ثقافة وأدب

قالت العرب: “الرائد لا يكذب أهله”


نصير محمد المفرجي

إعلامي وباحث في اللغة العربية.
عرض مقالات الكاتب

يُضرب فيما يُخَاف من غِبِّ الكذب.
جاء في المعجم الوسيط: “الرائدُ من يتقدّم القومَ يبصر لهم الكلأ ومساقط الغيث”؛ فالرائد لغةً: هو الذي يتقدّم الجماعةَ ليتبصّر في أمورها، ويستعلم لها الوقائع التي تتعلّق بمصالحها.

قَالَ ابنُ الأعرابيّ: بعث قوم رائدًا لهمْ فلما أتاهُم قَالوا: ما وراءك؟ قَالَ: رأيت عُشْبًا يشبعْ مِنهُ الجملُ البروكْ، وَتَشكَت منه النساء، وهَمَّ الرَجلُ بأخيه، يقول: العشب قليل لاَ يناله الجمل من قصره حتى يبرك، وقوله “تشكت مِنهُ النِساء” أي مِنْ قِلَّته تحلب الغنم في شَكْوَةٍ، وقوله” وهمَّ الرجُلُ بأخيه” أي تقاطَعَ الناسُ فهمَّ الرجلُ أَنْ يدعو أخاه ويصله من قلة العشب.

اقرأ: قالت العرب: ومَا ذَرَفَتْ عَيْناكِ إلا لتَضْرِبي .. بسَهمَيكِ في أعشارِ قَلبٍ مُقَتَّلِ

وجاء في مجمع الأمثال للميدانيّ بلفظ:
“لاَ يَكْذِبُ الرَائِدُ أَهْلَهُ”.

وهو الذي يُقَدِّمُونه لَيرْتاد منزلًا أو ماءً أو موضع حِرْز يَلْجَؤن إليه من عدوّ يطلبهم، فإن كَذَبهم صار تدبيرهم على خلاَف الصواب، وكانت فيه هَلَكتهم، أي أنه وإن كان كذابًّا فإنه لاَ يكذب أهله.

واعتمادًا على ما يعود به من أخبار ومعلومات، تبني هذه الجماعةُ مواقفَها العامّة، فإمّا أن تتقدّم لإنجاز أمر ما يتعلّق بشؤونها العامّة وبقضاياها المصيرية، وإمّا أن تتراجع عن هذه المواقف وتحجم عنها لما يكتنفها من أخطار تهدّد كِيانَها الجماعي أو مصالحها العامّة.

ولكنْ ثَمّ سؤال لابُدّ من طرحه اليوم؛ فمَنْ رائد المجتمع في العصر الحديث؟ وهل يقوم هذا الرائد بمسؤوليّته ويصدق أهله وجماعته؟

تابعنا في فيسبوك

الواضح للعيان أنّ الريادة أو الدور الرياديّ لم يعد محصورًا اليوم بجهة واحدة أو مسؤول واحد، كما كانت الحال في المجتمع القبليّ أو العشائريّ. فالمسؤول السياسيّ له موقع رياديّ، وعليه أن يصدق أهله، والمسؤول القضائيّ له موقعه رياديّ وأمانته ثقيلة، والمصلح الاجتماعيّ كذلك شأنه، والمعلّم، والمثقف… وهلمّ جرًّا.

ولكنّ ثَمّ موقعًا رياديًّا، انتشرت ظلاله اليوم في كلّ ركن وزاوية من حياتنا، وتعاظم سلطانه على الحياة الاجتماعية، وامتدّت يده الخفيّة لتصنع مفاهيمنا وقيمنا، وترسم لنا أفكارنا وخيالاتنا. أضواؤه تجعل الخامل مشهورًا، والخفيّ معلنًا، والمستور مكشوفًا مُشاعًا.

نعم؛ إنّه الإعلام بما يمتلك من تأثيرات كبيرة في حياة المجتمعات العقديّة والسياسيّة والأخلاقيّة والتربويّة… إنّه الموقع الرياديّ الأوّل في التأثير وصناعة الرأي العام وتوجيه الذوق الجماعي والرؤية الجماعية للحياة والمستقبل.

وهذا الإعلام لم يعد محصورًا في صحيفة أو مجلّة أو شاشة أرضيّة أو فضائيّة، بل تخطّى ذلك إلى إعلام خاص يستطيع الفردُ صناعتَه والوصولَ عن طريقه إلى أكبر عدد من المتلقّين، إنه إعلام المدوّنات على شبكة الإنترنت بشتى مواقعه ومسمّياته وتطبيقاته، الذي يستطيع من يمتلك القليل من المعرفة في استعمالات التقنية أن يخوض ميدانه، وينشئ موقعًا يطلّ من خلاله على عدد غير محدود من المشاركين، ومن ثَمّ صناعة لون من الإعلام المكتوب أو المرئي المفتوح يتجاوز الحدود المكانيّة أو الزمانيّة.

وعلينا أن نعترف لهذا الإعلام بإمكانياته الخارقة في التلاعب بالخبر والصورة واستعمال هذه القدرات في الإصلاح أو في الفساد، في البناء أو في الهدم، في الريادة الصادقة أو في الريادة الكاذبة.

أيّها الإعلاميّون والصحفيّون والناشطون والكُتّاب والباحثون والمثقّفون…

كونوا على قدْر المسؤولية،”فالرائد لايكذب أهله”.

وهذه رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم للإعلام عندما قال “إن الرائد لا يكذب أهله”.

ففي أولى خطبة خطبها بمكة حين دعا قومه، حمد الله وأثنى عليه ثم قال:( إنَّ الرَّائدَ لا يَكذِبُ أَهلَه، واللَّهِ الَّذي لا إلَه إلَّا هوَ إنِّي رسولُ اللَّهِ إليكُم خاصَّةً وإلى النَّاسِ عامَّةً، واللَّهِ لتَموتُنَّ كما تَنامونَ، ولتُبعثنَّ كما تستيقِظونَ، ولتحاسَبُنَّ بما تعمَلونَ، وإنَّها للجنَّةُ أبدًا والنَّارُ أبدًا).

فقد روى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رضى الله عنهما – قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) صَعِدَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِى « يَا بَنِى فِهْرٍ ، يَا بَنِى عَدِىٍّ » . لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولاً لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ «أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِى تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِىَّ». قَالُوا نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلاَّ صِدْقاً. قَالَ «فَإِنِّى نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ». فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَنَزَلَتْ (تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ).

وبهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد وضع للأمة أسس الأعلام فقد اختار مكانًا عاليًا وهو الجبل ليقف عليه وينادي على جميع الناس فيصل صوته إلى الجميع، وهذا ما تفعله محطات الإرسال في عصرنا الحديث لتزيد من عملية الانتشار الإذاعي، ثم اختار لدعوته الأساس المتين ليبني عليه كلامه وهو الصدق، وبهذا يكون – صلى الله عليه وسلم – قد علَّم رجال الإعلام والدعوة أن الاتصال بالناس بهدف إعلامهم أو دعوتهم، يجب أن يعتمد وبصفة رئيسة على الثقة التامة بين المرسِل والمستقبِل: أو بين مصدر الرسالة والجمهور الذي يتلقى الرسالة، وأن المضمون أو المحتوى يجب أن يكون صادقاً لا كذب فيه، كما ذكر الدكتور علي محمّد الصلّابيّ في (السيرة النبويّة).

إن هذه الخطبة القصيرة الموجزة، قد شملت جملة من الأسس والمبادئ، التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم تبليغها إلى قومه الأقربين انطلاقًا من قول الحقّ سبحانه (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)، وتُعدّ هذه أولى مواجهة بين الحقّ والخير، اللذين حملهما الرسول إليهم، والباطل والشرّ الكائنين في النفوس الجاهليّة.

ولذلك اعتمد النبيّ في موقفه على جملة من الأدوات التي تعاضد المقام، وتلائم السياق. وأوّل تلك التعابير قوله: (إن الرائد لا يكذب أهله) فهو يخاطب العرب ـ وهو منهم – بما اعتادوا وألفوا، في حياتهم المعتمدة على مواطن العيش، وهذا الرائد كانوا يختارونه بعناية، لخطورة ما يترتب على أنبائه التي يحملها لهم، فجاءت عبارة النبي معدّة أن يقتحم به نفوس مخاطبيه، يهيئهم للتصديق وقبول ما سيبلغهم به.

وهذه العبارة مَثَل عربيّ، توارثته الأجيال العربيّة، والنبيّ أحد الذين توارثوه، واستعماله للمثل إعلان لهوية العرق والجنس والدم، وتمسّك بالذات العربيّة في عهدها الجديد، ومن الواجب انصهار الذات العربيّة والذات الإسلاميّة في بوتقة واحدة، من أجل هداية البشرية وإنقاذها من سوء المصير.

وقد صدرت الجملة بـ (إن) المؤكّدة وجاءت كلمة (أهله) معبّرة عن أواصر الدم الحميمة بين المثل وما ضرب له، وجاءت العبارات التالية بأسلوب القسم والتوكيد إلى آخر الخطبة. 

وكان المقسم به هو لفظ الجلالة (والله لو كذبت الناس جميعًا ما كذبتكم) وجاءت لو الامتناعية تشير إلى استحالة أن يكذب عليهم أو على غيرهم، وإذا استحال أن يكذب على الناس الآخرين، فكيف يكذب أهله وعشيرته؟ وإذا كان الكذب خداعًا وتغريرًا، فإنه يستحيل أن يغرّهم أو يغرّ غيرهم (ولو غررت الناس جميعًا ما غررتكم).

ولأن الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم أشركوا مع الله آخرين، ومنهم من كفر به وعبد الأصنام والخرافات، من أجل ذلك جاء القسم يواجه من كفَر ومن أشرك (والله الذي لا إله إلا هو)

ولأن الرسول صلّى الله عليه وسلم يعلم علم اليقين التكوين النفسيّ والطبائع السلوكيّة في قومه، فقد جاءت عبارته التي أعلن فيها رسالته ونبوّته في قالب القسم والتأكيد (والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة) فالعبارة المؤكدة بإن واللام المؤكدة، هي جواب قسم.

ويزاوج الرسول صلى الله عليه وسلم بين القسم وأدوات المقاربة والتمثيل، في تبيانه للموت وحقيقته، والبعث وحقيقته (والله لتموتُنّ كما تنامون، ولتبعثُنّ كما تستيقظون، ولتحاسبُنّ بما تعملون).

ولأنه صلّى الله عليه وسلم فصيح بطبعه ويخاطب أهل الفصاحة والبلاغة والبيان، حرص على إشباع ملكة التذوق والبيان، لدى المتلقّين، فجاءت العبارات قصيرة الفقرات، معتمدة على التراسل الصوتي (السجع) بين نهاياتها، ليحدث تلاؤمًا وتلازمًا بين جمال العبارات في الدلالة والمضمون، وجمالها في الشكل والمنطوق.

وفي الخاتمة أقول: يوم قال العرب في العصر الجاهليّ مثلهم المأثور: “الرائد لا يكذب أهله”، كانت أبرز قضاياهم العامة هي: تتبّع مواقع الماء والكلأ في صحراء موحشة تندر فيها المياه وتتقلّص فيها المراعي، أما اليوم فما أكثرَ قضايانا، وما أعقدَ شؤونَنا العامّة، وكم من التساؤلات والهواجس التي تحيط بواقعنا ومستقبلنا! وما أحوجَ المجتمع اليوم إلى رائد يرشد أهله ويضيء في عتمة إرباكاتهم العصريّة فسحة منيرة تهديهم سبل الرشاد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى