بحوث ودراسات

حركة العصر الجديد: حيلة خبيثة لإحياء الباطنيَّة القديمة 8 من 9

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

تُعتبر البرمجة العصبيَّة الُّلغويَّة (Neurolinguistics Programming) من أكثر التّقنيات المرتبطة بحركة العصر الجديد إثارة للاهتمام في عدد من أقطار العالم الإسلامي، لا سيّما في السَّعوديَّة، وهي تقنية دائمة التَّجدُّد ومستمرَّة التَّطوُّر، وفي ذلك ما يستدعي إيلاءها بالاهتمام وتعقُّب أصولها. ولعلَّ التَّعريف الأدقُّ للبرمجة العصبيَّة الُّلغويَّة هو تقنية برامجيَّة تستهدف التَّحُّكم في عمليَّتي التَّفكير والسُّلوك البشري من خلال استغلال تأثير الُّلغة على الجهاز العصبي البشري. وقد بدأت تجارب البرمجة العصبيَّة الُّلغويَّة على يد باحثين من الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة في سبعينات القرن الماضي، أحدهما كان طالبًا في مجال الرّياضيَّات، ويُدعى ريتشارد باندلر، والآخر كان أستاذًا للُّغويَّات، واسمه جون غريندر. اشترك باندلر وغريندر في اهتمامهما ببعض الظَّواهر النَّفسيَّة، مثل التَّنويم والهذيان، لكنَّ بداية تعاونهما كانت بعد إعداد باندلر درسًا عن العلاج الغشتالي (Gestalt therapy)، وهو نوع من العلاج النَّفسي يعتمد على العلاقة بين المعالج والمريض والتَّجارب الفرديَّة للمريض والسّياق الاجتماعي الَّذي يعيش فيه، وهو مأخوذ على الفلسفات الباطنيَّة الشَّرقيَّة. واتَّبع باندلر حيلة، وهي تقليد صوت فريتز بيرلز، رائد مجال العلاج الغشتالي، وتبيَّن أنَّ استخدام الأساليب الُّلغويَّة للمعالج الشَّهير أفضى إلى تحقيق نفس النَّتائج الَّتي يحقّقها مع مضى جُدد. أغرى ذلك باندلر وغريندر بدراسة تأثير التَّركيبات الُّلغويَّة على السُّلوك والتَّفكير عند الإنسان، وقد توصَّلا إلى أنَّ الُّلغة لها تأثير ‘‘السّحر’’ في تغيير السُّلوك والتَّفكير؛ لذلك ألَّفا كتابًا من جزأين لشرح أسلوب العلاج الُّلغوي تحت عنوان The Structure of Magic: A Book about Language and Therapy، أو بنية السّحر: كتاب عن الُّلغة والعلاج، نُشر الجزء الأوَّل منه عام 1975م.

ومع كثرة الأبحاث والتَّجارب النَّاجحة في هذا المجال، أُسّس أوَّل مركز للبرمجة الُّلغويَّة العصبيَّة عام 1977م، في تطبيق عملي لاستغلال القدرات الُّلغويَّة الكامنة في البشر في التَّأثير على الآخرين، كما تخبر الفلسفات الباطنيَّة القديمة. وعن علاقة ذلك المجال بحركة العصر الجديد، يقول مايكل هول، وهو معالج نفسي وباحث في مجال الدّراسات الدّينيَّة، في كتابه Meta-Reflections on the History of NLP (2011م)، أو تأمُّلات فوقيَّة لتاريخ البرمجة العصبيَّة الُّلغويَّة، (صـ17):

صُمّمت البرمجة العصبيَّة الُّلغويَّة-كفرع من حركة القدرات البشريَّة الكامنة-لتكون إبداعيَّة، مرحة، واسعة الخيال، وممتدَّة لتداعب الإمكانات المتنوّعة لتطوير موارد بشريَّة جديدة. فلا عجب إذا انجذب-ولايزال ينجذب-إليها أتباع العصر الجديد، وكثير منهم ينتهون إلى التَّدريب. وهنا تبدأ مشكلة أخرى، فهم لا يقتصرون تعلُّم علم النَّفس المعرفي/السُّلوكي الخاصّ بالبرمجة العصبيَّة الُّلغويَّة (NLP)، ولكنَّهم يمزجون معه منظومتهم العقديَّة، أو ما يُعرف بـ ‘‘ديانة العصر الجديد’’.

يتَّضح من كلام هول أنَّ الَّذي جذب أعضاء حركة العصر الجديد إلى البرمجة العصبيَّة الُّلغويَّة هو أنَّ الأخيرة تُعنى بالقدرات الكامنة، الَّتي من شأنها السَّيطرة على الآخرين من خلال الأصوات الُّلغويَّة. يُضاف إلى ذلك أنَّ البرمجة العصبيَّة الُّلغويَّة تخاطب العقل الباطن، الَّذي ترفعه الحركة الباطنيَّة إلى مرتبة الألوهيَّة، بأن توكل إليه القدرة على التَّحكُّم في مصير الإنسان. ويمكن الاعتماد على تلك البرمجة في عمليَّات التَّنويم الإيحائي؛ وفي التَّخاطر وقراءة الأفكار؛ وفي التَّحكُّم في البشر عن بُعد؛ وفي توجيه السُّلوك والتَّفكير الخاصّ بالغير. وبرغم ما تبدو عليه البرمجة العصبيَّة الُّلغويَّة من تأثُّر بالعقائد الباطنيَّة، فهناك نوع من التَّطبيقات لا تبدو عليه سمات تلك العقائد، وهو المنصوح بممارسته للاستفادة منه. وما يثني الكثيرين عن النُّصح باستخدام البرمجة العصبيَّة الُّلغويَّة هو أنَّها قد تُستغلُّ في التَّرويج للخرافات والفلسفات الباطنيَّة، والأخطر أن تطوَّع في تغيير نظرة العامَّة إلى الدّين وجرّهم تدريجيًّا إلى الإلحاد أو اتّباع عقائد وثنيَّة. وتحذّر الرَّشيد من إخفاء بعض المعالجين انتماءهم العقائدي وتبحُّرهم في الاطّلاع على العقائد الباطنيَّة، إلى استدراج السُّذَّج إلى سلوكيَّات منافية لتعاليم الإسلام، خاصَّة أنَّ المعالجين يخضعون للتَّدريب في أكاديميَّات تربطها صلات غير معلنة بحركة العصر الجديد.

جلسة للبرمجة العصبيَّة الُّلغويَّة (NLP) لإبراهيم الفقي

تقوم جلسات البرمجة العصبيَّة الُّلغويَّة على التَّنويم والإيحاء، ويتعمَّد المعالج إغابة الحالة عن الوعي، ثمَّ البدء في تغييره سلوكه عبر مجموعة من الأوامر الصَّوتيَّة. وكما يظهر في الصُّورة، يعقد المعالج المصري الرَّاحل إبراهيم الفقي جلسة للبرمجة العصبية الُّلغويَّة (NLP)، كما يُظهر عنوان الجلسة على الشَّاشة في الخلفيَّة. يسعى الفقي من خلال الجلسة إلى مساعدة الحالة في التَّخلُّص من سلوك معيَّن لا تريد تكراره، مشيرًا إلى حدوث صراع داخل نفس الإنسان بين الرَّغبة في الامتناع عن سلوكيَّات غير محبَّبة والعجز عن ذلك بسبب تكرار السُّلوكيَّات دو شعور، بعد أن تصير من العادات. يتعامل المعالج في تلك الحالة، كما يصف الفقي، مع جزء غير ملموس في الـ لا وعي الإنساني، وما يحدث هو إعادة برمجة ذلك الجزء في الإنسان. تتمُّ البرمجة في عدَّة خطوات، هي تحديد السُّلوك غير المرغوب به؛ والاتّصال بالجزء المسؤول عن تكراره في الـ لا وعي من خلال كلام معيَّن لضمان تطويع ذلك الجزء في التَّعامل مع المعالج؛ ومخاطبة الجزء المسؤول عن تكرار السُّلوك وترشيح بدائل عنه؛ وأخيرًا التَّأكُّد من استغناء العقل عن ذلك السُّلوك. وتقول الحالة في نهاية الجلسة أنَّها روَّضت نفسها، خلال فترة الصَّمت وتغميض العينين والحوار الدَّاخلي والتَّأمُّل في السُّلوك الشَّخصي، وهي دقائق معدودة، على الامتناع عن التَّكاسل في ممارسة رياضة المشي، وهو السُّلوك الَّذي أرادت التَّخلُّص منه. والسُّؤال: ماذا يضمن التزام الحالة بعدم التَّكاسل مجدَّدًا؟ وماذا يضمن تأثير تلك الجلسة في ترويض النَّفس على أمور أخرى؟ وهل تفقد الحالة الثّقة الَّتي اكتسبتها وهو في حضرة المعالج بعد غيابه؟ بعبارة أخرى أوضح، هل تمتمات المعالج كان لا تأثيرها في وصول الحالة إلى الثّقة في تخلُّصها من السُّلوك الَّذي أرادت ترْكه؟!!!

علاجات طبيَّة من ابتداع حركة العصر الجديد

انتشرت في العالم الإسلامي في العقود الأخرى دعوات من ناشطين في مجال العلاج بالأعشاب الطَّبيعيَّة إلى العودة إلى استخدام تلك الأعشاب في علاج شتَّى الأمراض، والاستغناء عن العلاجات الكيميائيَّة، فيما بات معروفًا باسم الطّبّ البديل أو الطّبّ التَّكميلي. وبرغم عدم استناد ذلك النُّوع من العلاج، أحيانًا، إلى دليل علمي يثبت صحَّته، فإنَّه لا يشكّل خطورة على الصّحَّة البدنيَّة عند استخدامه. في حين تكمن الخطورة في طرق العلاج القائمة على الفلسفات الباطنيَّة القديمة، والمستندة إلى عقيدة وَحدة الوجود، الَّتي تؤمن بأنَّ الإنسان به جزء إلهي يمكن الاتّكال عليه في عمليَّة الإشفاء. وكما سبق القول، فقد أشار جوزيف ميرفي في كتابه The power of your Subconscious Mind (1963م)، أو قوَّة عقلك الباطن، إلى أنَّ ذلك العقل بمثابة الإله في قدرته على الإشفاء والرّزق وتحديد المصير. وتروّج حركة العصر الجديد لعدد من التَّطبيقات العلاجيَّة تعود في أصلها إلى فلسفات الاستشفاء الشَّرقيَّة، وعلى رأسها فلسفة الطَّاقة الكونيَّة، الَّتي يجري استغلالها في العديد من مجالات الإشفاء، منها علاج الأمراض الباطنيَّة المزمنة والعلاج النَّفسي. غير أنَّ ذلك النُّوع من العلاج قد يقود إلى الإيمان بوَحدة الوجود، أو بإمكانيَّة الاتّحاد مع “الرُّوح الكونيَّة الَّتي تقود إلى معرفة يقينيَّة ثابتة بالمُطلق”، كما يرد في كتاب الكامل في اليوغا لسوامي فشنو ديفانتدا (صـ16). وعن مكانة فلسفة الطَّاقة الكونيَّة في عقيدة العصر الجديد، تذكر الباحثة هيفاء الرَّشيد أنَّها مكانة هامَّة لا تقلُّ عن أهميَّة مكانتها في الفلسفات الشَّرقيَّة، حيث أنَّها (صـ458-459):

ترتبط ارتباطًا كليًّا بتصوُّرهم الفلسفي للوجود، بل تشكّل مرحلة أوَّليَّة من مراحل نشأة الكون، وهي تعبير عن عقيدة وَحدة الوجود المتجذّرة في تلك الفلسفات. لقد مرَّ العالم الوجودي-في الفلسفة الشَّرقيَّة-بأطوار متعدّدة قبل أن تتحدَّد معالمه الَّتي نألفها اليوم. كان الطُّور الأوَّل متمثّلًا في الوجود الفوضوي، أو العدم، ثمَّ تولَّد من العدم-من خلال حركات تحوُّليَّة تلقائيَّة-أوَّلُ شكل من أشكال الوجود. هذا الوجود الأوَّلي هو ما يُعرف بالطَّاقة الكونيَّة (تشي أو برانا)، والَّتي بدورها انفصلت وتمايزت إلى قطبين، هما الـ ين يانغ في الطَّاويَّة، أو ثلاثة أقطاب في الفلسفة الهنديَّة، ومن خلال تفاعلات هذه الأقطاب، ومن بعدها العناصر الخمسة، ظهَر هذا الكون إلى الوجود.

ويعني تعريف الباحثة للطَّاقة الكونيَّة أنَّ الباطنيين يعتقدون أنَّها سارية في الكون كلّه، بكافَّة مخلوقاته، ويكمن سرُّ الحياة في وجودها بكثافة في المخلوق؛ وبالتَّالي، فالموت يحدث نتيجة لقلَّتها، وفق ذلك الاعتقاد الضَّال. وتُعتبر فسلفة اليين يانغ من أهمّ الفلسفات الخاصَّة بالطَّاقة المترتّبة على فلسفة الطَّاقة الكونيَّة، والَّتي تستند إليها حركة العصر الجديد في نظرتها للكون. تقوم فلسفة اليين يانغ صينيَّة الأصل على الاعتقاد في وجود طاقتين متضادَّتين، هما اليين، ويُرمز إليها بالَّلون الأسود، واليانغ، ويُرمز إليها بالأبيض، في كافَّة الموجودات، من بشر وأنعام ونبات وجماد. يحدث المرض، وفق تلك الفلسفة، نتيجة لاختلال التَّوازن بين طاقات الإنسان، الَّذي يحدث بدوره نتيجة لوجود خلل في العناصر الخمسة الأساسيَّة في الكون، وهي الماء والهواء والنَّار والتُّراب والمعدن. ومع تشخيص المرض وتصنيفه إلى يين أو يانغ، يكون العلاج بالتَّزوُّد من مصادر النُّوع الآخر، من أطعمة أو رياضات أو ترانيم، كما تشير الرَّشيد (صـ460).

فلسفة اليين يانغ

وتعدَّدت التَّطبيقات العلاجيَّة المستندة إلى فلسفات العصر الجديد الباطنيَّة في الآونة الأخيرة، وكثيرٌ منها يشيع استخدامه في العالم الإسلامي، ومن تلك التَّطبيقات ما يُطلق عليه الرّيكي، واليوغا، والماكروبيوتيك. بدءً بتطبيق الرّيكي، فالمصطلح ياباني الأصل، يشير إلى الطَّاقة الحياتيَّة الرُّوح الكونيَّة، وهي كلمة مكوَّنة من شقَّين: ري، أي روح؛ وكي، أي طاقة حيويَّة. ومؤسّس الرّيكي هو الياباني، بوذيّ الدّيانة، ميكاو أوسوي، وقد نسبها إلى سيفا، إله الهندوس. يُستخدم الرّيكي في العلاج التَّكميلي، ويُطق عليه العلاج بالكفّ (Palm Healing)، حيث يعتمد على راحة اليد في نقْل طاقة الشّفاء. ويدَّعي ممارسو الرّيكي أنَّه يقدّم طاقة لا تنفد، وأنَّ جلساته توفّر للإنسان راحة على المستوى العاطفي والبدني والرُّوحي في آن واحد، حيث يخضع إلى تدليك لكافَّة أعضاء الجسم، يدخل خلالها في حالة من الاستغراق التَّأمُّلي. أمَّا عن الأمراض الَّتي يمكن استخدام الرّيكي في علاجها، فهي اضطرابات في الجهاز العصبي، كالهستيريا؛ والجهاز التنفسي، كالتهاب القصبة الهوائيَّة؛ والجهاز الهضمي، كقرحة المعدة؛ وأمراض الدَّورة الدَّمويَّة، مثل ارتفاع ضغط الدّم المزمن؛ واضطرابات الدَّم، كفقر الدَّم؛ ومشاكل المسالك البوليَّة التَّناسليَّ، كالتهاب الكلى؛ ومشاكل الجلد، مثل التهاب الغدد الليمفاويَّة؛ وأمراض الطُّفولة، مثل الحصبة؛ وأمراض النّساء، مثل غثيان الحمل؛ والأمراض المعدية، مثل حمى التيفوئيد، كما تذكر موسوعة ويكيبيديا الرَّقميَّة.

نموذج لجلسات الرّيكي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى