أخبار عاجلة

قراءة في واقعنا المعاصر مع الشيخ “محمد قطب” رحمه الله (ج 2)

د. عثمان محمد بخاش

باحث في الفكر الإسلامي والقضايا المعاصرة
عرض مقالات الكاتب

استيراد النظم والمبادئ من أوروبا

في تتبعه  لمسار “خط الانحراف” الذي توسع وتعمق في ظل تخلف الأمة عن مواجهة التحدي الغربي، خاصة بعد هجوم نابليون على مصر، توقف الشيخ قطب عند ظاهرة استيراد النظم والمبادئ التشريعية من عند أعداء الإسلام. “فقد كانت هذه هي المرة الأولى في حياة الأمة التي تستورد فيها “المبادئ (في التشريع)” من خارج الإسلام . فالمسلمون من قبل لم يترددوا في أخذ تنظيمات الإدارة من فارس وبيزنطة، وتم ذلك على قاعدتين مهمتين: الأولى أن الأمة لم تشعر  بالصغار والانكسار بل كانت تحس بالاستعلاء الناشئ من الإيمان…وثانيها أن الأمة حين أخذت تلك التنظيمات و الشكال المادية لم تأخذ معها قط المبادئ والنظم (التشريعية)..فقد كانت تلك المبادئ والنظم  قائمة على عقائد وتصورات جاهلية لا تصلح للمسلمين البتة وليس المسلمون في حاجة إليها، لأن دينهم فيه الغناء عنها، بل هم مأمورون  أمرا ألا يتخذوا شيئا منها، وإلا فهي ردة جاهلية لا تستقيم مع الإسلام. فأما النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية  فهي متصلة بالتشريع ، والمسلمون منهيون نهيا جازما عن أخذ التشريع من عند غير الله.”

قراءة في “واقعنا المعاصر” مع الشيخ “محمد قطب” رحمه الله

أما في حركة الأخذ الثانية، مع مجيء محمد علي إلى الحكم في مصر ، التي تمت في ظل الخواء الروحي والتخلف العقدي من ناحية وفي ظل الغزو الفكري من ناحية أخرى فقد انهارت الحواجز ولم يعد المسلمون يفرقون بين ما ينبغي أخذه وما ينبغي تركه من حضارة الغرب.

التحول في نقطة الإرتكاز من الإسلام إلى الحضارة الغربية

كانت نقطة الارتكاز الوحيدة في حياة المسلمين، في مصر وفي غيرها من بلاد المسلمين، هي الإسلام، بصرف النظر مؤقتا عن كل ما أصابها من تخلف عن حقيقة هذا الدين، فجاء رفاعة الطهطاوي فوضع إلى جانب نقطة الإرتكاز الضخمة القائمة (الإسلام) نقطة ضئيلة غاية الضآلة هي “الحضارة الغربية” و دعا المسلمين إلى الانتقال إليها و الارتكاز عليها، و رويدا رويدا أخذت تلك النقطة الضئيلة تكبر وتتضخم في حياة المسلمين وتصبح نقطة غرتكاز ثانية في حياتهم إلى جانب الإسلام، حتى يأتي وقت تصبح تلك النقطة الضئيلة  هي نقطة الإرتكاز الرئيسية ، وتصبح نقطة الإرتكاز الضخمة السابقة نقطة جانبية ضئيلة تكاد تنمحي من الوجود في حياة المسلمين.

تابعنا على فيسبوك

ويطرح الشيخ قطب السؤال: لماذا حدث هذا الانتقال من كون الإسلام هو نقطة الارتكاز الأساسية في حياة المسلمين إلى إضمحلالها و تضخم الحضارة الغربية لتصبح هي نقطة الارتكاز المهيمنة في المجتمع؟

للإجابة على السؤال يستعرض الشيخ قطب جملة العوامل التي أدت إلى ذلك بعد ثمانين سنة من الزحزحة المستمرة عن الإسلام، فقد كان لسياسة “التغريب” التي اتبعها محمد علي و ابناؤه من بعده الأثر التدريجي في تقبل الأفكار الغربية و أنماط الحياة الغربية، فحين إحتل الإنجليز مصر في 1882 نحّوا الشريعة جانبا و حكّموا بدلا عنها قانون نابليون الذي ثار المصريون ضده في 1800، ولكن هذه المرة لم تحدث ثورة شبيهة ضد الإنجليز.

 وهكذا أصبحت مصر قاعدة للإنجليز يبثون منها سمومهم إلى باقي المنطقة، مسخّرين في خططهم الشيطانية حشدا من رجالات الفكر والإعلام سواء الوافدين منهم من نصارى الشام أو من المصريين أنفسهم تحت رعاية الحاكم كرومر الذي استمر حكمه ربع قرن (1883-1907) و بذل غاية جهده في الكيد ضد الإسلام والمسلمين. ولم يترك الإنجليز بابا إلا و طرقوه في سعيهم الحثيث لإقصاء الإسلام من الحياة ولخلعه من قلوب المسلمين.

وحين عاد قاسم أمين من فرنسا داعيا لتحرير المرأة وإلى السفور ونزع الحجاب ( يستعمل لفظ الحجاب مع أن الصحيح، كما في الآية الكريمة، هو الخمار) وهي نفس الدعوة التي دعا بها رفاعة الطهطاوي من قبل عند عودته من فرنسا (1831) مع فارق رئيسي لا في الدعوة نفسها ولكن في المدعوين! فإن أكثر من نصف قرن من الغزو الفكري المستمر كانت قد فعلت فعلها في نفوس الناس، فلم تقابل دعوة قاسم أمين بالاستنكار البات الذي قوبلت به دعوة رفاعة الطهطاوي.

تخلي العلماء عن قيادة الأمة

ويخلص الشيخ قطب في جوابه على سؤاله أعلاه إلى أن  حقيقتين كبيرتين  كانتا وراء ما حصل:

 أولاهما -الخواء الذي أصاب الحياة الإسلامية كلها و ضعف وعي المسلمين على حقيقة الإسلام ومقتضياته هو القضية الرئيسية في التحول الخطير مما كانت عليه الأمة حين واجهت حملة نابليون إلى ما صارت إليه؛ فيقول لو كان هناك وعي إسلامي حقيقي، لو كان هناك إدراك واع حاسم بأن الحكم بما أنزل الله هو المقتضى الطبيعي والمقتضى الأول لشهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن الناس لا يكونون مسلمين إذا رضوا بحكم غير حكم الله، لو كانوا كذلك ما سهل تحويلهم إلى الخنوع و السكوت عن تعطيل شرع الله والرضوخ لحكم المستعمر الإنجليزي.

والحقيقة الثانية- هي خلو الساحة من القادة الطبيعيين للأمة وهم “علماء الدين” الذين كانوا دائما عبر التاريخ قادة الأمة و موجهيها وهم ملجؤها إذا حزبهم أمر وملاذها عند الفزع، تتجه إليهم لتتلقى علم الدين منهم وتتجه إليهم ليشيروا عليها في أمورها الهامة، وتتجه إليهم إذا وقع عليهم ظلم من الحكام والولاة ليسعوا إلى رفع الظلم عنهم، بتذكير أولئك الحكام والولاة بربهم، و أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. وكما كان العلماء هم قادة الأمة و مرشديها في أمورها السياسية و الاجتماعية والاقتصادية والفكرية كانوا كذلك دعاتها إلى الجهاد كلما حدث على الأمة عدوان، وكانوا يشاركون في الجهاد بأنفسهم أحيانا بل يقودون الجيوش بأنفسهم في بعض الأحيان.

تلك كانت مهمة علماء الدين والدين حيَ في النفوس.

و يتساءل الشيخ قطب: فأين كان “العلماء” في تلك الفترة التي نحن بصددها من التاريخ؟

هل قاموا بواجبهم في النصح للأمة وفي قيادتها في التصدي للتحديات والنوازل؟ هل كانوا هم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقومون إلى الإمام الجائر فيأمرونه و ينهونه، قتلهم أم لم يقتلهم؟

أم كان كثير منهم قد استعبدوا أنفسهم للسلطان، ومشوا في ركابه يتملقونه ويباركون مظالمه، بينما البقية الصالحة منهم قد قبعت في بيوتها أو انزوت في الدرس والكتاب تحسب أن مهمتها قد انتهت إذا لقنت الناس “العلم”.

بعبارة أخرى كان واجب العلماء، كما هو دوما، أن “يتحركوا” بهذا الدين و “بالعلم” الذي يعلمونه من هذا الدين لصياغة المجتمع صياغة إسلامية صحيحة.

وكان على العلماء أن يقوموا بتوعية الأمة في قضية الإسلام الرئيسية قضية التوحيد، فيعلّموا الناس أن التوحيد الذي أمر الله به هو الاعتقاد اليقيني بوحدانية الله  و تقديم الشعائر التعبدية له وحده  بلا شريك و تحكيم شريعته وحدها وعدم الاحتكام إلى أي شريعة سواها و أن الإخلال بأي واحدة من هذه الثلاثة هو إخلال بالتوحيد ومن ثم فهو شرك ينقض الإسلام.

 وقد أدى غياب العلماء عن القيام بواجبهم إلى تصدر زعماء علمانيون صاغهم المستعمر الانجليزي للقيام بمهمة القيادة التي تقاعس عنها علماء الدين.

بل أكثر من ذلك فقد قام محمد عبده وتلميذه الشيخ رشيد رضا بتطويع الأمة  “للواقع” المخالف للإسلام على أنه “ضرورة” لا بأس بالأخذ بها ، وتنويم العزائم بدل حثها على الجهاد ضد المحتل الإنجليزي و رفض ما يقوم به من إزاحة للشريعة من حياة المسلمين.

فقد أفتى محمد عبده بإباحة ربا صندوق البريد التوفير معتمدا على أن الآية  (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً)  لم تحرّم من الربا إلا الربا المضاعف فقط، و أصدر الفتاوي التي تُعين المحتل الإنجليزي على إصدار القوانين المخالفة للشريعة عبر مجلس شورى القوانين الذي باركه محمد عبده ؛ بينما دعا الشيخ رشيد رضا، في فتوى الحكم بالقوانين الإنجليزية في الهند، المسلمين لطاعة الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله! فقد خلص في فتواه بالقول:” إن قبول المسلم للعمل في الحكومة الإنجليزية في الهند (ومثلها ما هو في معناها) و حكمه بقوانينها هو رخصة تدخل في قاعدة ارتكاب أخف الضررين، إن لم تكن عزيمة يقصد بها تأييد الإسلام وحفظ مصلحة المسلمين”. و هكذا يجعل رشيد رضا الحكم بقوانين الكفر “عزيمة”!

و قد نشر الشيخ قطب في الكتاب نص الفتوى الهندية كاملة و عقّب عليها بردود فنّد ما جاء فيها  من أغاليط، ثم عقّب عليها بقوله:” حين يكون “علماء الدين” على هذا النحو يطوّعون الناس للأمر الواقع و يخذّلونهم عن الجهاد الواجب لتغييره، ولا يتحركون من جانبهم لينافحوا عن حقوق الناس كما بيّنها الله في كتابه وسنة رسوله ﷺ و لا يقفون للسلطان الجائر يأمرونه و ينهونه ليأطروه على الحق أطرا ولو تعرض لهم بالأذى…فهل نعجب من التفاف الجماهير حول الزعماء العلمانيين و فتنتهم بهم إلى الحد الذي رأينا نموذجا منه في سعد زغلول!

تابعنا على تويتر

وهكذا يخلص الشيخ قطب إلى أن الفكر الإرجائي أدى إلى إيهام الناس أنهم ما زالوا مسلمين، رغم أنهم لا يحكمون شريعة الله ، و قيل لهم، كما مر معنا في فتوى الشيخ رشيد رضا، لا بأس عليهم  من تنحية الشريعة الإسلامية- فهذا اجتهاد لجا إليه الحاكم!!، ولكنكم ما زلتم مسلمين ما دمتم تصلون و تصومون وتزكون وتحجون.

و تقصير العلماء عن واجب قيادة الناس دفع بهم للسير وراء القيادات العلمانية التي صنعت على عين المستعمر الإنجليزي، و بسحر ساحر تحولت مظاهرة النسوة في ميدان الإسماعيلية أمام ثكنات الجيش الإنجليزي سنة 1919، التي خرجت للمطالبة بتحرير البلاد من الاحتلال الإنجليزي وانتهت بقيام صفية هانم زغلول زوجة سعد زغلول ومن معها من النسوة بخلع الحجاب وألقين به في الأرض و أشعلن فيه النار.. فأصبح ميدان الإسماعيلية “ميدان التحرير” الشهير ، و هكذا “تحررت”  المرأة!! فما علاقة الاحتجاج (المزعوم) ضد الاحتلال الإنجليزي بخلع الحجاب و إشعال النار فيه؟!! وما بين تبرير الفكر الإرجائي و تقصير علماء الدين، بل تزييف بعضهم لحقائق الدين واعتزال آخرين عن الاجتهاد في مواجهة النوازل في مستجدات الحياة، وبروز الزعماء السياسيين بدعم من المحتل الإنجليزي كالمقامر سعد زغلول ولطفي السيد و مصطفى فهمي، كشأن أقرانهم من رجال الفكر ك طه حسين وعلي عبدالرازق و قاسم أمين و رجال الإعلام خاصة النصارى من أمثال جرجي زيدان و يعقوب صروف وفارس نمر الذين قدموا من لبنان و أسسوا الصحف والمنابر التي تروج لمفاهيم الحضارة الغربية وتشكك في الدين، تمكنت بريطانيا من جعل الحضارة الغربية هي نقطة الإرتكاز الكبرى في المجتمع والدولة، وهمشت الإسلام كنقطة الإرتكاز فيهما

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً

يوم الأم أو عيد الأم

هيثم المالح اخترع الغرب ،عيدًا للأم رغبة في ايجاد وسيلة أو يوم …