بحوث ودراسات

حركة العصر الجديد: حيلة خبيثة لإحياء الباطنيَّة القديمة 3من 9

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

امتدَّت تأثيرات الفلسفة الرَّوحانيَّة وعقيدة الحكمة الإلهيَّة إلى القرن العشرين للميلاد، من خلال حركة الفكر الجديد (New Thought movement)، الَّتي ظهرت في أمريكا أواخر القرن التَّاسع عشر للميلاد، ودعت إلى الاتّصال العقلي بالإله، الَّذي تعتبره الحركة العقل الكلّي أو الحكمة المتناهية، وهو نفس اعتقاد فرقة الإسماعيليَّة والفِرق الضَّالَّة المنبثقة عنها في الألوهيَّة. طوَّرت تلك الحركة مبدأ امتلاك الإنسان قدرات خارقة لا يحسن استغلالها، كما ادَّعت الفلسفة المتعاليَّة من قبل، ليظهر مفهوم جديد هو العلاج بالطَّاقة البشريَّة الكامنة، وهذا ما توضحه الرَّشيد في تعريفها للحركة بأنَّها (صـ47):

حركة فكريَّة روحانيَّة تجمع بين طوائف متعدّدة تحمل مبادئ مشترَكة حول التَّأثير الإيجابي، وقانون الجذب، وتعظيم القدرات البشريَّة الكامنة، والاعتقاد بطاقة الحياة الفلسفيَّة الباطنيَّة، وغيرها من المفاهيم الَّتي راجت بين أعضاء حركة العصر الجديد من بَعد. لقد كانت النَّظرة المثاليَّة الَّتي تبنَّتها حركة الفكر الجديد للعقل والجسم مطابقة لتلك الَّتي دعت إليها حركة العصر الجديد من بَعد، حيث توقعان مسؤوليَّة المرض والشّفاء على الفرد نفسه، وتجعلان الفكر المجرَّد قادرًا على تشكيل الواقع وخلْقه.

أصبح العلاج بالطَّاقة (Energy healing؛ Energy medicine)، أو الطّبّ الرَّوحاني، من بين وسائل العلاج البديل، وهو يقوم على تقديم المعالجين للمرضى طاقة إيجابيَّة يمكنها تخفيف الأمراض، على أن يتمَّ العلاج في جلسات تُستخدم فيها طاقة المجال الحيوي، والعلاج الرُّوحي، والعلاج بالاتّصال، والعلاج عن بعد والَّلمسة العلاجيَّة، وغير ذلك من الوسائل. وقد نشر موقع Independent عربيَّة البريطاني مقالًا تحت عنوان “العلاج بالطَّاقة الكونيَّة: شعوذة وسحر أم علم؟” بتاريخ 21 يونيو 2020م، تناول حقيقة ذلك النُّوع من العلاج، مع الإشارة إلى آراء كثيرين ممَّن يؤكّدون تحسُّن حالاتهم الصّحيَّة، أو ربَّما شفاءهم التَّام، بعد تلقّي العلاج بتلك الطَّريقة.

وفي مقابل التَّأكيد على إيجابيَّة العلاج من هذا النُّوع، أكَّدت د. هيفاء السَّنعوسي، وهي أديبة وباحثة كويتيَّة، أنَّ ما يُسمَّى العلاج بالطَّاقة، مجرَّد دجل وبيع للوهم، يقع ضحية له الكثيرون، مع غياب الرّقابة الحكوميَّة. وجاء في نصّ المقال:

تنفي السنَّعوسي أن تكون الطاقة مصدراً للعلاج الجسدي أو النَّفسي، لأنَّها بحسب قولها “أفكار مجرَّدة وأوهام، وخرافات، وطقوس عقائديَّة، وممارسات متوارثة”. وتضيف “تأثيرها عقلي بالإيحاء، وزرع الأوهام التي يتخيلها الإنسان ويراها حقيقة”…كما تشّبه طقوس العلاج بالطاقة، بأنها أشبه ما تكون بطقوس “السَّحرة والعرافين” البعيدة كل البعد عن العلم والمنطق، وتقول “إنهم يمارسون حرفة الكلام، ويتلاعبون بالألفاظ والصيغ، ويزعمون بأنَّها حكمة تنطق بها أفواههم بينما هي فخّ وقعوا فيها، وانبهار بعقائد غير سماوية تؤمن بعبادة التَّماثيل والبهائم”.

ويتَّضح من وصْف السَّنعوسي للعلاج بالطَّاقة بأنَّه “خرافات، وطقوس عقائديَّة، وممارسات متوارثة” أنَّ ذلك العلاج الرَّوحاني هو صورة عصريَّة من وسائل التَّطبيب الَّتي يحترفها المشعوذون، باستخدام أعشاب نادرة أو تلاوة تعاويذ على جسد المريض. ولن ننسى أنَّ طائفة اليهود الاسينيين (Essenes) احترفت ذلك النُّوع من العلاج، خلال فترة اعتكافها في كهوف قمران؛ ولن ننسى كذلك أنَّ المبشّرين الأوائل بالمسيحيَّة تمتَّعوا بقدرات خارقة في مداواة المرضى، وكانوا ينسبون ذلك إلى معجزات يسوع؛ كما أنَّنا لن ننسى أنَّ مسحة المرضى من بين أسرار الكنيسة السَّبعة، وأنَّ عمليَّة العلاج تتم بمسح المريض بزيت معيَّن بعد قراءة عبارات معيَّنة عليه، وفي هذا يكمن سرُّ مسحة المرضى، كما ورد في العهد الجديد “أَمَرِيضٌ أَحَدٌ بَيْنَكُمْ؟ فَلْيَدْعُ شُيُوخَ الْكَنِيسَةِ فَيُصَلُّوا عَلَيْهِ وَيَدْهَنُوهُ بِزَيْتٍ بِاسْمِ الرَّبِّ” (رسالة يعقوب: إصحاح 5، آية 14).

تلقي د. هيفاء الرَّشيد الضَّوء على تطوُّر أفكار حركة الفكر الجديد وتأثيره على حركة العصر الجديد، بالإشارة إلى محتوى كتاب A Course in Miracles (1975م)، أو دورة في المعجزات، وهو ما تعتبره من أهمّ المؤلَّفات الَّتي تقدّم صورة واضحة عن أفكار الحركة. ألَّف هذا الكتاب عالمة نفسيَّة تُدعى هيلين شوكمن، رفضت كتابة اسمها عند نشره، إيمانًا منها بأنَّها كانت مجرَّد وسيط؛ لأنَّها لم تكتبه إلَّا بعد أن سمعت صوتًا يقول لها “هذه دورة في المعجزات، الرَّجاء تقييد المعلومات”، وصارت من بعد ذلك تأتيها رؤى تحتوي على معلومات دوَّنتها في ذلك الكتاب، الَّذي تعتبره الرَّشيد “الصُّورة النَّصرانيَّة لمدرسة الفيدانتا الهندوسيَّة” (صـ49). أمَّا عن أهمّ ما انطوت عليه صفحات ذلك الكتاب، فهي الدَّعوة إلى الاتّحاد بالإله، ونشْر الحبّ الإلهي، وإشفاء الآخرين.

أسوةً بحركة الفكر الجديد في تركيزها على القدرات البشريَّة الكامنة، نشأت حركة جديدة باسم حركة الطَّاقة الكامنة، أو حركة القدرات البشريَّة (Human Potential Movement)، وهي حركة قامت على افتراض أنَّ كلَّ إنسان بداخله إمكانات من شأنها أن تُدخله في حالة استثنائيَّة من السَّعادة، إن أحسن استغلالها، من خلال تنشيط شرارة إلهيَّة كامنة داخل الإنسان. وكما تذكر كاي ألكسندر في Perspectives on the New Age (1992م)، أو منظورات عن حركة العصر الجديد، فإنَّ أهمَّ مرتكزات تلك الحركة التَّنمية البشريَّة وتطوير الذَّات، والاعتقاد في قوَّة الحياة، وهي طاقة كونيَّة تؤمن بوجودها الفلسفات الشَّرقيَّة، ويكمن تحصيلها من خلال جلسات اليوجا (صـ42). وبدافع من أفكار تلك الحركة، بدأ تأسيس ما يُعرف بمراكز التَّنمية البشريَّة، الَّتي يتولَّى المدرّبون فيها مهمَّة تحسين القدرات الذَّاتيَّة للمتدرّبين، من خلال تحسين الوعي الذَّاتي والمهارات الشَّخصيَّة، وبناء المعارف، وترقية المواهب، وتطوير الإمكانات. وتضرب د. هيفاء الرَّشيد المثل بمعهد ايسالن (Esalen Institute) الأمريكي بوصفه أحد أشهر مراكز التَّنمية البشريَّة، عُرف عنه تقديم دورات في تحسين القدرات الذَّاتيَّة بواسطة جلسات روحانيَّة تأمُّليَّة. وتشير الباحثة إلى أنَّ مايكل ميرفي، مؤسّس المعهد، وهو خرّيج جامعة ستانفورد الأمريكيَّة العريقة حيث درس علم النَّفس، قبل تأسيس المعهد قد قضى فترة من حياته في الهند، حيث تعلَّم الطُّقوس التَّأمُّليَّة الهندوسيَّة، وأراد أن ينقل التَّجربة إلى أمريكا. على ذلك؛ “أخذ ينظّم الدَّورات في المعهد الَّذي أسَّسه على أرض أسرته بهدف إطلاق القدرات البشريَّة الكامنة، وإحداث ثورة في الوعي العالمي” (صـ51).

مصادر باطنيَّة تأثَّرت بها حركة العصر الجديد

كمثل كافَّة الحركات الباطنيَّة، تُصنَّف حركة العصر الجديد بأنَّها تلفيقيَّة؛ أي أنَّها اعتمدت على عدد من المصادر المختلفة في تكوين مبادئها وعقائدها. أمَّا عن أهمّ تلك المصادر، فهي الدّيانات الوثنيَّة القديمة، نثل الهندوسيَّة والبوذيَّة والطَّاويَّة والمصريَّة القديمة؛ والعقائد الفلسفيَّة السَّائدة في الحضارات الوثنيَّة، وبخاصَّة اليونانيَّة القديمة والهنديَّة؛ وعقائد الغنوصيَّة المسيحيَّة والقبَّالة اليهوديَّة؛ وفِرق الغلو الشّيعيَّة. ويرى كثيرون أنَّ العقائد الباطنيَّة الغربيَّة استقت مصادرها من الدّيانات الشَّرقيَّة القديمة، وبخاصَّة الهندوسيَّة. وقد سبقت الإشارة إلى أنَّ جمعيَّة الحكمة الإلهيَّة، صاحبة الدَّور الأكبر في تكوين الأساس العقائدي للعصر الجديد، قد اعتمدت على الفلسفات الهنديَّة القديمة، بل ونُقل مقرُّها إلى الهند، حيث تطوَّرت أنشطة الجمعيَّة. وكما تخبر الباحثة، تُعتبر الهندوسيَّة أهمَّ مصدر اعتمدت عليه حركة العصر الجديد في تطوير عقائدها، كما تقول بإيجاز (صـ69):

تأثَّرت حركة العصر الجديد بالهندوسيَّة بشكل ظاهر وصريح، فهي تهدف إلى الاستنارة الَّتي تعني إدراك الحقيقة الإلهيَّة للنَّفس البشريَّة ووَحدة الوجود، مستندين في ذلك على الفلسفات الهندوسيَّة ومستعينين بالوسائل ذاتها لتحقيق هذا الهدف. وقد اقتبست منها الاعتقاد بالتَّناسخ، مع اختلاف يسير عند الحركة، كما تتَّفق العقائد الهندوسيَّة مع نظرة حركة العصر الجديد للإله والكون والبشريَّة والخلاص.

ويأتي بعد الهندوسيَّة في أكثر المصادر الَّتي أثَّرت في تشكيل القاعدة العقائديَّة لحركة العصر الجديد البوذيَّة، وهي دينة وضعيَّة تُنسب إلى حكيم ومصلح اجتماعي يُدعى سدهارتا غاوتاما، الَّذي يشتهر باسم بوذا، وهو العرف المستنير. نشأت تلك الدّيانة في الهند، وأخذت الكثير من عقائد الهندوسيَّة، وعلى رأس تلك العقائد تناسُخ الأرواح. ادَّعى المُعلّم بوذا أنَّه قد انكشفت لديه 4 حقائق، وهي حقيقة العذاب، وحقيقة أصل العذاب وأسبابه، وحقيقة إبطال العذاب والقضاء عليه، وحقيقة السَّبيل المؤدّي إلى إبطال العذاب. والعذاب، وفق مفهوم بوذا هو التَّعرض لألم بدني وأذى نفسي؛ أمَّا عن أصله، فهو الرَّغبة في تحقيق شيء والعجز عن ذلك؛ ويُبطل الشُّعور بالعذاب حينما يتخلَّص الإنسان من الرَّغبة الَّتي يعجز عن تحقيقها. ويحدّد بوذا سبيل إبطال العذاب فهو مكوَّن من 8 شُعب، يمكن للمرء من خلال اتّباعه تحقيق السَّلام الدَّاخلي، دون الُّلجوء إلى إله، حينما يصل إلى النّيرفانا، أي انعدام الرَّغبة وانطفاء التَّوق. وقد كانت البوذيَّة من أكثر العقائد الشَّرقيَّة الَّتي اجتذبت، وتكفي الإشارة إلى أنَّ هيلينا بلافاتسكي، مؤسّسة جمعيَّة الحكمة الإلهيَّة الَّتي مهَّدت لنشأة العصر الجديد، اعتنقت البوذيَّة ومارست طقوسها لسنوات. وكما يذكر بول ماجواير في Evangelizing the New Age (1991م)، أو تنصير العصر الجديد، فإنَّ الحركة تمزج عقائد البوذيَّة بفلسفات أخرى تشترك في اعتقادها في تناسُخ الأرواح ووَحدة الوجود.

رمز السَّبيل ثماني الشُّعب في البوذيَّة

توصف الدّيانة المصريَّة القديمة بأنَّها ديانة وثنيَّة قامت على تعدُّد الآلهة، وآمن بتقديس البشر واتّخاذ الآلهة لأجسادهم لتكون بمثابة ناسوت يحلُّ فيه الَّلاهوت الإلهي. وبعد انتقال أسرار تلك الدّيانة إلى الغرب بعد احتكاك الأوروبيين المباشر بالآلهة المصريَّة، صارت تمارس تأثيرًا قويًّا على الحركات الدّينيَّة السّرّيَّة؛ لما تشتمل عليه من طقوس سحريَّة تتيح لصاحبها فعْل الخوارق وتسخير الكون من حوله. أمَّا عن أهم عقائد الدّيانة المصريَّة القديمة الَّتي تبنَّتها حركة العصر الجديد فهي البعث والخلود، والحلول ووَحدة الوجود، وتقديس البناء الهرمي. عُرف عن المصريين القدماء كراهيتهم للموت والفناء؛ فوجدوا السَّلو في الاعتقاد بأنَّ الرُّوح بعد هلاك المرء تعود إلى جسده من جديد؛ ومن هنا، بدأت مساعي الحفاظ على الجسد من التَّلف بعد الموت من خلال التَّحنيط الَّذي كان سيضمن للميّت الخلود في الحياة الجديدة، وفق اعتقادهم الضَّال. ومن الأساطير المصريَّة القديمة الَّتي وجدت التَّصديق عند أعضاء الحركات السّرّيَّة أسطورة إيزيس ونجاحها في تجميع أشلاء زوجها بعد مقتله من خلال طقوس سحريَّة. بفضل تلك الأسطورة المتنافية مع العقل، نالت إيزيس مكانتها في عالم السّرّ والعقائد الباطنيَّة؛ فأصحبت رمزًا للقدرات السّحريَّة الفائقة. ويكفي التَّنبيه إلى أنَّ إحدى الجمعيَّات الَّتي انضمَّت إلى حركة العصر الجديد، وقد تأسَّست في إيرلندا عام 1976مـ أطلقت على نفسها ‘‘أخويَّة إيزيس’’ (Fellowship of Isis). وبتأثير من عقيدة وَحدة الوجود، انحرف المصريون القدماء عن عقيدة التَّوحيد، الَّتي بُعث بها إليها نبيُّ الله إدريس (عليه السَّلام)، وبدأوا يقدّسون البشر، بزعم حلول الآلهة في أجسادهم، وهو ما تأثَّرت به حركة العصر الجديد، إلى جانب الاعتقاد في فلسفة العناصر الأربعة المكوّنة للطَّبيعة، وهو ما تخبر عنه د. هيفاء الرَّشيد (صـ84):

لقد كانت التَّصاوير المصريَّة المرسومة على جدران الأهرامات، وفي كُتُب الموتى تمثّل الآلهة والفراعنة وهم في أوضاع محدَّدة، يسعى النَّاس إلى تطبيقها من أجل تقمُّص الألوهيَّة، كما هو الحال مع أوضاع الأسانا (Asana) في اليوغا الهندوسيَّة. ومن الفلسفات المتعلّقة بوَحدة الوجود-والَّتي تبنَّاها المصريون القدماء-فلسفة العناصر الأربعة: النَّار، والهواء، والتُّراب، والماء. وهي عناصر لا تمثّل الأصول المادّيَّة للوجود المحسوس، بل تُعتبر الصُّورة البدائيَّة للوجود المُطلق، وبتمازُجها واجتماعها تتشكَّل مفردات الكون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى