مقالات

العقل والوحي في ضوء الأديان العالمية

د. محمد القطاونة

أستاذ العقيدة والفلسفة
عرض مقالات الكاتب

 مساحة العقل عند الوحي ومساحة الوحي عند العقل قضية شغلت منذ القديم، وما زالت تشغل علماء الأمة ومفكريها. واتخذت القضية أشكالاً مختلفة وانتحلت أسماء متغايرة، فهي قضية السَمْع والعقل، أو النقل والعقل، أو الخبر والعقل. وهي قضية الرأي مقابل البيان، والنظر مقابل العرفان. وانقسم العلماء في تعريفهم للعلاقة بين الوحي والعقل في دائرة الفقه إلى مذاهب كالحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة والظاهرية، وفي دائرة التوجه العقدي إلى فرق كالخوارج والشيعة والسنة، وفي دائرة التصور إلى مدارس كالحوشية والمعتزلة والأشاعرة والفلاسفة. ومع اجتياح المد الثقافي والحضاري الغربي معاقل الفكر الإسلامي التاريخية ازدادت علاقة الوحي بالعقل تعقيداً، وانضافت إلى المشكلات التي أدت إلى الخلافات المذكورة آنفاً -وهي في حقيقتها مشكلات ارتباط- مشكلة أكثر خطراً وأعظم أثراً، وهي مشكلة انفكاك الوحي والعقل في الخبرة التاريخية الغربية إن المتأمل في الخريطة الفكرية للعالم الإسلامي اليوم يلحظ أن الانقسامات الفكرية الكبرى يمكن ردها إلى قضية العلاقة بين الوحي والعقل.

اقرأ: الدارونية وتأثيراتها السلبية على العلوم والفنون

بل يمكننا القول إنَّ الانقسامات الفكرية تعكس الإشكالية الكبرى التي تواجه العقل في علاقته بالوحي، فانقسام مثقفي الأمة ومفكريها بين الاتجاهين الإسلامي والعلماني يعود هذا الانقسام من حيث دواعيه النظرية إلى الإشكالي المتمثلة في تشديد الفئة الأولى على مصدرية الوحي المعرفية ومرجعيته القيمية وإصرار الفئة اللاحقة على كفاية العقل في توليد التصورات وإنشاء القِيَم وهداية الفرد والمجتمع. كما يمكن إعادة انقسام الإسلاميين بين الاتجاهين الإحيائي والإصلاحي إلى إشكالية التعارض المتمثلة في رفض الإحيائيين كل اجتهاد يخالف في منهجه أو مضمونه التفسيرات التراثية لنصوص الوحي، وتأكيد الإصلاحيين ضرورة إعمال النظر من جديد في نصوص الوحي، وقراءتها قراءة جديدة في ضوء المعطيات المعرفية والاجتماعية المتجددة، إن هذا الخلاف قائم على إشكاليه العلاقة بين الوحي والعقل.

  لذلك لا بد من الوقوف على الرؤية الإسلامية النابعة من مصادره الأصيلة وفكرها الأصيل لقضية الانسجام بين الوحي والعقل، بعيدا عن نظرية الكنيسة الثانية في العلاقة بين الدين والدنيا.

وانه ليس من العسير على الباحث المحقق أن يتبين وجود خط رئيسي قبل الإسلام يفصل انسجام العقل مع فهناك خط فاصل يميز هذه العلاقة قبل الإسلام عنه بعد الإسلام مع أن الإسلام كبقية الأديان يعترف بالوحي، إلا أن الإسلام يتميز بالتحرر من الخصائص الثلاث التي أوجدت الهوة بين الوحي والعقل. فلم ينشأ تصور الألوهية عن ” لاهوت” ولا عن اعتراف بنظام كنسي، ولا عن أقامة الإيمان على أساس القسر وهذه المحاور الثلاثة يتجلى من خلالها الحد الفاصل بين الإسلام وغيره من الأديان والمعتقدات:

أولا: – الصورة غير اللاهوتية لله تعالى التي تثبت وجوده وصفاته، وان لم تدرك ذاته وكنهه: 

 قبل الإسلام كانت الآلهة مجسمة وكانت صورة “الله” ترتبط بخصائص المحلية وتتقمص أبرز الكائنات في كل دولة. فنجد في مصر الثور و القطط و قرص الشمسوفي اليونان نجد الآلهة ناساً كالبشر لهم نزوات البشر ,ولكن لهم قدرات الآلهة وكان تزاوج الآله بالناس وتناسلهم أمراً مقرراً ومؤلوفاً  وعنه صدرت أبرز صور الثالوث القديمة وكان بعض آله اليونان يتقمص شكلاً بشرياً ليتصل بامرأة جميلة, وكان يمكن لابن هذه المرأة أن يكون “نصف إله” – إلخ وما تفيض به الميثولوجيا اليونانية أو التاريخ المصري القديم أكثر .هذا بالنسبة إلى من كان يؤمن منهم بالوحي , وأما الفلاسفة أمثال سقراط فإنهم ينكرون الوحي أصلا, ويرون أن الوحي في حقيقته مجموعة أساطير ابتدعها خيال الإنسان الخصب, وعليه فينبغي أن يستبدل بها أفكارا من نبع العقل يفسر بها الكون.

وحتى اليهودية فإنها تأثرت بطابع المحلية، فجعلت إله بني اسرائيل خاصاً دون الأمم، وأما المسيحية فإن صورة “الله” التي بشر بها المسيح نفسه واتسمت بالبساطة نُسخت بالصورة التي وضعها القديس بول اليوناني الروماني والتي كانت نوعاً من الإسقاط الهيليني على المسيحية ومن الطور الهيليني لليونانية المصرية طوال عهد البطالمة وأخذت فيها شكل ثالوث إلهي.

أما في الإسلام فخلصت الصورة التي قدمها الإسلام للألوهية من التجسيم الوثني والتعقيد الاهوتي والافتراض الفلسفي كما لدى”أفلاطون وأرسطو”، وليس معنى هذا أنها أصبحت مسألة حسابية مثل 1+1=2 , لا يتطلب إدراكها عناء. إذ جعلها الإسلام كالمثل الأعلى الذي تصوره الفلسفة. ولكن بعد إضفاء الصفات والكمال عليه. وكان هذا أمراً تتقبله العقول حتى وإن لم تستطع إثباته بأدلة حسابية أو براهين حسية، لأن الصورة التي قدمها لا يمكن أن تنكرها العقول. فهل يتصور مثلاً إله يخلق دون أن يكون هو نفسه حياً. أو يهدي إلى الكمال دون أن يكون هو نفسه الكمال. إن التصوير الإسلامي لله تعالى يختلف عن التصوير المسيحي ذلك أن المسيحية تأثرت بفكرة الثالوث الإلهي لحل واستساغة و إدراك الذات ” الإلهيه” فزاد الثالوث فهم العقل البشري للذات الإلهية تعقيداً فاختلطت المناظر الطبيعية البشرية و عناصر الطبيعة الإلهية، خاصة وعندما تتولى الكنيسة إيضاح هذا الفهم فلا تزيد الأمر إلا تعقيداً.

والحق: أن الفلسفات القديمة والحديثة لم تستطع تحقيق شيء في فهم ما وراء الطبيعة رغم ذلك التراث الكبير كماً القليل كيفا. وأن ما انتهت إليه من حقائق لا يعدو أن يكون بصيص نور في دياجير مظلمة واستجابات فطرية لأحكام كلية, ينتهي إليها كل سليم الفطرة من بني الشر, وإن لم يتقن أدلتها الفلسفية. 

ولهذا, أعلنت الفلسفة_ بتواضع_ عجزها عن الإنتاج المطلوب في هذا الميدان, وبما أن عماد الفلسفة في المباحث الميتافيزيقية هو العقل فهذا يعني عجز العقل في هذا الميدان . يقول إيمانؤئيل كانت ” إن عقل الإنسان مركب تركيبا يؤسف له, فإنه مع شغفه بالبحث في مسائل لا تدركها حواسنا لم يستطع أن يكشف عن معمياتها” ولما كان العقل هو المصدر المعرفي في هذا المجال, والذي لا يوجد مصدر يعلوه, اتجه كثير من فلاسفة أوروبا المعاصرين اتجاها  خطيرا بسبب الانتهاء إلى ذلك المأزق الكبير . هذا الاتجاه هو اعتبار البحث في عالم ما وراء الطبيعة لغواً لا فائدة من ورائه، ولا معرفة فيه، لأن العقل حينما يتناوله بالبحث لا يقع على حدوس يطبق عليها مقرراته كالحدوس المتوفرة في عالم الطبيعة، ومن ثم فمعرفته غير ممكنه. 

أما في الإسلام فإن الأمر لا يعود إلى عدم الاستساغة، ولكن يعود إلى قصور العقل البشري عن إدراك الألوهية، أو كنهها، أو ما هيتها. لأنها الأصل والمصدر والغاية التي لا غاية وراءها والمثل الأعلى الأعظم المطلق الذي لا تلحقه أي صفة من صفاتنا المحدودة.

 يقول الرازي في تفسيره للآية “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ” “اعلم أنه تعالى رغّب في ذكر الله, ولما آل الأمر إلى الفكر لم يرغب في الفكر في الله, بل رغب في الفكر في أصول السموات والأرض ….. ولما كان الأمر كذلك -لاجرم أمره – في هذه الآية بالفكر في خلق السموات والأرض، لأن دلالتها أعجب وشواهدها أعظم وكيف لا تقول ذلك ولو أن الإنسان نظر إلى ورقة صغيرة من أوراق الشجر رأى في تلك الورقة عرقا واحدا ممتدا في وسطها … ولو أراد الإنسان معرفة خلقه تلك الورقة  وإيجادها وإيداع القوى الغاذية والنامية فيها لعجز عنه. فإذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلقه تلك الورقة الصغيرة ….. عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير وعرف أنه لا سبيل له التبحر إلى الإطلاع على عجائب حكمة الله، فإذا عرف بهذا البرهان النير قصور عقله وفهمه عن الإحاطة بهذا المقام لم يبق معه إلا الاعتراف بأن الخالق أجّل وأعظم من أن يحيط به وصف الواصفين ومعارف العارفين “.

وهذا التصوير حتى وإن لم يُحط العقل بأعماقه وأطرافه، فليس فيه ما يرفضه العقل، وهنا تأتي صورة الانسجام بين الوحي والعقل، فالوحي يضع العقل في ميزانه ويرسم له حدوده وواجباته وممكناته، وهو في هذه المسألة ما يوجبه العقل كذلك. وإن لم يصل إلى كنهه وسره، فالعقل يلمس جانب الحق فيه وواجب وجوده وضرورة كماله، لكنه لا يتم بالكنه أو الماهية. وجاء النظم القرآني المعجز فعرض صورة الألوهية دون تعسف أو تكلف بحيث تتشربها النفوس وتطمئن إليها وتستلهم منها معاني الحرية والرحمة والحق والعدل والجمال، وهو ما يتضح عند مقارنته بالأسلوب الفلسفي اليوناني المعقد في إثبات وجود الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى