مقالات

الترسيم البحري بين لبنان واسرائيل لن يتغلب الباطل على الحق

د. عثمان محمد بخاش

باحث في الفكر الإسلامي والقضايا المعاصرة
عرض مقالات الكاتب

إذن ظهر الدخان الأبيض بعد حملة وساطة مكثفة وجولات مفاوضات غير مباشرة ماراثونية قام بها “الوسيط” الأمريكي آموس هوكشتاين بين الطرفين لبنان وإسرائيل، و أعلن الجميع التوصل إلى صفقة “رابح- رابح” في إتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. فور توقيع الاتفاق، المتوقع أن يتم في الأسبوع القادم أي قبل انتهاء ولاية رئيس لبنان ميشال عون بأيام، وقبل موعد إجراء الانتخابات التشريعية في إسرائيل المقررة في 1 تشرين الثاني.
الاتفاق سيمكن إسرائيل من المباشرة في ضخ الغاز من حقل كاريش فورا، بعد أن قامت شركة انيرجن بالتجهيزات العملية اللازمة، وأجرت فحص تجريبي للجهوزية في الاستخراج والتصدير، بينما ستقوم شركة توتال الفرنسية ، صاحبة الإمتياز في الحقول البحرية في لبنان، بالبدء في أعمال التنقيب، والتي ستحتاج زمنا يمتد سنوات للتوصل إلى التثبت من احتياطات الطاقة الموجودة فعلا، لا المتوقعة، في حقل قانا، الذي ينطبق عليه أنه “سمك في بحره”، إذ تتفاوت التقديرات والتخمينات في غياب المسح الجيولوجي التفصيلي عن الكميات الموجودة فيه…فقد نشر موقع روسيا اليوم (10-10-2022) أن موقع “واللا” الإخباري نقل عن 4 مسؤولين حضروا اجتماع المجلس الوزاري الأمني المصغر، بأن مدير وزارة الطاقة ليئور شيلاط قال إن تقديرات وزارته وشركة “توتال إنرجي”، التي تمتلك امتياز التنقيب عن الغاز في حقل “قانا” المتنازع عليه، تشير إلى أن الربح المحتمل من المنطقة المعنية يبلغ ثلاثة مليارات دولار فقط”. كما نقلت القناة “13” العبرية عن شيلاط قوله للوزراء: “من المحتمل أيضا أن يكون حقل “قانا” جافا تماما”.
نذكر هنا أن احتياطي الغاز في حقل كاريش يقدر ب 1.75 تريليون قدم مكعب من الغاز، وهي كمية بسيطة في الميزان التجاري، فحقل ليفياثن يحتوي على 35 تريليون قدم مكعب.
و لا تكمن أهمية إتفاقية ترسيم الحدود في كمية الغاز التي يمكن تصديرها الى أوروبا، فالكمية المتوافرة حتى الآن قليلة بالنسبة لاحتياجات أوروربا التي كانت تستورد 40% من حاجتها من روسيا أي 155 بليون متر مكعب سنويا. وإنما تكمن أهمية الإتفاقية بأنها تفرض “تطبيعا” تنزع فتيل إشعال صدام عسكري، في وضع شبيه لقرار مجلس الأمن 1701 الذي وضع حدا لحرب تموز 2006، وفوض قوات الامم المتحدة بضمانة عدم إندلاع صدام عسكري على الجبهة الشمالية لإسرائيل..وكما نعلم فمنذ 2006 نعمت إسرائيل بالأمن ، ولم يعكر صفوها أي خطر أمني من الجبهة الشمالية، تماما كقرار فك الاشتباك في 1974 الذي “جمد” جبهة الصراع في جبهة الجولان، حيث قام النظام السوري منذ أيام حافظ السد بضمان أمن إسرائيل، وبرعاية الأمم المتحدة.
هذا “التطبيع” يفتح مجالات واسعة أمام إسرائيل لتنمية شبكة من العلاقات الاقتصادية والتجارية و”التنموية” مع دول الجوار من “المطبعين”: فمعاهدة كامب ديفيد أمنت الحدود الجنوبية مع مصر و أخرجت مصر من معادلة الصراع العسكري مع إسرائيل، ومعاهدة وادي عربة في 1994 أمنت حدود إسرائيل مع النظام الأردني، ومعاهدة أوسلو فرضت سلطة أوسلو في رام الله لتقوم بحراسة الكيان الإسرائيلي، رغم وجود بعض الرؤس الحامية من المجاهدين الأبطال الذين يؤثرون الآخرة الباقية على الدنيا الفانية فيقومون من حين لآخر بالتنغيص على إسرائيك كدر الحياة ، فتجهد قوات مخابرات السلطة بالتنسيق مع جنود إسرائيل للعمل على الفتك بالمجاهدين.
فمكاسب إسرائيل من الاتفاق أكبر بكثير من بضعة براميل من النفط أو الغاز، وهي محدودة كما ذكرنا، ومع ذلك كثرت التصريحات التي اعتبرته اتفاقا تاريخيا ويفتح صفحة جديدة من الاستقرار والازدهار لصالح الجميع، فقد قال رئيس الحكومة الإسرائيلية على صفحته في “فيسبوك”: “تحدث رئيس الوزراء يائير لابيد قبل قليل مع الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي هنأه على الاتفاق التاريخي الذي تم التوصل إليه مع لبنان حول ترسيم الحدود البحرية في ختام عشر سنوات من المحاولات” ، ونقل عن بايدن قوله للابيد: “أنت تصنع التاريخ”. و أـكد لابيد في بيان: «هذا إنجاز تاريخي سيعزز أمن إسرائيل ويضخ المليارات في اقتصادها ويضمن استقرار حدودنا الشمالية». وهنأت السفيرة الأميركية دوروثي شيا لبنان بالاتفاقية قائلة: “هذه الإتفاقية التي أُعلن عنها ستؤسس للبنان مزدهر وتعزز الإستثمار الخارجي في لبنان”.
فإذا أدركنا أن الاتفاق، حسبما تسرب إلى الآن، “جمّد” النزاع الحدودي بتأجيل النقاط الخلافية إلى موعد لاحق يتم فيه الترسيم النهائي للحدود البرية والبحرية، علمنا أن أهميته تكمن في نزع فتيل الصدام العسكري. ولهذا كثرت التصريحات التي ترى أن الاتفاق سيفتح صفحة جديدة من التنمية الاقتصادية و تدفق الاستثمارات المالية لإخراج لبنان من قعر الهاوية التي قاده إليها الطبقة السياسية الفاسدة المتحكمة في البلاد والعباد لعقود من الزمن، وإن كان هذا كله تم تحت سمع وبصر أمريكا والغرب.
فقد سبق لأمريكا وفرنسا أن أغدقتا الأموال على السياسيين الغارقين في نهب المال العام و نهب المشاريع عبر الصفقات والسمسرات، وهذا في وضح النهار، ولكن لم يمنع فرنسا وأمريكا من تقديم مليارات الدولارات عبر مؤتمرات باريس 1 و 2 و3 و آخرها مؤتمر سيدر في 2018. حتى قررت أمريكا أنه قد آن الآوان لإغراق لبنان في أزمة مالية اقتصادية (تبلغ قيمة الدولار 39800 ليرة لبنانية اليوم) لا يقوم منها إلا بالتوقيع على شروطها سواء عبر الترسيم البحري مع إسرائيل أو عبر فتات صندوق النقد الدولي و البنك الدولي. وكانت السفيرة الأمريكية شيا وعدت في آب 2021 بأن أمريكا ستمكن لبنان من استيراد الكهرباء من الأردن و استيراد الغاز من مصر لحل أزمة الكهرباء الخانقة، ولكنها بقيت وعود كوعود عرقوب، وسراب تبخر في عتمة الليل الحالك التي يكتوي اللبنانيون بها حتى اللحظة.
أما موقف حزب الله من الاتفاق فكان أن اعتبره نصرا إلهيا آخر تحقق بفضل جهود المقاومة، كما ذكر الأمين العام حسن نصر الله في كلمته مساء الثلاثاء 11-10-2022. ومن المعروف أن حزب الله كان أرسل طائرات مسيرة طارت فوق حقل كاريش وأرفقها بإنذار أنه لن تستطيع إسرائيل استخراج الغاز من كاريش، المتنازع عليه، قبل أن يحصل لبنان على كامل حقوقه في مياهه وثرواته…أما ما هي هذه الحقوق فيقررها رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون…كما قال نصر الله في كلمته..فحزب الله، في الظاهر، لا ولم ولن يشارك في المفاوضات، وإنما يختبيء وراء عباءة رئيس الجمهورية، معلنا أن حزب الله سيضحي للدفاع عن ثروات البلاد التي تقررها الدولة اللبنانية ممثلة بالرئيس.
وهذا “تذاكي” لا يخفى على أي طفل سمع بالاعيب السياسة.فالاتفاق هو “تطبيع” مع العدو المحتل، يؤدي إلى صمت المدافع والصواريخ، ويؤدي إلى أن تصدأ في مرابضها، تحت ضمانة ورعاية أمريكا، التي ألقث بثقلها لتمرير الاتفاقية.
.والشيء بالشيء يذكر، فحقل ليفياتان يقع في مدى مرمى صواريخ حماس، كما يقع في مرمى صواريخ ما بعد بعد حيفا.ولكن هذه الصواريخ تبقى مشغولة في تدمير القصير ودرعا وحلب والزبداني ومضايا! بينما تصب “الشعارات المدمرة” حممها على العدو الإسرائيلي، وآخر “صواريخ الشعارات” هو ما جاء في كلمة الرئيس الإيراني رئيسي (12-10-2022) في كلمة له أمام مؤتمر الوحدة الإسلامية الذي عُقد في طهران : “القضية الفلسطينية والقدس هي أهم قضايا العالم الإسلامي”، معتبرا “أن الشعوب الإسلامية لم ولن يقبلوا فكرة التطبيع مع كيان الاحتلال الإسرائيلي الغاصب” و مؤكدا: “أن الكيان الصهيوني لا يفهم المواثيق والعهود ، والذين كانوا يظنون بأن السبيل لإنقاذ فلسطين هو طاولة المفاوضات كانوا مخطئين. لقد انتصرت ثقافة المقاومة الفلسطينية.واعتبر المقاومة والصمود الحل الأساسي الوحيد للقضية الفلسطينية”…
نعم هذه آخر صواريخ قائد فيلق القدس وصاحب شعار “زحفا زحفا حتى القدس”، بينما يسهر صاحبه نصرالله على حماية الحدود البرية والبحرية ، وضمان عدم وقوع أي حادث ينغّص على إسرائيل المضي قدما في مد شبكة المشاريع الاقتصادية مع أوروبا والاردن والخليج. فمن المعروف أن الإمارات تملك حصة 22% من حقل تمارا النفطي في إسرائيل. وفي نوفمبر 2021 تم توقيع مذكرة تفاهم بين الاردن واسرائيل في إكسبو دبي ينتج الأردن بموجبها 600 ميغاوات من الطاقة المتجددة لصالح إسرائيل، وتقوم إسرائيل بتحلية 200 مليون متر مكعب من المياه لصالح الأردن، بتمويل من الامارات، وما هذا إلا غيض من فيض.
وكانت الامارات وقعت في دبي أول حزيران الماضي اتفاقا للتجارة الحرة يعد الأول من نوعه بين تل أبيب ودولة عربية؛ وقال دوريان باراك رئيس مجلس الأعمال الإماراتي الإسرائيلي إنه “يتوقع أن تكون هناك ألف شركة إسرائيلية تعمل في الإمارات أو عبرها بحلول نهاية العام وتمارس أنشطة مع جنوب آسيا والشرق الأقصى والشرق الأوسط.”
كل هذا فيما يقوم أسد من أسود أرض الإسراء والمعراج بالهجوم بمفرده على حاجز لجيش الاحتلال عند مخيم شعفاط في ضواحي القدس، و لا زالت للقوات الإسرائيلية تواصل فرض حصار على الفلسطينيين في القدس الشرقية ضمن عملية بحث وتمشيط عن منفذ عملية مساء السبت التي قتلت فيها جندية إسرائيلية وأصيب جنديان بجروح متفاوتة.
وهكذا، في قاموس النظام الايراني والأنظمة العربية وتوابعها من منظمات المقاومة والصمود والتصدي، تتغلب لغة “الازدهار الاقتصادي” و “تدفق الاستثمارات” على لغة الصراع بين الحق والباطل؛ فالحق، عند التجار السماسرة هو ما عنى الكسب المادي المقوم بالدولارات، والباطل، بنظرهم الفاسد، هو كل دعوة لنصرة المظلوم في وجه الظالم ومساندته في استرداد حقه السليب ، وتحرير كل شبر محتل.
د. عثمان محمد بخاش
16-ربيع الأول 1444
12-10-2022

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى