بحوث ودراسات

النِّظام العالمي بين نهاية الحرب الباردة وبداية الحرب العالميَّة الثَّالثة (2 من 10)

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

الهيمنة الأمريكيَّة في مواجهة شتَّى القوى الفاعلة في العالم

يقسِّم الدُّكتور عزَّت السَّيِّد أحمد مساعي الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة لفرض هيمنتها على العالم إلى شقَّين، أحدهما يتعلَّق بموقفها من القوى العالميَّة المتقدِّمة المنافسة، والآخر يرتبط بموقفها ممَّا يُطلق عليها دول العالم الثَّالث، أو الدُّول النامية أو المتخلِّفة. إذا بدأنا بالشِّقِّ الأوَّل، نجد أنَّ الولايات المتَّحدة كانت توظِّف منافستها مع المعسكر الاشتراكي، بزعامة الاتِّحاد السُّوفييتي، في تبرير وصايتها على القوى الرَّأسماليَّة الصَّاعدة، حيث جعلت من ذلك المعسكر فزَّاعة تهدِّد بها تلك القوى الصَّاعدة، مدَّعيةً دعْمها صعودها الاقتصادي بتمويل مشروعاتها التَّنمويَّة. غير أنَّ الهدف الحقيقي وراء ذلك الدَّعم كان خدمة المصالح الاقتصاديَّة الأمريكيَّة. أمَّا بعد انهيار الاتِّحاد السُّوفييتي وتشويه الاشتراكيَّة ومحاربتها، فلم يعد من الممكن استخدام تلك الفزَّاعة لإخضاع القوى الغربيَّة الصَّاعدة. لعبت الولايات المتَّحدة، دون شكٍّ، دورًا في غاية الأهميَّة في إسقاط الاتِّحاد السُّوفييتي، وهو ما كشفت عنه مجلَّة التَّايم الأمريكيَّة، في عددها المنشور في 17 فبراير 1992م، بأن سلَّطت الضَّوء على اتِّفاق أُبرم بين الرَّئيس الأمريكي الأسبق، رونالد ريغان (يناير 1981-يناير 1989م)، وبابا الفاتيكان، يوحنَّا بولس الثَّاني، يعود لعام 1982م، حيث قالت المجلَّة، نقلًا عن صحيفة البعث السُّوريَّة (عدد 8773 بتاريخ 18 فبراير 1992م):

إنَّ الرَّئيس الأمريكي السَّابق رونالد ريغان والبابا يوحنَّا بولس الثَّاني بابا الفاتيكان، وضعا خطَّة سرِّيَّة عام 1982م من أجل تنشيط اتِّحاد نقابات العمَّال المستقلَّة في بولونيا…وزعزعة سيطرة الاتِّحاد السُّوفييتي السَّابق على أوروبَّا الشَّرقيَّة…إنَّ هذا الحلف جزءٌ من استراتيجيَّة أكبر كانت تهدف إلى تدمير الاقتصاد السُّوفييتي السَّابق وبقيَّة الدُّول الأعضاء في حلف وارسو.

النِّظام العالمي بين نهاية الحرب الباردة وبداية الحرب العالميَّة الثَّالثة 1من 10

وبرغم نجاح مخطَّطها في التَّخلُّص من الخصم السُّوفييتي وإزاحته من موقع المنافسة على الرِّيادة الاقتصاديَّة في العالم، لم تهنأ الولايات المتَّحدة بموقع الرِّيادة، بعد صعود قوى اقتصاديَّة عالية التَّأثير، على رأسها اليابان والصِّين وألمانيا، الأمر الَّذي وضعها، أي الولايات المتَّحدة، في مأزق جديد يدفعها للتَّخلُّص من مزيد من المنافسين. توقَّع السَّيِّد أحمد مطلع تسعينات القرن العشرين حدوث مناوشات بين الولايات المتَّحدة وغيرها من القوى الاقتصاديَّة الصَّاعدة بسبب التَّنافس على موقع الرِّيادة، معتبرًا أنَّ الصِّراع سيدور على محورين: أحدهما مع الدُّول الآسيويَّة، وعلى رأسها الصِّين واليابان وماليزيا والهند وتايوان وسنغافورة؛ والآخر مع القوى الأوروبيَّة الصَّاعدة اقتصاديًّا وصناعيًّا، خاصَّة بعد تأسيس سوق أوروبيَّة مشتركة تغني دول أوروبا عن الاستيراد من خارج حدودها. من هنا، عملت الولايات المتَّحدة على إعاقة الوحدة الأوروبيَّة بواسطة عملائها من السِّياسيين البريطانيين.


لن ننسى أنَّ الولايات المتَّحدة كانت في الأصل مجموعة من المستعمرات البريطانيَّة، الَّتي أعلنت استقلالها عام 1776م عن التَّاج البريطاني، بعد حروب مريرة، وتحتفظ بجذورها البريطانيَّة، وإن ادَّعى سياسيوها خلاف ذلك.

حرصًا على عدم الإضرار بالمصالح الأمريكيَّة بتأسيس سوق أوروبيَّة مشتركة، عارَض سياسيون بريطانيون الانضمام إلى الاتِّحاد الأوروبِّي، ويذكر المفكِّر الكبير (1992م) عددًا منهم، مثل مارغريت تاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا (1979-1990م) الَّتي حاربت الفكرة بضراوة طوال عهدها، وجون ميجر، خليفتها على المنصب (1990-1997م)، الَّذي صرَّح في خطاب ألقاء في 28 أبريل 1992م بأنَّه “لن يسمح للمجموعة الأوروبيَّة أن تتحوَّل إلى ولايات متَّحدة أوروبيَّة، وأنَّه يريد أن تكون أوروبَّا مجموعة دول قوميَّة”، نقلًا عن صحيفة البعث السُّوريَّة (عدد 8828 بتاريخ 29 أبريل 1992م). ومع ذلك، فقد أُبرمت معاهدة ماسترخت، نسبةً إلى مدينة ماسترخت الهولنديَّة الَّتي شهدت إبرام المعاهدة في 7 فبراير 1992م، لتكون المعاهدة المؤسِّسة للاتِّحاد الأوروبِّي، الَّذي تأخَّر تأسيسه أكثر من 30 عامًا، منذ تأسيس المجموعة الاقتصاديَّة الأوروبيَّة في نهاية الخمسينات من القرن العشرين. وبرغم اضطرار بريطانيا إلى الانضمام إلى الاتِّحاد الأوروبِّي بعد انضمام إلى المجموعة الاقتصاديَّة الأوروبيَّة، فقد انسحبت من الاتِّحاد عام 2016م، بعد استفتاء شعبي صُوِّت لصالح الانسحاب فيه بنسبة تقارب 52 بالمائة.

تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على العرب و المسلمين!

بالعودة إلى مساعي الولايات المتَّحدة للانفراد بالهيمنة الاقتصاديَّة والتَّخلُّص من المنافسين، يعدِّد السَّيِّد أحمد أدوات تستغلُّها الولايات المتَّحدة لتحقيق هدفها، منها النُّفوذ السِّياسي، وفي ذلك ما يهدِّد بعودة الاستعمار من خلال اقتسام النُّفوذ ف البلدان النَّامية مع القوى المنافسة، على أن تستأثر هي بنصيب الأسد، لكنَّ ذلك صعبٌ تحقيقه نسبيًّا. عوضًا عن النُّفوذ السِّياسي، تلجأ الولايات المتَّحدة إلى النُّفوذ العسكري، لكنَّه لا يضمن لها مزيدًا من النَّجاح في تحقيق مآربها، كما يرى المفكِّر الإسلامي (صـ36):

إذا كان من الصَّعب على الولايات المتَّحدة أن تحقِّق ما تصبو إليه في استمرار هيمنتها عن طريق النُّفوذ السِّياسي، لأنَّ ذلك ليس في مصلحتها…فإنَّه من الأصعب أن تستخدم النُّفوذ العسكري، بتهديد أو مواجهة مباشرة مع حلفائها لضمان استمرار نفوذها وهيمنتها، ليس لعجز في ميزان القوى العسكريَّة البتَّة، فالولايات المتَّحدة الأمريكيَّة هي الأقوى عسكريًّا من غير منازع، ولا سيِّما بعد تفكُّك الاتِّحاد السُّوفييتي وتشتُّت قواه وتناثرها، ولا سيِّما أنَّ الولايات المتَّحدة تحتفظ بقواعدها العسكريَّة في هذه الدُّول…أيّ مواجهة من هذا النَّوع ستضع الولايات المتَّحدة والعالم أجمع في إرباكات جدِّ خطيرة ليس من السَّهل أبدًا الخروج منها.

بناءً على ذلك، ليس أمام الولايات المتَّحدة سوى اللجوء إلى طرق غير مباشرة للاستحواذ على ثروات الشُّعوب الأخرى والتَّأثير على سياساتها، منها الوجود العسكري بزعم تقديم الحماية، بينما الهدف الفعلي هو الابتزاز. ويضرب المفكِّر الكبير في ذلك المثل بالتَّدخُّل الأمريكي في الكويت عام 1991م بزعم تحريرها من الغزو العراقي، وتأسيس الولايات المتَّحدة العديد من القواعد العسكريَّة في منطقة الخليج العربي ساعدها على ذلك. وكان الرَّئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش الأب، قد صرَّح في خطاب ألقاه أمام موظَّفي وزارة الدِّفاع الأمريكيَّة (البنتاغون) في 15 أغسطس 1990م، أي بُعيد الاجتياح العراقي للكويت، بأنَّ سيطرة العراق، بزعامة صدَّام حسين، على النَّفط الخليجي سيهدِّد استقرار منطقة الشَّرق الأوسط، كما سيعطِّل مصالح الغرب الَّذي كان يعتمد حينها على النَّفط الخليجي أكثر من أيِّ مصدر آخر للطَّاقة، كما نقلت عنه صحيفة واشنطن بوست الأمريكيَّة. 

تابعنا على فيسبوك

ولأنَّ تبرير التَّدخُّل في الدُّول الأخرى واجب حتَّى لا تُتَّهم الولايات المتَّحدة بإعادة الاستعمار؛ فقد وُجدت فزَّاعة جديدة تعفي للولايات المتَّحدة من حرج البحث عن إيجاد مبرِّر للتَّدخُّل، وهي الحرب على الإرهاب الإسلامي النَّاتج عن التَّشدُّد أو الأصوليَّة الإسلاميَّة. ويعلِّق السَّيِّد أحمد (1992م) على ذلك بقوله (صـ46):

الولايات المتَّحدة سرعان ما وجدت (الفزَّاعة) الجديدة الَّتي تحلُّ محلَّ (البعبع) الشُّيوعي، هذه (الفزَّاعة) هي الخطر والتَّوحُّش القادم من الجنوب، أي خطر الأصوليَّة الإسلاميَّة، الَّتي تُظهرها الولايات المتَّحدة على أنَّها أشدُّ خطرًا من الشُّيوعيَّة على العالم، ولقد صوَّرت الولايات المتَّحدة حرب الخليج على أنَّها حربٌ بين الشَّمال والجنوب، كما رسمت استراتيجيَّة خاصَّة لكلِّ مدٍّ إسلامي في العالم، محاولةً إظهار أنَّ لكلِّ حركة أو مدٍّ ظروفه الخاصَّة الَّتي تفرض على الولايات المتَّحدة أسلوب التَّعامل معها.

تابعنا على تويتر

يُفهم من تناوُل المفكِّر الإسلامي الكبير لدور الولايات المتَّحدة في انهيار الاتِّحاد السُّوفييتي أنَّ الأولى أرادت تأسيس نظام عالمي جديد أحاديّ القطب، بعد التَّخلص من تهديد المعسكر الاشتراكي الشَّرقي. غير أنَّها فوجئت بتهديدات جديدة تعرقل تحقيق مساعيها، وهي ظهور قوى اقتصاديَّة صاعدة في الشَّرق والغرب، وصعوبة فرْض نفوذها السِّياسي والعسكري على شتَّى بلدان العالم، إلى جانب خوفها من البعث الإسلامي واستفاقة الشُّعوب المسلمة، الَّذي تحاربه بنشر أفكار سلبيَّة عن الإسلام ووصمه بالتَّشدُّد والتَّشجيع على الإرهاب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى