مقالات

التآخي في الخنادق هو الحلّ

المحامي عبد الناصر حوشان

عرض مقالات الكاتب

يعتبر كتاب ” عشرة أيام هزّت العالم ” للكاتب الأمريكي اليساري ” جون ريد صاحب أدقّ مرجع يوثّق أحداث الثورة الروسيّة الكبرى في عام 1917. وبما أن مراجعة تاريخ الأمم والاطلاع على تجاربها يمنحنا القدرة على فهم سيرورة التاريخ وأخذ العَبَر من تلك التجارب. يبيّن و يُعدِّد الكاتب في مقدمة كتابه عدد الأحزاب و الحركات السياسيّة و اللجان ، واللجان المركزيّة و الهيئات والاتحادات التي شاركت في الثورة الروسيّة الكبرى ، و الصراع بينها ومن هذه الحركات والأحزاب ” الملكيون – الكاديت ” الدستوريون الديموقراطيّون ” – الاشتراكيون الشعبويّون – حزب العمال الاشتراكي  الذي انقسم الى ” بلاشفة ” و” مناشفة ”  و” مناشفة أمميّون ” ، و ” الأمميّون المتحدون ” – الحزب الاشتراكي الثوري  الذي انشقّ عنه ” المكسيماليّون ” – مجالس الدوما – المجالس الريفيّة – والحرس الأحمر- و الحرس الأبيض   –  التيكنتسيون ” المتوحشّون ” وهم من القبائل الإسلاميّة – فرسان القديس جورجيوس ،- كتائب الموت النسائيّة – اتحاد الضبّاط ، ….” .

اقرأ: شخصيات ومنظمات سورية تطالب بنقل الملف السوري إلى الجمعية العمومية للأمم المتحدة تحت بند ” الاجتماع من أجل السلم”

ويُروى عن الكاتب بأنه قال: … وفي اليوم الثاني ذهب إلى الجبهة لنقل وقائع الحرب التي يقودها كرنسكي رئيس الحكومة الشباطية المؤقتة، ضد البلاشفة والحرس الأحمر الذين انتفضوا ضده، إذ كان جون ريد وفريقه الصحافي يحملون أذونات وأوراق تعريف صادرة عن البلاشفة، لكن حصل أن شنت قوات كرنسكي بمساندة القوزاق هجوما في وقت سابق على المنطقة التي كان جون ريد يروم الوصول إليها فتغيّر الحال، بل اضطرب فالناس حيث لم تعد تعرف لمن تنظم؟ يتقدم ريد إلى أحد الجنود ليسأله من أنتم؟ وكان يريد معرفة هل هم جند كرنسكي أم السوفييت؟ فيجيبه أحد الجند، نحن الحراس.

فيوجه السؤال ثانية محدداً:

– أنتم من جند كرنسكي أم السوفييت؟

فأجابه الشخص ذاته:

– نحن محايدون!

تابعنا في فيسبوك

ثم يقدمون إلى ضابط برتبة عقيد بدا متعجبا، سألنا بأدب كيف وصلتم إلى هنا بدون أن تقتلوا؟ سيدخل كرنسكي المدينة بالنسبة للتصاريح التي تحملون.. ستكون حياتكم في خطر إذا قبض عليكم، لسنا مع كرنسكي، كما ترى نحن في وضع حرج، تلطف العقيد بإرسال مساعده ليرافقنا إلى المحطة، ناظراً من نافذتي في القطار قطعات من الجنود والحرس الأحمر بدون قيادة تتجول.

هذا المشهدان لهما دلالاتهما الكبيرة التي تمكّننا من إسقاطهما على الحالة التي تعيشها الثورة السوريّة في آخر معاقلها في الشمال السوريّ، وسأكتفي بإيراد دلالتين وهما:

– أن من طبيعة الثورات اختلاف المرجعيّات واختلاف الأدوات لكنها رغم الاختلاف يجمعها هدف واحد يفرض عليها جميعاً ” الانسجام والتعايش ” في سبيل تحقيق الأهداف المشتركة والثورة السوريّة ليست استثناء عمّا سبقها من ثورات.

– تأرجح أحوال الثورات بين الانتصار والانكسار، هو من طبيعتها، لكنّ الثورات الحقيقيّة لا تُهزم ، و الثوار الحقيقيّون لا يستسلمون. وهو ما نودّ التركيز عليه في مقالنا هذا وتعويلنا على الله تعالى ثمّ على صمود وشجاعة وصبر أبنائها وحملة رايتها وإخلاصهم في العمل على تحقيق أهدافها بالتحرّر من هذا النظام المجرم وطرد حلفائه الغزاة الروس والإيرانيين.

إنّ الخطر الحقيقيّ الذي يتهدّد وجود الثورة هو التناقضات والخلافات البينيّة على أمور ثانويّة يمكن تأجيلها ولا يضرّ ذلك وحدة العمل ورصّ الصفوف بين كل أطراف الثورة لتحقيق الأهداف المشتركة التي لم يختلف أيّاً من أولئك المتصارعون عليها حتى الآن فالجميع ما زال يدّعي تمّسكِهِ بثوابت الثورة ويعمل على تحقيقها.

كل مشاكلنا على مستوى الثورة ناجمة عن الخلط في المفاهيم، والاختلاف حول الآليات، حيث انقسم المتصدِّرون مسؤوليّة القيادة بين من يُعِدّ العدة لإسقاط النظام وبين من يسعى لبناء الدولة قبل إسقاطه، فتضاربت الأهداف واختلفت الأولويات ووقعت الخصومات، ممّا أدّى إلى تعثّر الجهود وهدر الإمكانيّات وفتور الهِمَم، وخيبة الآمال.

كما أننا نعاني على المستوى العام من حالة انسداد الأفق، والتصادم الناجم عن عدم قبول الآخر” المحسوب علينا “، وانغلاق أبواب الحوار مع المختلف بالرأي وبالتالي تكريس الشقاق والنفور والإقصاء، واعتقد أن سبب ذلك يعود لعدم التفريق بين مفهومي ” التعايش والتجانس “، فالتعايش هو جوهر ” أدب الخلاف “، على النقيض من التجانس الذي يقتضي التوافق والإئتلاف والانسجام.

يجب علينا أنّ نعلم بأنّ لله سُننٌ في خلقه ومنها ما يحضرنا في هذا المقام سُنتيّ ” التداول والتدافع “، فالمداولة هي في قول الله تعالى:” إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ “. وهي تعني انتقال الغلبة والسيطرة والهيمنة والقوة من قوم إلى آخرين.

وأمّا التدافع: فهو في قول الله تعالى: ” وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ”. والذي يعني: الصراع بين الخير والشر، بين الحق والباطل، بين الإسلام والكفر، والصراعات بين الأمم فيما بينها أو فيما بينها وبين الأمم الأخرى قائم إلى يوم القيامة.

 وأن الحكمة من هاتين السنتيّن هو ” الاستخلاف والتمكين في الأرض ” لمن أقام سنن الله وشريعته حقّ القيام، الاستخلاف الذي يقوم على التوازن والعدل والإنصاف، ويعتبر” التعايش والتجانس ” من مقوِّمات الاستخلاف والتمكين ” فالتعايش يعني: الاعتراف بوجود الآخر، وليس بالضرورة اعتراف صِحّة، والتعامل معه بالبرّ والقسط، وعدم العدوان عليه أو إخراجه من الديار إلا إن وقع منه ما يوجب ذلك، والتفاهم والحوار معه بالتي هي أحسن.

وهذه السُنن جارية على الناس على مستوى الأفراد والجماعات و الدول، و بطبيعة الحال على الشعب السوري في كل مكان و المناطق المحررة ليست استثناء منها ، فلو أجريت دراسة حيادية  وشفّافة على واقع المحرر لرأينا أن الأغلبية العظمى من الناس منسجمة مع  الوضع العام رغم كل المشاكل الناجمة  عن التهجير القسري  و الفقر و الحصار والقصف ، و اختلاف “الأيديولوجيات ” و تفرّق الفصائل  ويقوم الانسجام لدى هؤلاء على قاعدة التوافق و التكامل والتشارك الذي فرضته وحدة الهدف ووحدة المصير ،  كما أنّها تعيش حالة من التعايش  بين كثير من المختلفين أيديولوجيا و فصائليا و مناطقيّاً ” مناطق حكومة الإنقاذ و مناطق الحكومة المؤقّتة ” ويعود ذلك لأسباب وحدة العائلة والعشيرة و الأسرة و المدينة الموزّعة على هذه المناطق .

 ويسري هذا الحال على أغلب الفصائل العسكريّة العاملة في المناطق المحررة، بسبب توزّع المقاتلين على كل الفصائل والذين تربطهم روابط الأخوة بالدم، أو العصوبة، أو النسب، أو الانتماء العشائري، أو المناطقي، ويمكن حصر مشاكل هذه المناطق في قلة قليلة من الأشخاص الذين يلعبون على التناقضات وقد أصبحوا معروفين للناس بالاسم بسبب تكرار أفعالهم تلك.

وعليه يمكن القول: أن التفكير في استئصال الآخر تفكير قاصر، مُدَمِّر، لأن ثمنه باهظ من الأرواح، و العتاد، و أخطر وأفدح الخسائر التي ستنجم عنه ” قتل الأخ أخيه و الأب بنيه “، و أن الحكمة تقتضي التعايش معه حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً ، سيما و أن أعداء الثورة أظهروا تعايشهم مع الواقع الذي نراه من خلال التفاهمات الإقليمية والدوليّة ، نحن أولى بالسعي  لتحقيق وحدة الصف و إن لم نستطع وجب علينا التعايش مع الأمر الواقع لأن ذلك من مقتضيات المصلحة العّليا للثورة و الحاضنة الثوريّة .

إن عوامل التمكين في المُحرّر هي ” الثقة والتعاون والتشاركيّة واحترام الحقوق الأساسية وتأمين الخدمات الأساسية حتى ولو كنت بالحد الأدنى من مقومات الحياة من ” مسكن ومطعم ومشرب ” ثم الأمن والعدل التي تؤسّس للصمود والاستمراريّة في مقارعة الأعداء الذين يلعبون على وتر إطالة أمد الصراع على أمل كسر معنويات هذا الشعب وهزيمته التي إن تحقّقت” لا سمح الله ” كفت الأعداء مؤونة هزيمة الثورة.

ومن عوامل السقوط ” النفور ” من الثوار، والكُفر بالثورة الذي ينجم عن فقدان الثقة بالثورة وقيمها، وسيادة الأنانية وروح التعصّب المقيت وتسلّط الانتهازيّين والمتسلقين.

ومن عوامل الهزيمة استحكام الخلافات وانتشار الصراعات الجانبيّة الناجمة عن الاختلافات الفكريّة والسياسيّة والإيديولوجية والحزبيّة والمذهبيّة والدينيّة أوعن تضادّ العادات والأعراف والتقاليد، التي تؤدّي إلى وقوع المظالم بدوافع ونزعات سلطويّة أو تحقيق مطامع ماديّة وتنتهي غالباً إلى اقتتال دموي.

إن زجّ المجتمع في الصراعات الجانبيّة والتجييش المناطقيّ واستحضار كل أنواع العصبيّات عند أي خلاف يقع بين الفصائل سواء كان على الصعيد الداخليّ للفصيل أو على صعيد الفصائل المختلفة هو من أخطر الممارسات التي تُهدّد بنية المناطق المحررة لأنها تعتبر مقدمة لحرب أهلية لا تبقي ولا تذر يسعى إليها النظام ليلاً ونهاراً ويٌسعِّر لها عبر شبكات عملائه وجواسيسه في المُحرر أو على وسائل التواصل الاجتماعي.

كما يُلاحظ أنّ بعض ” شماشين الثورة ” يحمِل في صدره كمّ هائل من الحِقد أعمى بصرهم وبصيرتهم ودفعهم للقيام بتصرّفات فيها التهلكة لهم وللناس وكأنّ حالهم يقول ” عليّ وعلى أعدائي “. هذا الحال يُسقِط عن صاحبه أي فضيلة أخلاقيّة أو ثوريّة، فالحاقد هو عدوّ نفسه قبل أن يكون عدوّ أهله لذا فإن الحاقد على غير العدوّ لا يصلح للثورة.

وأنّ الثورة التي تبقى حبيسة “الأنا ” ليست ثورة وإنما هي ” سَورَة ” ومعيار التفريق بينهما هو شعور بالغضب ووجهتِه فالثورة هي غضبٌ ” للغير ” على وجه العموم ضدّ العدوّ الظالم العام، وأمّا “السورة ” هي شعور بالغضب للنفس فقط على وجه الخصوص ضد خصمٍ أو عدوٍ شخصيّ يمكن سحبه على مجموعة أو فصيل أو حِزب. وقد أقرّ فقهاء القانون الدافع الشريف عذراً شخصيّاً مُحِلّاً من العقاب باعتبار أنّ الجاني أقدم على ارتكاب جريمته تحت تأثير ” سورة الغضب ” الناجم عن ضبط شقيقته أو زوجته على فراش عشيقها.

وأخيراً: لقد قِيلَ بأنّ الكائنات غير القادرة على التأقّلم تنقرِض. وعليه فإن الإنسان الحرّ قادر على التأقّلم مع كل حال إلا مع حياة العبوديّة والظُلم واليأس لأن فيها موته، وبما أنّ علاقاتنا الإنسانيّة تدور في فلك ثُلاثيّة ” الاختلاف والخصومة والعداوة ” فمن الحكمة والرُشد والسداد قبول الأخر والتعايش معه، والحيلولة دون تحوّل الاختلاف إلى خصومة، وضبط الخصومات والحيلولة دون تحوّلها إلى عداوات مستحكمة، و تحجيم العداوات ومحاصراتها لكيلا تنقلب إلى عصبيّات جاهليّة. ولنا في سيدنا معاوية بن سفيان ” صاحب الشعرة ” قدوة، حينما سُئل كيف حكمت الشام أربعين سنة رغم القلاقل والأحداث السياسية المضطربة، قال: لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، قيل: وكيف؟ قال: لأنهم إن مدّوها خلّيتها وإن خلّوا مدَدْتُها.

إن الشعب السوري الحرّ دفع ثمناً غالياً في سبيل ثورته  حيث هُجِّرَ من دياره حامِلاً معه كرامته و شرفه وثورته وهي أغلى و أثمن ما عنده ، تاركاً وراءه كل شيء من متاع الدنيا في سبيل استرداد حقوقه المسلوبة و إقامة نظام حكم عادل يحترم الإنسان و يصون الحقوق   و يحمي الأوطان ، لذلك فإن إلغاء الفصائل و الأحزاب و مؤسسات الثورة الارتباطات الخارجيّة السريّة، و التخلّي عن روح التعصّب بكل صوره ” المناطقيّة، الفصائليّة ، العشائريّة ،الإيديولوجية ، الحزبيّة ، السياسيّة ، الدينيّة … ” هو الشرط الأساسي لانتصار الثورة و التفاف الشعب حول ثواره و أحراره ، و ليعلم كل قادة الفصائل بأنه كُلّما زاد عدد الحياديّين عند نزاعاتهم و اقتتالهم كلّما زادت عُزلتِكم ، و كلما تجاهلتم أهالكم كلّما زاد بعدهم عنكم ونبذو كم و سقطتم من أعينهم ، ومن أراد منكم النصر فليس أمامه  إلّا ” التآخي في الخنادق ” على كافة الجبهات السياسية والعسكرية و الثورية ”  ضد أعدائنا و أعدائكم و مواجهتهم بقلب واحدٍ وصفٍّ واحدٍ وسلاحٍ واحدٍ .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى