دين ودنيا

بين الذاكرة والذكاء

محمد شاه قطب الدين الحامدي

باحث إسلامي
عرض مقالات الكاتب

أقول وبالله التوفيق:
عمدة العلم ومرتكزه على الحفظ وقوة الذاكرة، وعمدة الإبداع فيه وتطويره مرتكز على عمق الفهم وقوة الذكاء وأصل هاتين الصفتين وراثيتان (بيولوجيا) لكنهما تنصقلان بالتعلم والاكتساب والممارسة (سايكولوجيا وسيسيولوجيا)
فلا يستغنى عنهما كليهما في تثبيت العلوم وتطويرها، ولكل ميدان أهله وناسه فمنهم من يبرّز في هذا وتكون بضاعته مزجاة في ذاك ومنهم من يبرّز في ذاك وتكون بضاعته مزجاة في هذا.

اقرأ: جوابا على سؤال مقلق : ( لماذا لم يستجب الله لدعاء أئمة الأمة وأوليائها لكشف الغمة …..الخ)

أما من امتلكهما معًا فذلك العبقري المجتهد المبدع المبتكر.


والعلوم الشرعية خاضعة لهذا المقياس ذاته، فهناك من اهتم بالحفظ لكتاب الله جل جلاله وحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والٱليات المعينة لذلك وهؤلاء عليهم مدار حفظ هذا الدين وأصول علمه لكنهم لم يضطلعوا بالجانب العقلي الاستنباطي لتوليد أحكام جديدة فتوقفوا على ظاهر الفهم من النصوص وتحجروا عليه خشية الانزياح عن الحق والتقوّل فيه لكنهم كانوا أمناء في دقة النقل.
وهناك من اشتغل بالمسائل العقلية والاستنباط بذكاء وجد واجتهاد، وأبدعوا ولكنهم أهملوا الكثير من المحفوظ المنقول لانصراف همتهم واهتمامهم عنه فأعوزهم ذلك كمرجع ومستند واضطرهم لتكلف أحكام متولدة لم يتحققوا من صحة سندها النقلي أو ارتباطها بمنطق التشريع المرتبط بصحيح المنقول سندًا ومتنًا ودلالة..
فوقع كل من هذين الصنفين في خطأ معياري أصله جبلّي ظهرت آثاره على تراث الأمة وعلى من تبنى هذا التراث تعصبًا وتقليدًا وتشددًا..
وأما بمجمله فكان إيجابياً ماتعاً لمن لم يتعصب ويتشدد، وهناك من رزقه الله قوة الجانبين معا فأتقن المحفوظ المنقول وأعمل ذكاء الاستنباط في الجانب المعقول بالشكل السائغ المقبول فكان الثراء في الأحكام الفقهية الكثيرة المتولدة من ذلك فحصلنا على علوم جليلة جديدة نافعة، ولايزال الاجتهاد في الأمة قائما دائما يتتبع الوقائع والحوادث والمستجدات..
ومن هنا نفهم ونفرق بين مصطلح (أهل الحديث والأثر) ومصطلح (أهل الرأي)
فكأننا نقول أهل الذاكرة والحفظ وأهل الذكاء والفهم، أو نقول أهل المنقول وأهل المعقول على أن كلا الطرفين لم يحرم مما عند الٱخر من بعض تلك المزايا وذلك لخصائص الإنسان نفسه في أصل خلقته وجبلته ولكن طغيان إحدى الصفتين على صاحبتها جعل الوسم يلحق بأهلهما تغليبا..

اقرأ: نحو بناء الوطن الأمثل

فأهل الحديث والأثر لم يعدموا النظر العقلي الاجتهادي بما اضطروا إليه.. وأهل الرأي والنظر العقلي لم يعدموا حفظ النصوص بما تيسر لهم ولو ما يخص الأحكام فقط..
وعلماء الأمة جمعاء لا يخرجون عن هذين المنهجين بين منقول ومعقول ومنصوص عليه ومجتهد فيه ولكن تختلف النسب بين هذا وذاك.
وأفراد العلماء غير معصومين ولكن الأمة بمجموعها معصومة حيث يستدرك هذا ما نقص من ذاك ويوضح ذاك ما أبهم هذا ويشرح هذا ما اختصر ذاك ويمتن ذاك ما توسع فيه هذا ويرمم كل منهم أو يعدل ما نقص او ازورّ أو أبهم عند الٱخر.
وأفضل أمثلة أضربها لذلك هم الأئمة الأربعة المجتهدون (أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد) رضي الله عنهم، فبمعرفة سيرتهم ومزاياهم العقلية بين ذكاء وذاكرة ورجحان جانب على آخر واختلافهم في مخرجات الأحكام يتبين بدقة صحة ما ذهبت إليه.. والأمثلة في غيرهم كثيرة وفيرة.

تابعنا في تويتر


وأخلص من هذا إلى نتائج مهمة:
١_ إذا عرف السبب بطل العجب، أي إذا عرف سبب الاختلاف بطل العجب والإنكار الشديد من كل متحيز لأحدهما على الآخر..
٢_ أن هذا الاختلاف خَلقي وراثي بالدرجة الأولى فهو مراد من الله تعالى وبحكمة علية منه، فإذا عرفنا ذلك فعلينا التسليم بحكمة الله والتريث في إطلاق الأحكام والترفق في النقد والتقويم والتصحيح من غير شدة وتعنت، فما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.
٣_ أن بسبب هذا الاختلاف كان الثراء العظيم لتراث هذه الأمة بالاستناد إلى منقولها ومعقولها وتميز علمائها بهذا وذاك ووجودهما معا متآزرين كاليدين تغسل إحداهما الأخرى فليتنبه..

تابعنا في فيسبوك


هذا وأنا أتكلم عن الاختلاف الذاتي المتعلق بطبائع الأشخاص لا الاختلاف الموضوعي المتعلق بالنصوص واللغة والظروف والأحداث، فذلك مبحوث في كتب الاجتهاد والاختلاف والترجيح وأفضل من بحثها باختصار العلامة ابن رشد الحفيد في كتابه الفريد (بداية المجتهد).. وللبحث صلة وله شجون وشؤون والكيس الفطن من اكتفى بالأمثال والنظائر والأشباه.. والله ولي التوفيق ومنه السداد وعليه التوكل والاعتماد..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى