ثقافة وأدب

كيف هرب “أحمد شوقي” من الحج واعتذر بقصيدة غنتها “أم كلثوم”؟

لعل هذه القصة من عجائب قصص وفكاهات الشاعر أحمد شوقي والذي تميز بشخصية بوهيمية كما ينقل ابنه في مذكرات تناولت حياة الشاعر.

هذه القصة فيها من الغرابة والضحك، إذ تحكي كيف هرب أحمد شوقي من أداء فريضة الحج في عهد  الخديوي “عباس حلمي الثاني” الذي أرادَ أداءَ فريضةِ الحجِّ شتاءَ (1909).
وكان الخديوي على علاقة متجذرة وعميقة بصديقِه الشاعرِ “أحمد شوقي” (شاعرِ البلاطِ الخديوي) يصحبُه أينما شاء وفي رحلات كثيرة..

أحمد ستركبُ حصانًا مُطهّمًا، خلال رحلةِ الحجِّ معي هديةً مني لك”
هذا الخبر كان صاعقة نزلت على رأس شوقي، معلنة قرارَ الخديوي بضرورةِ صحبة شوقي له..
إلا أنّ شوقي آنذاك لم يكن راغباً في أداءِ هذه الفريضةِ، ووقعَ بين أمرين:
الأمرُ الأولُ: أنه لايقدر على البوحِ والتصريحِ للخديوي بعدمِ رغبتهِ في مرافقة الخديوي لأداءِ هذه الفريضةِ نسبةً لمكانةِ الخديوي السياسيةِ..
والأمرُ الثاني:  وهو السبب الحقيقي أن شوقي يعاني من خوف ورعب كبيرين من ركوب الجمل.

تظاهرَ شوقي بالموافقةِ، وركبَ القطارَ مرافقًا صاحبَ المقام..
كلما ازدادتْ سرعةُ القطارِ وضعَ شوقي يدهُ على قلبهِ، وتغيّرَ لونُه إلى أن وصلَ القطارُ إلى النقطةِ التي سينتقلُ الحُجّاجُ من خلالِها إلى التجمعِ الأخيرِ، حيثُ الركبُ العالي في منطقةِ (بنها) المصرية.

استغلَّ شوقي الفرصةَ، واختفَى وتلاشى وانسلَّ من بين الحاضرين، دون أن يشعرَ به أحدٌ، كأنّما الأرضُ انشقتْ وابتلعتْهُ..
استنفرَّ أفرادُ الحاشيةِ بأمرٍ من الخديوي بحثاً عن شوقي، وبدأتِ التكهناتُ والتحليلاتُ والأقاويلُ عن اختفاءِ شاعرِ البلاطِ؛ لكن لم يُعثَر على أيِّ أثرٍ لشوقي..

الكلُّ يبحثُ.. ويفتشُ.. وشوقي مضطجع  في منزلِ أحد أصدقائِه ببنها، يقيمُ عنده متحضراً للعودةِ إلى القاهرة..

  تابعَ الخديوي سيرَهُ إلى الأراضي المقدسةِ مؤدِّيًا الفريضةَ، وما إن عادَ إلى القاهرةِ بعدَ أن أدّى الفريضة، وبدأَ باستقبالِ وفودِ المهنئين، حتى دخل عليه شوقي.
نظرَ الخديوي إلى شوقي متعجبًا.
أينَ كنت؟ ما سببُ اختفائِك؟
_ كانَ الجوابُ وهو سببُ هروبِ شوقي
(كلُّ شيءٍ إلا ركوبُ الجملِ يا أفندينا)

بهتَ الخديوي محاولًا أن يستوعبَ القصةَ وعمّ صمتٌ رهيبٌ في القصرِ الملكيِّ؛ ليقطعَه انفجارٌ بضحكٍ هستيريِّ هزَّ أركانَ المكان..

قدّم شوقي اعتذارَه للخديوي، وأّلفَ قصيدةً من عيونِ الشعرِ العربيِّ في المدحِ والاعتذارياتِ أسماها : “إلى عرفاتِ الله”
حيثُ مدحَ فيها الخديوي، واعتذرَ منه اعتذارًا ضجت به أحياء مصر.

يقولُ في مَطلعِ القصيدة:
إلى عرفاتِ اللهِ يا ابنَ محمدٍ
عليك سلامُ اللهِ في عرفاتِ
ويومَ تُولي وجهةَ البيتِ ناضرا
وسيمَ مَجالي البِشرِ والقَسماتِ

ثم يشيرُ فيها أنّ الخديوي كانَ قد خيّرهٌ ما بينَ السفرِ بسفينةِ البحرِ أو بمطيةِ البرِّ، لكنه اعتذرَ من هربهِ متعللًا بضعفِه، ولو سُخِّرَتْ له ناقةُ صالح، داعياً للخديوي بسلامةِ العودةِ،  يقول:
دعاني إليك الصالحُ ابنُ محمدٍ
فكانَ جوابيَ صالحَ الدعواتِ

وخيّرني (أي الخديوي): في سابحٍ أو نجيبةٍ إليك،  أي: إما على ظهرِ فرسٍ سريعِ الجريِ وهذا المستحيل، أو على ظهرِ جَملٍ نجيبٍ قوي وهذا أصلُ البلاء..
فلم أخترْ سوى العبراتِ
وقدّمتُ أعذاري وذلي وخِشيتي
وجئتُ بضعفي شافعًا وشكاتي

ثم يشيرُ إلى نفسه، مؤكداً، فيقول:

وياربُّ لو سخَّرتَ ناقةَ صالحٍ
لعبدك، ما كانت من السّلساتِ

أي: “ماكانت ياربي سلسةً منقادةً مُيسّرةً”

ثم يسأل:
وياربِّ هل سيارةٌ أو مطارةٌ
فيدنو بعيدُ البيدِ والفلوات ِ؟!

ذاعت آنذاك تلك القصيدةُ، وطارتْ بها الركبان،  إلا أنّ شهرتَها لم تكنْ بذاك الحجمِ، إلا بعدَ أن وقعتْ في يدِّ أمِّ كلثوم عامَ (1951)، حيثُ انتقتْ منها (22) بيتاً،  بعدَ أن عدّلتْ فيها بعضَ الأبياتِ التي كانَ يغلبُ فيها الحسُّ الوطنيُّ على الحسِّ الدينيِّ، وأخرجتها من الخاصِّ الى العام..
فممّا عدّلتْ مثلاً:

إلى عرفاتِ اللهِ يا ابنَ محمدٍ
عليكَ سلامُ اللهِ في عرفاتِ

فأصبحَ البيتُ:
إلى عرفاتِ اللهِ يا خيرَ زائرٍ..
. وغيّرت أيضاً:
إذا زرتَ يا مولايَ قبرَ محمدٍ..
فأصبحت:
“إذا زرتَ بعدَ البيتِ قبرَ محمدٍ”

تصدّى تلحينَ االقصيدةِ العملاقُ (رياض السنباطي) عامَ (1963)، وصوّرتْها أمُّ كلثوم، مُرتديةً آنذاك حجابًا على رأسهِا، وكانت تغنيهَا كلَّ عامٍ أيامَ الحجِّ بوصلتِها الأولى أو الثانية..

تعتبرُ “إلى عرفات الله” آخرَ أغانيِ أمِ كلثوم من أشعارِ أميرِ الشعراءِ شوقي بعد أغانٍ كثيرةٍ من قصائدِه، حيثُ حققت نجاحًا مبهرًا لدرجةٍ اعتبرها النّقّادُ حينذاك أجملَ أغنيةٍ عربيةٍ كلاسيكيةٍ قِيلتْ بمناسبةِ الحج..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى