مقالات

هموم المُترفين

مصعب الأحمد

كاتب وباحث وشاعر سوري
عرض مقالات الكاتب

تواصل معي أحد الأخوة، وقال أريد استشارتك في أمر لأني أثق برأيك، لو أنك تعرف راقياً شرعياً، أرجوك أن تسعفني برقمه، فقد تعبت من دفع الأموال للرقاة بلا نتيجة !
وكان أن زارني، وأنا من عادتي قبل توجيه نصيحة عامة أو خاصة أستمع جيدا، لأقرأ ما وراء السطور، وما يكمن تحت الكلمات.
بدأ حديثه بعد التحية والسلام، كما تعلم أنا تاجر في احدى الدول العربية، ولدي مصنع صغير، وكانت الدنيا تضحك لي لأبعد مما تتصور، سنوات وأنا غارق في النعم، لا أحصي مايدخل علي من الفلوس، كنت أصرف في الشهر الواحد على نفسي وزوجتي وولدي أزيد من ثلاثين ألف دولار !
لعلك تتعجب، هذا مالم تكن هناك سفريات الى بلاد العالم، أو ولائم ملكية، وعزومات سلطانية، وسهرات ولقاءات، واستعراضات. كنت أنفق بلا حساب، وأظنني كنت “مسرفاً”، الى أن ورطني شريك لي بقروض لم يوفيها لطارئ حل به، فوضع البنك إشارة على اسمي وكنا قد أخذنا عدداً من القروض، من عدد من البنوك بالملايين، وألزمنا البنك بالسداد، وتسامعت البنوك وشركات التأمين بذلك، فبدأت تغلق دوننا أبوابها، والأعمال التي كنا نقيمها لم تحصد ثمارها ولم تكتمل لأن البنك لم يكمل القرض، بسبب انخفاض التصنيف الائتماني، وانقلبت الأحوال وخسرنا بعض الزبائن، ثم جُلَّ الزبائن، وتراجع الإنتاج، والذين لنا عندهم فلوس لم يسددوها لأنهم يعلمون أننا تحت ضغط المحاكم ولن نتفرغ لرفع دعاوى وشكايات ضدهم، وبدأت الأمور تتدهور، وتسوء بصورة عجيبة، فأخرجت بعض المال وهو جزء بسيط وأنقذته، ثم أعلنت إفلاس الشركة، وصفيت أموري وجئت إلى هنا.
لم يتحمل عقلي، مطالبات الناس والقضاء والدعاوى المتتالية.
فأصبت بأزمة مالية ونفسية، ورشدت المصاريف، واشتريت منزلاً جيداً وسيارة وفتحت شركة صغيرة هنا وأعمال متوالية خسرت في معظمها، ولم أوفَّق، وتم الاحتيال علي ببعضها، وقللت النفقات لأدنى حد، وبصعوبة بالغة وتقشف أنفق الآن خمسة آلاف دولار شهريا !! ولدي أموال بسيطة استثمرها بالعملات الرقمية والبورصة والفوريكس.
لكني خائف وخائف جداً، ومضطرب، أن يأتي يوم لا أجد ما أنفق فيه، وحتى الآن آكل وأشرب من ديوني التي على الناس، وقبل سنتين أدركت أن ما حل بي بسبب السحر، وأن هناك من يسعى لتدميري، وسألت أحد الرقاة، فقال نعم، وقال آخر بل بسبب العين، وقال قوم بسب المس، وقال شيخ مغربي: بل الثلاثة معا، ثم بدأت رحلة العلاج وشربت الزيت المقروء، والماء المقروء، وعلقت الحجب، وحضرت الجلسات المباشرة والانلاين، ولا تتصور تكاليف تلك الجلسات، أرتاح قليلا ثم تزداد الأمور سوءاً، بدأ الخلافات بيني وبين زوجتي وكدنا نصل إلى الطلاق، نفسيتي محطمة وهي أيضا، والأولاد متأثرون. نحن في حزن وكآبة، وضيق، وألم وأمراض نفسية وجسمية ونتناول حبوب السعادة، وحبوب الاكتئاب ومهدئات القلق، رغم أننا لسنا فقراء بالمعنى الحرفي..
تفهمني أعتقد؟
أومأت برأسي أن : نعم. وقلت له أكمل.
فتابع يقول الرقاة لم يزيلوا المشكلة، بالأمس أحدهم طلب مني مائة دولار على الجلسة، وآخر ثلاثين، لا أمانع إن كنت سأشفى.
أنا مستريح للذي طلب أقل، ليس من أجل الفلوس. ولكن لغاية الرضا.
أنا بحاجة لنصيحة، وأيضا إلى راق محترف.
تعبت والله من هذه الحال.
قلت له: هل كان في إسرافك وحياتك السابقة معاصي وموبقات؟ قال: لا يخلوا من فلتات، لكن الصلاة والصيام تمام .
قلت والزكاة؟ قال: مندفع اللي ربنا يقدرنا عليه.
ثم استزدته قليلا، فتبين لي أنه غارق حتى النخاع في المعاصي والآثام وما زال. ثم أردف يقول هناك أفجر الناس ورقاص التيكتوك، يجنون ملايين الدولارات ويرزقون. وكأنه يريد أن يسبقني لكي لا أحاضر له في القيم ويبرر لنفسه. ولكني الآن منضبط وتبت الى الله تعالى وأحب الصالحين.
قلت يا عزيزي: إلى متى ستبقى تحب الصالحين ولست منهم؟! قالها الشافعي تواضعاً، ونقولها نحن توصيفا لحالة وتبريرا لأغلاطنا.
لا أدري لم لاحت أمامي صورة تلك المرأة في إدلب حيث مخيمات الموت، وهي تصنع خرجا من القماش المهترئ لتضع فيه الحجارة وتثقل به الخيمة كي لا تنسفها الريح وتطير في الشتاء القادم، وهي لا تملك ربع سنت في جيبها، لا أدري كم الحزن الذي اعتصرني وأنا أسمع كلامك وأذكر ذاك العجوز الذي باع كرسي ابنه العاجز المقطوع الرجلين ليؤمن ثمن الخبز له ولأولاده.
يعيش الفقير حياة الأغنياء إن ملك الرضا، ويحيى الأغنياء عيشة الفقراء إن فقدوها.
وأحسب أنك لست مصاباً بسحر، ولا مس، ولا عين. ولعلك مصاب بمتلازمة خوف الفقر، وأنت ولا شك أصبت مع الخوف ذاك بلعنة المعصية، تلك التي تأتي بعد كم كبير من الستر والإمهال من الله تعالى، واستنفذت الرصد. ولكنك لم تنتبه.
أرسل لك التنبيه تلو التنبيه، والرسالة تلو الرسالة، ولكنك لم تكن وأنت غارق في أتون الشهوات والملذات لتنتبه وتفهم.
سامحني إن قلت لك آسفا (إن نعم الله إذا زالت قلما ترجع)، فقد ورد عن السلف قولهم (داروا نعم الله فإنها قلما ترجع إذا ذهبت). محتمل أن ترجع، ويمكن أن يغفر الله لك، ويمكن أن تستعيد كل شيء، لكن يمكن أيضا أن لايكون ذلك وقد لايكون أبداً.
لم تحسن استقبال نعم الله وهي في إقبال فأحسن وداعها وهي في إدبار.
بيد أنني أظنك حتى الآن غارق في المنكر والحرام وراكض وراء السراب، من خلال بحثك عن الغنى المريح السريع عبر البورصة والفوريكس وغيرها متغافلا حكم الشرع فيها. وتركت طرق الكسب المشروع والحلال لأنك اعتدت الراحة والفت الرفاهية. ونسيت كيف يعمل الناس ويكسبون.
ياعزيزي: إن كنت خسرت الدنيا فإياك إياك أن تخسر معها الآخرة. انظر لحسرتك الآن على مامضى كيف جعلك وأنت خسرت في جولة، فكيف قد تكون حسرتك وقد خسرت الجنة.
بيد انك وحتى اللحظة في وضع تعتبره فقراً وهو غاية مايتمناه الفقراء بل هو ثراء بالنسبة لهم. وأحسب أني فهمت منك انك كنت تأكل الربا ولاتزال، وأن للناس عندك مال لم توفهِ لهم، ورفعوا عليك دعاوى !؟
أي عزيزي: وصفت لك الداء وأسبابه لاصف لك العلاج، والعلاج بأن لا تيأس، ولا تستسلم، ومادامت الروح فيك يمكنك أن تصلح مابينك وبين الله، وتحاول من جديد، وتعاود الكرة، وتتقن العمل، وتبني أعمالا أخرى، وتجتهد وتصلح ما فسد، ((والذي رزقك وانت تعصيه لن يتركك وأنت تطيعه)) .
فتوكل على الله واستعد ثقتك بنفسك ولامانع من الرقية إن كنت تظن نفسك مسحورا أو معيونا، وهي شيء بسيط تفعله بنفسك فلست بحاجة الى رقاة وخبراء ومحترفين وخوارق. بضع آيات تزيل المشكلة تماما فلا يغرنك المستهبلون في الأرض.
وقبل أي تحرك أعط الناس حقوقهم ورد اليهم ممتلكاتهم، ولو كلفك أن تجلس على الحصير، فمابينك وبين الله قد يغفر، ولكن مابينك وبين الناس لا تسامح فيه الا برضا الناس.
إلف النعم، وإدمان الرفاهية، والإسراف المفرط وخوف الفقر أبلغ بألف مرة في تدمير الإنسان من السحر والعين والحسد.
فإذا استقمت وتاب الله عليك وغفر لك ولم ترجع إليك ثروتك يكفيك أن يبعث في نفسك طمأنينة ورضا وقناعة هي خير لك مما طلعت عليه الشمس.
ولا تسرف لأن الله تعالى لايحب المسرفين. وبدلاً من حب الصالحين كن أحدهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى