بحوث ودراسات

النِّظام العالمي بين نهاية الحرب الباردة وبداية الحرب العالميَّة الثَّالثة (4 من 10)

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

يؤكِّد السَّيِّد أحمد (1992م) أنَّ غضِّ الولايات المتَّحدة الطَّرف عن تجاوزات الاحتلال في حقِّ عرب فلسطين يبرهن على “العجز الأمريكي عن الضَّغط على الكيان الصُّهيوني وإلزامه بمبادئ الشَّرعيَّة الدُّوليَّة واحترامها”، متسائلًا “كيف ستُنجح الولايات المتَّحدة مؤتمر السَّلام؟!” (صـ100). وصدق تنبُّؤ المفكِّر الكبير بشأن عجْز، أو لتقل امتناع، الولايات المتَّحدة، عن حلِّ الصِّراع العربي-الصُّهيوني، حتَّى إعلان خطَّة ترامب للسَّلام، أو صفقة القرن، في يناير 2020م، ليصرِّح السِّياسي البارز ورئيس الوزراء الإسرائيلي السَّابق، بنيامين نتنياهو، في أعقابها بأنَّها قد “وضعت حدًّا لأوهام حل الدَّولتين”، وذلك خلال مشاركته في مؤتمر “جمعيَّة مسيحيين موحدين من أجل إسرائيل” أواخر يونيو 2020م. ويشكِّك المفكِّر الكبير في أيِّ دعاية أمريكيَّة تروِّج لسعي شرطي العالم لإنهاء الصِّراع العربي-الصُّهيوني؛ لأنَّ الغرب بقيادة ذلك الشُّرطي العربيد هو الَّذي أوجد الكيان المحتلّ ودعَّمه الإمكانات؛ “لأنَّ وجوده هو الضَّامن الأوَّل والأكيد لمصالحه، والمنفِّذ المخلص لمخطَّطاته” (صـ102).

أمَّا عن المهام الَّتي تسندها قوى الاستعمار الجديد، وعلى رأسها الولايات المتَّحدة، إلى دولة الاحتلال الصُّهيوني، فهي السَّيطرة على الثَّروات الطَّبيعيَّة في العالم العربي، وبخاصَّة النَّفط؛ وإعاقة الوحدة بين سائر الأقطار العربيَّة، الَّتي من شأنها الانقضاض على الكيان الغاصب وإنهاء الاستنزاف الأجنبي لثروات العرب؛ والحيلولة دون ارتقاء العرب إلى مصافِّ الدُّول المتقدِّمة؛ وتوفير قاعدة عسكريَّة غربيَّة هي الأكبر على الإطلاق، من شأنها تأمين الاستنزاف الغربي لثروات المنطقة، والسَّيطرة على منافذ تصدير الطَّاقة والمواد الخامِّ من مضائق ومعابر. ويعلِّق السَّيِّد أحمد (1992م) على أسباب عدم إمكانيَّة استغناء الغرب، الصَّانع الحقيقي لدولة الاحتلال الصُّهيوني وليس الولايات المتَّحدة أو بريطانيا بمفردها، عن وجود ذلك الكيان في منطقة الشَّرق الأوسط بقوله (صـ107):

إنَّ هذه العوامل مجتمعة ومتفرِّقة، وغيرها، تجعل استمرار وجود الكيان الصُّهيوني في المنطقة أمرًا يصعب الاستغناء عنه للدُّول الغربيَّة، لأنَّ مصالحها مرتبطة ارتباطًا كليًّا بوجوده، وإذ ذاك لا تغدو المسألة مسألة وجود الكيان الصُّهيوني أو عدم وجوده، وإنَّما هي مسألة تقويته ودعْمه ورفْده بمختلف الإمكانات والطَّاقات العلميَّة والتِّقنيَّة والمادِّيَّة الَّتي تؤهِّله للقيام بواجبه على أكمل وجه دائمًا، ولا سيّما من حيث ضرورة بقائه شوكة في حلْق المنطقة.   

لن ننسى أنَّ الولايات المتَّحدة تأسَّست على الفكر الصُّهيوني، الَّذي يُعتبر المحرِّك الأساسي لسياساتها، كما تُعتبر إسرائيل حجر الزَّاوية لمصالحها في المنطقة، كما يشير محمَّد رشاد الشَّريف في مقاله “العلاقات الأمريكيَّة-الإسرائيليَّة”، المنشور عبر مجلَّة الوحدة (عدد 90) في مارس 1992م. من ثمَّ، فإنَّ من غير المنطقي أن تُقدم الولايات المتَّحدة على إنهاء الوجود الصُّهيوني في الشَّرق الأوسط، فتحرمَ نفسها وحلفاءها من العديد من المزايا والمنافع الَّتي ينعمونها منذ عقود. وبالتَّالي، فالمساعي الأمريكيَّة فيما يتعلَّق بالصِّراع العربي-الصُّهيوني هي لتقويض فرص حلِّ الصِّراع، وليس إيجاد حلِّ يرضي الطَّرفين.

انهيار حتمي للولايات المتَّحدة 

تحت عنوان “أمريكا على حافَّة الهاوية”، يفرد السَّيِّد أحمد خاتمة كتابه (1992م) عن هيمنة الولايات المتَّحدة الحالية على العالم، في تأكيد على أنَّ مصير تلك الهيمنة هو الزَّوال الحتمي، مهما تغطرس شرطي العالم وتجبَّر وعلا في الأرض.


سيسري على الولايات المتَّحدة ما سرى على كافَّة الأمم السَّابقة في التَّاريخ، الَّتي أثارت الأرض وعمرتها، ثمَّ كان عاقبة طغيانها الهلاك باستحقاق العقاب الإلهي، بعد تحدِّي إرادة الله تعالى ومنازعته في تدبيره لأقدار عباده وتصريفه شؤون الكون الَّذي خلقه بيديه، سبحانه. لم يفت القوَّة العظمى الأشدُّ بطشًا في العالم دراسة أسباب انهيار الإمبراطوريَّات السَّابقة، بل وبذلك في سبيل ذلك أموالًا طائلة، واعتقدت أنَّ بتأسيس حكومة عالميَّة موحَّدة تديرها سيتسنَّى لها الإفلات من قانون الطَّبيعة، الَّذي لم تفلت منه أمم كانت أشدُّ منها قوَّة ومنعة. 

تظنُّ سيِّدة الأمم أنَّ بنشر الأقمار الصِّناعيَّة حول العالم، وتأسيس منظومات صاروخيَّة-دفاعيَّة وهجوميَّة-فائقة الدِّقة، والتَّحكُّم في الاقتصاد العالمي عبر مؤسَّسات ماليَّة تابعة لها، والاستئثار بمصادر التَّقدُّم التِّقني أنَّها يمكنها الخلود. غير أنَّ النُّبوءات الَّتي وردت في العهد القديم تشير إلى أنَّ الهلاك هو مصير “ابنة بابل…سيِّدة الممالك…الزَّانية العظيمة”، الَّتي أخضعت ملوك الأرض لسطوتها، حتَّى يُسلَّط عليها سيف العذاب الإلهي (سفر اشعياء: إصحاح 47؛ سفر ارميا: إصحاح 51). وقد تناول مؤلَّف ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: المسيانيَّة في صراع المفسدين على ميراث التَّقوى (2020م) انهيار الولايات المتَّحدة باستفاضة، نقلًا عمَّا أورده الكاتب المصري هشام كمال عبد الحميد في مؤلَّفه هلاك ودمار أمريكا في الكُتُب السماويَّة (2012م) في هذا الصَّدد، الَّذي حاول فيه إثبات أنَّ الولايات المتَّحدة هي الَّتي يشير إليه قول الله تعالى ﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولَى﴾ [سورة النَّجم: 50]، بوصفها عاد الجديدة الَّتي طغت وتجبَّرت ومصيرها الهلاك. وقد أصدر مؤلِّفون أمريكيون عديدون مؤلَّفات تتناول الانهيار الحتمي للإمبراطوريَّة الأمريكيَّة، لعلَّ من أحدثها America, The Farewell Tour (2018م)، أو أمريكا: رحلة الوداع، لكريس هيدجز، وهو صحافي وكاهن يتبع كهنة الكنيسة المشيخيَّة البروتستانتيَّة، يتطرَّق فيه إلى أهمِّ أسباب الانهيار في رأيه، ومنها الفساد الأخلاقي، وانتشار الرَّذيلة وتعاطي المخدِّرات والعنف، هذا إلى جانب سوء توزيع الثَّروة بسبب تطبيق النِّظام الرَّأسمالي النَّفعي الَّذي يقدِّم مصلحة الفرد على الجماعة. 

وقد وقف المؤرِّخ الإسلامي الكبير عند كتاب The Rise and Fall of the Great Powers: Economic Change and Military Conflict from 1500 to 2000 (1987م)، أو صعود وسقوط القوى العظمى: التَّغيُّر الاقتصادي والنّزاع العسكري من 1500 إلى 2000، للمؤرِّخ البريطاني بول كينيدي، الَّذي يتناول فيه أسباب أفول الإمبراطوريَّات العظمى في القرون الخمسة الأخيرة. وبعقد مقارنة بينها وبين الإمبراطوريَّات السَّاقطة، أثبت كينيدي أنَّ مصير الولايات المتَّحدة هو الانهيار، مؤكِّدًا أنَّه بدأ بالفعل، وأنَّ ما تبقَّى في عُمر سيِّدة الممالك لا يتجاوز بضعة عقود. ويعلِّق السَّيِّد أحمد على ذلك بقوله إنَّ الولايات المتَّحدة تعيش الآن على “حُقن الإنعاش المؤقَّتة”، وتعتمد على استعراض القوَّة لإخضاع عملائها من المنفِّذين لسياساتها رغبًا ورهبًا، بينما هي في حقيقة الأمر تعاني من الرُّكود الاقتصادي، والانحدار الأخلاقي، والتَّفسُّخ الاجتماعي (صـ131). ربَّما تنجح الولايات المتَّحدة في إطالة فترة بقائها بعض الشَّيء، اعتمادًا على ما تستنزفه من ثروات الأمم الأخرى، واستغلالًا لغفلة الشُّعوب المسلمة، لكنَّ الانهيار آتٍ وحتمي؛ وحينها سيعلم عملاؤها ممَّن تستقوى بهم على المسلمين أيَّ منقلَب ينقلبون!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى