بحوث ودراسات

النِّظام العالمي بين نهاية الحرب الباردة وبداية الحرب العالميَّة الثَّالثة (3 من 10)

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

أبعاد فرْض الهيمنة الأمريكيَّة على الدُّول النَّامية

كما سبق الإيضاح، تواجه الولايات المتَّحدة عدَّة خصوم ضمن مساعيها لفرض هيمنتها على العالم. فإلى جانب الاقتصادات الأوربيَّة والآسيويَّة الصَّاعدة، هناك اقتصادات الدُّول النَّامية، الَّتي لن تسمح الولايات المتَّحدة بخروجها عن سيطرتها، باتِّباع أيديولوجيَّات تعادي مصالحها، وبخاصَّة إذا كانت تستند إلى الفكر الإسلامي. تُصنَّف غالبيَّة دول العالم الإسلامي على أنَّها دول متخلِّفة، أو يُطلق عليها دول العالم الثَّالث، ولا شكَّ في أنَّ سبب تخلُّفها يُعزى إلى تمسُّكها بقيم الإسلام، في خضمِّ الانحدار الدِّيني والأخلاقي الَّذي يدعمه الغرب، بزعامة الولايات المتَّحدة، الَّتي نصَّبت نفسها “شرطيًّا” على العالم يتدخَّل في شؤون الدُّول الأخرى بذريعة محاربة التَّطرُّف. على ذلك؛ ما كان للولايات المتَّحدة أن تسمح بأيِّ ممارسات تتعارض مع أركان النِّظام العالمي الَّذي قامت عليه منظَّمة الأمم المتَّحدة، نواة حكومة الدَّجَّال العالميَّة. وبما أنَّ أحكام الشَّريعة الإسلاميَّة تتعارض بالكليَّة مع مبادئ الحريَّة والدِّيموقراطيَّة والدِّفاع عن حقوق الإنسان في الكثير من الأوجه، فلا بدَّ من استبعاد تلك الأحكام؛ لكي يجد النِّظام العالمي الَّذي تريده الأمم المتَّحدة حريَّة كاملة في التَّطبيق. ويوضح السَّيِّد أحمد (1992م) ذلك كما يلي (صـ72).

اقرأ: النِّظام العالمي بين نهاية الحرب الباردة وبداية الحرب العالميَّة الثَّالثة (2 من 10)

إنَّ الولايات المتَّحدة بوصفها الأقوى عسكريًّا وسياسيًّا، وبحكم هيمنتها على العدد الأكبر من دول العالم ذات المواقع الاستراتيجيَّة المهمَّة، وصاحبة الثَّروات المختلفة…لن تسمح بانفلات الأمور من يدها، لتصبحَ من غير ضابط ولا رادع، أو على أيِّ نحو يهدِّد مصالحها أو يمكِّن خصومها منها، ولذلك فرضت ذاتها ومنذ سنوات شرطيًّا يسهر على الأمن والسِّلم العالميين…تتدخَّل متى تشاء وكيفما تشاء.

لا تسفير لاهتمام الولايات المتَّحدة بدول العالم الثَّالث إلَّا بأنَّه يستهدف الاستحواذ على ثرواتها الطَّبيعيَّة وتأمين حصولها عليها بالتَّكلفة الأقلِّ؛ لتدعم قطاعها الإنتاجي من ناحية، وتضمن عدم انتفاع تلك الدُّول من ثرواتها في تحسين أوضاعها وتحقيق نهضة اقتصاديَّة. لا يقلُّ اهتمام الولايات المتَّحدة بفرض هيمنتها على منطقة الخليج العربي عن حرصها الشَّديد على السَّيطرة على محيطها الجغرافي، وتحديدًا على أمريكا الوسطى وكندا وجزر الكاريبي، ويأتي بعد ذلك منطقة الشَّرق الأوسط من باكستان وحتَّى وادي النِّيل والقرن الإفريقي، مع منْح اهتمام خاص للممرَّات والمضائق المائيَّة على البحر الأحمر، والَّتي تعبر من خلالها سفن النَّفط والمواد الخام على اختلافها إلى الغرب. ويُضاف إلى ذلك أنَّ الولايات المتَّحدة تستغلُّ دول العالم الثَّالث في تسويق منتجاتها، وتشتدُّ في تلك الأسواق المنافسة مع منتجات الدُّول الآسيويَّة الصَّاعدة اقتصاديًّا، لا سيِّما الصِّين واليابان، بسبب ارتفاع أسعار المنتجات الأمريكيَّة. غير أنَّ اعتماد الولايات المتَّحدة على الإبهار يدفع أثرياء العرب إلى التَّهافت على منتجاتها!

تابعنا في فيسبوك

لن تغامر الولايات المتَّحدة بالسَّماح للدُّول المسلمة، الَّتي تنعتها بالدُّول “المتخلِّفة”، بتحقيق نهضة اقتصاديَّة اعتمادًا على أحدث منجزات عالم التِّقنيات، التَّقانة، الحديثة؛ لأنَّ في ذلك ما يهدِّد خضوع تلك الدُّول أمام سطوة الشُّرطي الأمريكي. إذا ما أسَّست الدُّول المسلمة أنظمة اقتصاديَّة سليمة تقوم على التَّصنيع باستغلال الموادِّ الخام الطَّبيعيَّة الَّي تزخر بها أراضيها، فإنَّ النَّتيجة الحتميَّة ستكون التَّمرُّد على الاستنزاف الاستعماري الغربي لثروات المسلمين. ولن يتوقَّف ردُّ الفعل الأمريكي على الحيلولة دون ذلك، إنَّما ستستغلُّ الولايات المتَّحدة المنظَّمات الدُّوليَّة التَّابعة لها في إبطال شرعيَّة أيِّ كيان سياسي ينشأ دون الخضوع لإمرتها، وهو ما يوضحه المفكِّر الكبير (1992م) بتلك العبارات (صـ77-78):

ليس من مصلحة الولايات المتَّحدة والدُّول الرَّأسماليَّة الصِّناعيَّة كلِّها تحقيق أيِّ تقدُّم علمي أو تقاني في بلدان العالم الثَّالث النَّامية والمتخلِّفة، لأنَّ ذلك التَّقدُّم سيؤدِّي على نحو أو آخر إلى تحقيق الكفاية الذَّاتيَّة، أو مستوى معيَّنًا منها، وهذا المستوى من تحقيق الكفاية الذَّاتيَّة يعني


إغلاق الأسواق الدَّاخليَّة أمام سلع البلدان الرَّسماليَّة…وإن كان لا بدَّ من نقْل التَّقانة إلى هذه البلدان تحت ضغوط أو ظروف معيَّنة، فإنَّه غالبًا ما يكون على هيئة استثمارات للدُّول الرَّسماليَّة، أو على الأقلِّ تحت إشراف شركاتها ومؤسَّساتها…وليس هذا فحسب، فإنَّ الولايات المتَّحدة بالتَّعاون مع حلفائها، وإشراف هيئة الأمم المتَّحدة، ستقف باسم الشَّرعيَّة الدُّوليَّة حائلًا أمام نشوء أيِّ قوَّة جديدة على السَّاحة العالميَّة، لتظلَّ وحدها بمنزلة الآمر النَّاهي، بل الآمر النَّاهي الأوحد، والشَّرطي الأمين الحريص على الأمن والسِّلم العالميين.

تابعنا في تويتر

والأمثلة على حرْص القوى الرَّأسماليَّة الغربيَّة، بزعامة الولايات المتَّحدة، على وأْد أيِّ مشروع تنموي فعَّال يُخرج العالم الثَّالث عن سيطرتها، وإن كان من أشهرها تدمير المفاعل النَّووي العراقي عام 1981م، في مقابل غضِّ الطَّرف عن البرنامج النَّووي لكلٍّ من دولة ملالي الرَّافضة الصَّفويَّة، أو إيران، ودولة الاحتلال الصُّهيوني، أو إسرائيل. ويعتبر السَّيِّد أحمد أنَّ دول العالم الثَّالث هي دائمًا الفريسة والضَّحيَّة في صراع القوى الاقتصاديَّة الكبرى، بين دول معسكري الشَّرق والغرب أو دول كلِّ معسكر فيما بينها، ومصيرها المفروض عليها من قِبل قوى الاستعمار الجديد هو العوز والجهل ونقْص الموارد والخبرات؛ كي تبقى خاضعة لهيمنة القوى غير المسلمة. من هنا، ينبغي على الدُّول المسلمة النَّهوض والتَّمرُّد على سطوة الاستعمار وأذنابه؛ فالانخداع بشعارات سعي قوى الاستعمار الجديد لتطبيق مبادئ الدِّيموقراطيَّة والعدالة وتوفير عيش كريم للجميع مآله تسهيل إعادة استعمار دار الإسلام ومحو كلِّ ما يمتُّ بصلة للهويَّة الإسلاميَّة.

تجلِّي عور شعارات قوى الاستعمار في موقفها من احتلال فلسطين

تدَّعي الولايات المتَّحدة حرصها على ضبْط الأمن والسِّليم العالميين، ومنْع الصِّراعات الدَّامية بين مختلف الأطراف، لكنَّها مع ذلك تصطفُّ إلى جانب دولة الاحتلال الصُّهيوني في مواجهة الشَّعب الفلسطيني الأعزل، ممَّا يبرز زيف الشَّعارات الَّتي يرفعها الغرب بادِّعاء تأسيسه للدِّيموقراطيَّة والعدالة وعدم التَّمييز على أساس عرقي أو عقائدي. أُسِّست دولة الاحتلال الصُّهيوني على يد اليهود رسميًّا في 14 مايو 1948م، بدافع عقائدي بحت، مستمَدّ من النُّبوءات الكتابيَّة الخاصَّة بأهل الكتاب. وظلَّ الوازع الدِّيني محرِّكًا أساسيًّا للصِّراع بين اليهود وسكَّان الأرض المقدَّسة، وفق التَّسمية القرآنيَّة لأرض فلسطين، من المسلمين، حيث يتحرَّك كلُّ طرف من طرفي الصِّراع وفق وعْد إلهي، تقوم عليه عقيدته الدِّينيَّة، بالنَّصر والتَّمكين. ويرى السَّيِّد أحمد أنَّ الجانب الأخطر في الحرب الباردة، الَّتي خرجت الولايات المتَّحدة منها منتصرة ومتوَّجة على إمبراطوريَّة العالم، لم يكن الجانب العسكري، إنَّما العقائدي، وهو الَّذي يبرِّر دعْم الولايات المتَّحدة، الَّتي أُسِّست على يد المهاجرين البريطانيين من أتباع مذهب التَّطهيريَّة (Puritanism) المنبثق عن عقيدة الصُّهيونيَّة المسيحيَّة. 

غير أنَّ الواقع الجديد الَّذي فرْضه انفراد الولايات المتَّحدة بقيادة النِّظام العالمي بعد انهيار الاتِّحاد السُّوفييتي يحتِّم عليها تعديل موقفها من القضيَّة الفلسطينيَّة، واتِّخاذ مسار محايد في الفصل بين طرفي النَّزاع، كما يرى المفكِّر الإسلامي. يعيب السَّيِّد أحمد على بعض المحلِّلين تفسيرهم غير الواعي، في رأيه، للدَّعم الأمريكي غير المشروط للكيان المحتلّ، وهو أنَّه كان بدافع مواجهة الدَّعم السُّوفييتي المزعوم لقضايا العرب وحماية مصالحها في الخليج. فإذا كان ذلك هو المبرِّر حقًّا، فلماذا يستمرّ الدَّعم الأمريكي لإسرائيل بعد انتهاء الدَّعم السُّوفييتي، هذا إن وُجد، للعرب والمسلمين. ويعلِّق المفكِّر الكبير (1992م) على ذلك بقوله (صـ98-99):

نَظَر التَّفاؤليون العرب إلى موقف الولايات المتَّحدة من القضيَّة الفلسطينيَّة والصِّراع العربي الصُّهيوني، فرأوا، وأكبر الخطأ ما رأوا، أنَّ الدَّعم المتزايد للكيان الصُّهيوني وعدٍّه جزءًا من الكيان الأمريكي، قد كان بدافع الضَّغط على الأنظمة العربيَّة الَّتي يدعمها الاتِّحاد السُّوفييتي، وللوقوف أمام المدِّ الشُّيوعي في هذه المنطقة من جهة، ومن جهة ثانية لضمان مصالحها في منطقة الخليج العربي والمنطقة العربيَّة، أمَّا الآن، ومع زوال التَّهديد الشُّيوعي وتلاشي خطره، وتعزُّز الهيمنة الأمريكيَّة على نفط الخليج العربي، لم يعد هناك ما يسوِّغ لصاحبة الجلالة (الولايات المتَّحدة) أن تستمرَّ في هدر إمكاناتها، وإغداق دعْمها ومساعداتها للكيان الصُّهيوني…

لو كانت الولايات المتَّحدة تريد فعلًا القضاء على بؤر التَّوتُّر والصِّراع في العالم، فكان من الأولى حلِّ القضيَّة الفلسطينيَّة؛ على الأقل لضمان صداقة العرب واحترام المسلمين. غير أنَّ كلَّ ما خرج من يدي السِّياسة الأمريكيَّة حتَّى وقت إنجاز هذا المؤلَّف (1992م) هو تنظيم مؤتمر السَّلام في مدريد أواخر عام 1991م، لعقد مفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، والَّتي مهَّدت بدورها لإبرام اتِّفاقيَّة أوسلو في 13 سبتمبر 1993م. وبرغم أنَّ اتِّفاقيَّة أوسلو تنصُّ على منْح الفلسطينيين حُكمًا ذاتيًّا على ما تبقَّى من أراضي فلسطين التَّاريخيَّة غير خاضع للاحتلال (22 بالمائة)، وبرغم انتزاع تلك الاتِّفاقيَّة اعترافًا فلسطينيًّا، ولو على الورق، بالسِّيادة الإسرائيليَّة على باقي أراضي فلسطين التَّاريخيَّة، لم تُعلن إلى يومنا هذا دولة فلسطينيَّة في إطار ما يُعرف بحل الدَّولتين، أي تأسيس دولة فلسطينيَّة إلى جانب دولة الاحتلال، إيذانًا بإنهاء النِّزاع التَّاريخي. وغير مرجَّح أن تُعلن تلك الدَّولة على أراضٍ تدخل ضمن مخطَّط دولة إسرائيل الكبرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى