مقالات

دعوةٌ لتأطير فَنّ “الاستغراب”

د. عطية عدلان

مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول
عرض مقالات الكاتب


بسم الله الرحمن الرحيم .. الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
على شاطئ الأصيل رَصَفت حقائبها وآذنت بالرحيل، رُوَيدَكِ أيتها العجوز الشمطاء؛ أَحَسِبْتِ أنَّك ستظفرين بالذهاب قبل وقفةٍ للحساب؟! أم غرَّكِ أنَّني أنسى، كلا لن أنسى وقد كنت من قبل نَسِيًّا، ولن أغفر لك على كثرة ما غفرت للذاهبين قبلك؛ إذْ إنَّك – مِن بين جميع مَن أنزلوا بِيَ الويلات – لا نظير لك ولا مثيل! هكذا تقول الإنسانية المعذبة لهذه الحضارة الذاهبة؛ بعد أن تهيأت للأفول مع قرب مغيب شمس هذه الحياة الدنيا؛ وبرغم يقيننا بأنّ هذا هو حديث النفس الإنسانية، فإنّنا – إذْ نَرُوم تأطير علم الاستغراب – لن ننطلق قطّ من الرغبة في تصفية الحساب؛ ذلك لأنّنا أمّة صاحبة رسالة عالمية إنسانية ربانية، ومن كان هذا شأنه ليس لديه عقدة نقص يجتهد في تجاوزها بردود أفعال مُبْتَسَرَة.
علم الاستغراب
هو – إذن – علم، وليس مجرد هجوم من الشرق على ثقافة الغرب وحضارته؛ ضِدًّا على هجوم الغرب على ثقافة الشرق وحضارته، ليس الاستغراب حركة فكرية ضد الاستشراق؛ لأنّ الاستغراب علم سيكون له أصول وقواعد منهجية ومنطلقات شرعية إنسانية، وأدوات بحثية محايدة ومتجردة، أمّا الاستشراق فقد كان واجهةً فكرية تنظيرية للاستعمار والإمبريالية، حيث لم يكن هناك فرقٌ بين الغارات الفكرية والغارات الجهنمية للآلة العسكرية الغربية، الاستغراب – إذن – علمٌ وفنٌّ يُقصد به: “الدراسة التي تستقصي فكر الغرب وثقافته وأداءه الحضاري في كافّة الميادن، وتُقَيِّمُهُ في ضوء الشريعة وما استقر فيها من الميزان”.
هذا الفنّ لا يزال يحبو، تشتعل جذوته حينًا ثم تخبو، ربما لم يوجد منه – لدى صدمة الأمة بالتفوق الغربيّ – إلا القليل، وعندما ألَّف الأمير “شكيب أرسلان” كتابه “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم” كانت الأمة الإسلامية قد بلغت قمة الانبهار بالغرب وقاع الهزيمة النفسية أمام هيمنته الفكرية، في ذاك الأوان لم يكن للاستغراب صوت إلا كصوت المسكين المتطفل على مواد الأثرياء المترفين، يخفت إذا صخبوا ويصمت إذا هدأوا، وإذا سُمِعَ منه شيء فكلمات مبعثرة يقضم الحياء والتضاؤل أنصافها، فإذا أردت مثالا فلا تجد سوى صفحات كألواح هائمة في لجة اليَمّ من كتاب “تلخيص الإبريز في تلخيص باريز” للأستاذ رفاعة الطهطاوي، وبعض أعمالٍ لفارس الشدياق جاءت تمشي على استحياء في آخر حياته، ومع بزوغ شمس الصحوة جاء كتاب: “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين” للندوي مع شذرات متفرقة للمودودي وسيد قطب؛ لتعيد شيئا من الثقة لأهل الإسلام.
صقورٌ وغربان
منذ عقود اخْتَتَمَتْ الألفية الثانية وافْتَتَحَتْ الثالثة ظهرت كتابات شرقية وغربية؛ تكشف عوار الحضارة الغربية وزيفها، وتشن الغارة على كثير من النظريات التي تمثل بالنسبة لها أهراما شامخة، فوجدنا من ينتقد الديمقراطية والرأسمالية والليبرالية، وإن كان أغلب تلك الكتابات يركز على مخالفة الحضارة الغربية للإسلام وعدم إمكان تآلفها معه، ولكنّ بعضها ركز على بيان فساد تلك النظريات في ذاتها وإضرارها بالبشرية، وذلك ككتاب “نقد الليبرالية” للمفكر المغربيّ “الطيب بو عزة”، أمّا الكتّاب الغربيون – من المسلمين وغير مسلمين – فقد تفوقوا في ذلك بصورة لافتة للنظر، فكان من المسلمين: “على عزت بيغوفيتش” و”مراد هوفمان” و”محمد أسد” وغيرهم، وكان من غير المسلمين: “إيدموند . ج . بورن” و”مونتجمري وات” و”نعوم تشومسكي” وغيرهم ممن قالوا كلمة الحق واجتهدوا في كشف سوءات الحضارة الغربية.
بينما نجد في المقابل رجالا من جلدتنا، يتقمصون أدوارًا إصلاحية نهضوية حداثية، يستفرغون وسعهم في استكمال مسيرة الاستشراق، ويمارسون عملية التغريب عن طريق محاولات إخضاع الخطاب الإسلاميّ والعروبيّ للهيمنة الغربية، ويشنّون – بالنيابة عن الاستشراق – الغارة تلو الغارة على التراث الإسلاميّ، حاملين معهم معاول هدم أطلقوا عليها أدوات الحفر المعرفي، كالفليلوجيا والهرمنيوطيقا والمينوفينولوجيا وغيرها مما يناسب تراث الغرب المتهالك، ولا يناسب تراثنا الذي بلغ النهاية في الموثوقية، من أمثال: أركون والجابريّ ومحمد شحرور وعبد المجيد الشرفيّ وحسن حنفي ونصر حامد أبو زيد وغيرهم، وهناك آخرون من أبناء التيار الإسلاميّ مضو على أثر أولئك، ودخلوا معهم جحر الضبّ، واتبعوا سَنَنَهم حذو النعل بالنعل، يروجون في هذه الأيام للنموذج الغربيّ ويجلدون التاريخ الإسلاميّ، باسم الفكر النهضويّ!
معايير التقويم
كل ما يمكن طرحه أو اقتراحه من معايير حاكمة لا يصلح منه شيء ولا ينضبط، خلا معيار وحيد، لا ينتمي إلى قومية أو عرقية أو ما شابه ذلك، إنّما ينتمي فقط إلى الوحي المعصوم، وهو معيار الشرع والميزان؛ قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: 25)، وهذا عام في كل كتاب وكل ميزان نزل من السماء، وقال سبحانه في القرآن خاصة: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) (المائدة: 48)، أي رقيبا وحاكما؛ يصدق ما جاء فيها من الحق ويكشف ما طرأ عليها من تحريف وتصحيف، وقال في شأن الأمة التي أوتيت الكتاب المهيمن والميزان العدل: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (البقرة: 143)؛ فالدراسات الاستغرابية يجب أن تتخذ الشرع والميزان دون غيرهما معيارا لتقويم الحضارة الغربية.
الأسس الحاكمة
إذا كان اتخاذ الشرع والميزان معيارا للتقويم هو الأساس الأول من الأسس الحاكمة لعملية الاستغراب، فإنّ العدل والقسط هو المعيار الثاني بلا أدنى شك؛ فالشرع الذي نتخذه معيارا للتقويم هو الذي لقَّنَنَا ذلك، وحَتَّم علينا أن نعدل في الحكم على الأفكار والمذاهب وعلى أصحابها، قال تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (الأنعام: 152)، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (النساء: 135)، وقال عزّ وجل: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: 8)، أمّا الأساس الثالث فهو الموضوعية، وعدم الاشتغال بالأمور الهامشية، ومن تأمل قصص القرآن ولاحظ التركيز على الموضوعات والتخطي الظاهر للأسئلة الصغيرة؛ علم كم هي عظيمة ومفيدة ومجدية هذه الطريقة الرشيدة التي تتوخى الموضوعية، ومن الأسس كذلك الاستقصاء والذهاب إلى الجذور؛ لالتماس العبرة، قال تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (آل عمران: 11)، فالسير في الأرض استقصاءٌ واستقراءٌ، والنظر لاستكناه الكيف ذهاب إلى الجذور وعبور إلى الدرس المستفاد، ومنها الانطلاق من الوظيفة التي نالت بها هذه الأمّة الخيرية، وهي تعميم رسالة الإسلام لكافّة اللناس: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)، فهذه الأمّة أخرجها الله للناس، وابتعثها فيهم؛ ليخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ولا ريب أنّ هذا المنطلق سيكون له الأثر الكبير في استقامة هذا العلم.
مقترحات وتجارب
تبقى الأعمال الفردية مهما كثرت ضعيفة وغير قادرة على الوفاء بالمسئولية الكبيرة، فلابد من أعمال جماعية، وأقترح أن يخصص للاستغراب قسم بالدراسات العليا بكليات العلوم الإسلامية بالجامعات، وأن تؤسس المدونات والمجلات العلمية المحكمة المتخصصة في هذا الشأن، وتعد تجربة “موسوعة الاستغراب” التي تؤسسها جامعة قطر تجربة رائدة في هذا الميدان، وجدير بالذكر أنّ المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجية أسس مجلة دورية اسمها “الاستغراب” وهي مفيدة وجيدة، أمّا الكتب التي تؤصل وتؤطر للعلم ذاته فأفضلها كتاب المؤرخ والمفكر الإسلامي محمد إلهامي “نحو تأصيل إسلاميّ لعلم الاستغراب”.
ولعله من نافلة القول أنْ أبشر بأنّ جامعتي الموقرة – جامعة (siirt) – قد قامت بالترتيب لمؤتمر عن “علم الاستغراب” يبدأ في الحادي والعشرين من هذا الشهر، بمقر الجامعة بولاية (siirt) بتركيا، وسوف أشارك في هذا المؤتمر بإذن الله، إذْ إنّ تجربتي في هذا الميدان بادية للعيان، والحمد لله المنان، وقد أزجيت في الفترة الماضية على استحياء بعض الأعمال في الاستغراب، وجميعها – سوى كتاب الحرية بين الإسلام والفكر الغربيّ، وما تخلل كتبي الأخرى – مقالاتٌ منشورة في مواقع مشهورة، يمكن الحصول عليها بالبحث عنها بالعنوان مقرونا باسم الكاتب، منها: “الأكذوبة الكبرى 1،2،3” “تراجع الديمقراطية” “الديمقراطية المضادة” “” “أفول الغرب” “التاج البريطاني واللاهوت السياسي” “صعود اليمين في الغرب الدلالات والمآلات” “التراجع الغربي الأبعد أثرا” “نهاية القرن الأمريكي” “أمريكا الصهيونية إلى أين” “عالم ما بعد أمريكا” “مآلات التصويت العقابي” “قراءة في فكر مراد هوفمان 1،2،3” “الغزو الروسي لأوكرانيا نظرة سننية”، هذا ونسأل الله أن يستعملنا في نصرة دينه، وأن يتقبل منّا ومنكم أجمعين.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. أرجو الله أن يجعل جهودكم الطيبة في حراسة الإسلام و تبليغ رسالته ، رسالة الرحمة للعالمين ، في ميزان حسناتكم يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم . لا شكَ أن الاستغراب ، كجهد معاكس للاستشراق ، فكرة إبداعية في إيصال الرسالة لشعوب مغلوبة على أمرها تعرَضت و تتعرَض باستمرار لقدْرٍ هائل من الكذب والخداع و التضليل بما يفوق ما حصل مع شعوب أمتنا لأن تلك الشعوب هي جبهة طواغيت الكفر الداخلية فلا بدَ للطواغيت من الحرص على إبقائها تحت السيطرة التامة و التوجيه المخاتل الدائم . حين يشعر الطواغيت أن شعوبهم قد بدأت تستيقظ من غفلتها ، تنقلب الأساليب الناعمة إلى قوة غاشمة في منتهى الخشونة و يتبين أن الديمقراطية لها أنياب كما قال عميل الغرب “السادات” في يوم ما عندما كنت أعيش في أوروبا متعمقاً في واقعها و أتساءل هل دولهم هذه حرَة أم بوليسية لا تختلف كثيراً عن دويلاتنا ؟
    كانت توجد قوى و حواجز مادية ، عبر التاريخ ، حاول أصحاب السلطة – من ملوك وأباطرة وأمراء- إقامتها في الأقطار التي كانت مُرشَحةً لأن ينفذ إليها الإسلام فيلتقي مع شعوبها بأريحية لتبليغهم الرسالة مع ترك حرَية الاختيار لهم ما بين الكفر و الإيمان . لقد كان الفتح أو الجهاد من أجل كسر الحواجز المادية أي لتحرير الشعوب من عبودية الطاغوت .
    كان من أكبر معوقات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي – كما فهمت منذ زمن بعيد – هو منع تواصل الشعوب التركية مع الشعوب الأوروبية بحرَية ، و هذا الحجب هو من أكبر الأدلة على هشاشة المستوى الفكري و الثقافي لدى دول أوروبا العميقة . لو كان هنالك ارتفاع مستوى في الفكر و الثقافة لما كانت هنالك خشية أو تخوفات من عرض أفكار مقابل أفكار بطرق سلمية تتجلى فيها آداب الحوار من أجل الوصول إلى الأفكار الصائبة تماماً كما يجري ذلك في العلوم الطبيعية ” فيزياء ، كيمياء ، رياضيات …” .
    من أروع ما قرأت ، في مجال علاقة الإسلام بالغرب أو العكس ، كانت كتب الأستاذ أنور الجندي – رحمه الله – و هي كتب ستلزم لكل حامل دعوة لنور الإسلام العظيم المبدَد لظلمات الكفر و الجهل .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى