحكُّم في الإرادة الشَّخصيَّة ومقايضتها بلقمة العيش. 

اعتقد البعض أنَّ انهيار الاشتراكيَّة سيفسح المجال أمام الاقتصاد الحر، أو المختلط، وفق النَّظريَّة الكنزيَّة في الاقتصاد (Keynesian economics)، الَّتي خرج بها الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز أوائل القرن العشرين للميلاد. قامت تلك النَّظريَّة على مشاركة القطاعين العامّ، المملوك للدَّولة، والخاصّ، المملوك للمستثمرين العاديين، في تكوين سوق حرّ، في إطار علاقة تكامليَّة ترمي إلى محاربة الكساد والبطالة. كما يرى المفكِّر الكبير، كان هدف تلك النَّظريَّة الليبراليَّة حماية المعسكر الرَّأسمالي من تهديد الثَّورة الاشتراكيَّة، في محاولة لادِّعاء أنَّها كانت نظريَّة عادلة تفتح المجال أمام الجميع للاستثمار وتحقيق الرِّبح. غير أنَّ الحقيقة هي أنَّها لم تقضِ على الاحتكار، بل وميَّزت كيانات اقتصاديَّة على غيرها، وخلَّفت مشكلة كبيرة أمام أباطرة عالم المال في الغرب، وهي تقدُّم اقتصادات صاعدة، مثل اليابان والصِّين وكوريا وتايوان، وفي ذلك ما يهدِّد الهيمنة الرِّأسماليَّة الغربيَّة على اقتصاد العالم.

بعد فشل كلِّ من النِّظام الاشتراكي، بتعميم الملكيَّة وقصرها على الدَّولة، والنِّظام الاقتصادي الحرِّ، بتكوين علاقة تكامليَّة بين ملكيَّة الدَّولة والملكيَّة الفرديَّة، من الطَّبيعي أن يتوقَّف تطبيق كلا النِّظامين لفترة من الزَّمن، ليكون البديل الأنسب حينها هو النِّظام الرَّأسمالي في صورته الجديدة، وهي تدويل رأس المال بتأسيس شركات عابرة للقوميَّات (Transnational corporations)، تزعم تقديم مساعدات اقتصاديَّة للدُّول المعوزة، بينما هدفها هو تكوين منظومة ماليَّة تكرِّس تبعيَّة تلك الدُّول للاقتصادات الغربيَّة، وتشرعن استحواذ تلك الاقتصادات على ثروات تلك الدُّول، وتمنع أيَّ صعود اقتصادي لها ينهي تلك التَّبعيَّة. 

الإمبراطوريَّة الأمريكيَّة آيلة للزَّوال!

يذكِّر السَّيِّد أحمد بما سبق وأن أورده في كتابه آنف الذِّكر كيف ستواجه أمريكا العالم؟: الهيمنة الأمريكيَّة والنِّظام العالمي الجديد (1992م)، في فصل مستقلٍّ، عن عوامل انهيار سيَّدة الممالك وإمبراطورة العالم في العصر الحالي، الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، الَّتي ستسري عليها سُنَّة الله، وترى من الهلاك بسبب تجبُّرها في الأرض ما رأت الأمم السَّابقة الَّتي تحدَّت الإرادة الإلهيَّة وأفسدت في الأرض. اعتبرت الولايات المتَّحدة نفسها صاحبة اليد العليا في العالم، بعد انهيار الاتِّحاد السُّوفييتي، وبدأ الحديث ينتشر عن تأسيس نظام عالمي جديد أحادي القطب، بعد أن كان ثنائي القطب، ينازع فيه الاتِّحاد السُّوفييتي الولايات المتَّحدة شطرًا من هيمنتها على العالم. غير أنَّ الحقيقة الواقعيَّة هي أنَّ الولايات المتَّحدة، ومنذ عقود وبشهادة المنصفين من مفكِّريها كما سبق الإيضاح، تعاني من إرهاصات الزَّوال والانهيار، ولعلَّ فيما يذكره مواطنها، هانس شميدت، في كتابه السَّيطرة الألمانيَّة في أوروبا: نظرة إلى المستقبل، خير تعبير عن ذلك. يقول شميدت، نقلًا عن السَّيِّد أحمد (1993م، صـ26):

إنَّ بلادنا (أمريكا) تترنَّح الآن على حافَّة الاكتئاب، ومدَّخراتها بدأت بالنَّفاد، والملايين بدونم مأوى، ومعدَّل الجريمة يُعتبر أعلى معدَّل بين أمم الغرب، وعندما يتحدَّث السِّياسيُّون عن “المحافظة على طريقتنا في الحياة”، فالمرء يفترض أنَّ هذا الا ينطبق على الابتذال الثَّقافي أو ظروف الحياة في مدن أمريكا الدَّاخليَّة، وتبقى الحقيقة


وهي أنَّ أمَّتنا قد بدَّدت ثروتها ومركزها الأخلاقي في العالم من خلال تدخُّلها الدَّائم في شؤون بلدان أخرى…ففي هذا المجال أطالت أمَد الحروب، وأطاحت بحكومات شرعيَّة، ودمَّرت ثقافات قديمة، وتركت الأمور أسوأ ممَّا كانت عليه في السَّابق.

ويوجز المفكِّر الكبير عوامل الانهيار الحتمي للإمبراطوريَّة الأمريكيَّة في ثلاثة أمور، هي التَّراجع في مواجهة المنافسين، والعجز المالي، والاستدانة، هذا إذا ما ركَّزنا على الجانب الاقتصادي المتهالك في الإمبراطوريَّة، ونحَّينا الجانب الاجتماعي بما يعتريه من مشكلات. يجد السَّيِّد أحمد أنَّ الولايات المتَّحدة منذ عقود طويلة لم تعد تحتفظ بمكانتها أمام منافسيها من القوى الاقتصاديَّة الصَّاعدة، لا سيِّما الصِّين واليابان في آسيا وألمانيا في أوروبَّا، وربَّما يرجع ذلك إلى مبالغة الولايات المتَّحدة في تعسير منتجاتها، الَّتي تقدِّم الأسواق الأخرى، وبخاصَّة الآسيويَّة، بدائل أقلَّ تكلفة لها. وقد أفضى تناقُص الطَّلب على المنتجات الأمريكيَّة بدوره إلى حدوث عجز في الميزان التُّجاري لإمبراطورة العالم، الَّذي تجاوز تريليونين من الدُّولارات عام 2021م، وفق ما نشره موقع روسيا اليوم في 11 يونيو 2021م، نقلًا عن لتقرير لوزارة الخزانة الأمريكيَّة.

عجز الميزانيَّة الأمريكيَّة يسجِّل مستوى قياسيًّا

سجَّل عجز الميزانيَّة الأمريكيَّة مستوى قياسيًّا حيث بلغ 2.06 تريليون دولار خلال الأشهر الـ 8 الأولى من عام الميزانيَّة الجاري.

وقالت وزارة الخزانة الأمريكيَّة، في تقرير شهري أصدرته يوم الأربعاء، إنَّ العجز هذا العام أعلى بنسبة 9.7% من العجز البالغ 1.88 تريليون دولار الَّذي سجل خلال نفس الفترة من العام الماضي.

أمَّا عن ديون الولايات المتَّحدة، فقد تفاقمت خلال العقود الأخيرة، وبخاصَّة من جرَّاء التَّأثيرات السَّلبيَّة لانتشار جائحة كورونا منذ أواخر عام 2019م، ليصل حجم ديون الولايات المتَّحدة مطلع عام 2022م إلى 3 تريليون دولار، بحسب ما تناقلت وسائل الإعلام العالميَّة، ومنها موقع “عربيَّة Sky News” في 3 فبراير 2022م.

ديون الولايات المتحدة تتجاوز 30 تريليون دولار

ويتحدَّى السَّيِّد أحمد (1993م) أيَّ ادِّعاء يروِّج لأنَّ الولايات المتَّحدة قد خرجت من حرب الخليج الثَّانية، تزامنًا مع انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتِّحاد السُّوفييتي، منتصرةً، مستندًا في ذلك لرأي المؤرِّخ والأكاديمي البريطاني بول كينيدي، صاحب مؤلَّف أو صعود وسقوط القوى العظمى: التَّغيُّر الاقتصادي والنّزاع العسكري من 1500 إلى 2000 (1987م) آنف الذِّكر، الَّذي تنبَّأ فيه بالانهيار الحتمي للإمبراطوريَّة الأمريكيَّة. فقد صرَّح كينيدي، الَّذي كان يعمل أستاذًا للتَّاريخ بجامعة ييل الأمريكيَّة إلى يومنا هذا، لمجلَّة L’Express الفرنسيَّة الأسبوعيَّة في 28 مايو 1991م، نقلًا عن مجلَّة الكفاح العربي (عدد 670، صـ28-29):

إنَّ انتصار الولايات المتَّحدة في حرب الخليج انتصار واهم، أظهرها على أنَّها تتربَّع على عرش العالم هيمنةً، بينما هي في حقيقة الأمر خلاف ذلك. ويشبع وضْع الولايات المتَّحدة حاليًا وضْع إمبراطوريتين منهارتين هما الإمبراطوريَّة البريطانيَّة والإمبراطوريَّة الإسبانيَّة…

حَكم المؤرِّخ والأكاديمي البريطاني على الولايات المتَّحدة بالانهيار، حتَّى وإن تمتَّعت إلى اليوم بقدر لا يُستهان به من القوَّة العسكريَّة، لكنَّها من النَّاحية الاقتصاديَّة تتهاوى. ولعلَّ في تهافُت الولايات المتَّحدة على إخضاع الدُّول النَّامية الَّتي تتمتَّع بثروات طائلة من الموارد الطَّبيعيَّة ما يوضح مدى حرصها على مواصلة المنافسة في مجال التَّصنيع، لكنَّ فرصها تتضاءل، في ظلِّ الصُّعود المستمرّ للأسواق الآسيويَّة والأوروبيَّة الَّتي استطاعت تجاوُز تداعيات الحرب العالميَّة الثَّانية (1939-1945م)، وأعادت بناء اقتصادها، وعلى رأسها اليابان وألمانيا. يعني ذلك أنَّ استمرار احتفاظ الولايات المتَّحدة بموقع الرِّيادة في هيمنتها على الاقتصاد العالمي يقتضي إشغال الاقتصادات الصَّاعدة بأزمات في الحصول على الموادّ الخام أو مصادر الطَّاقة؛ ربَّما حرب عالميَّة ثالثة!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى