مقالات

دور التنمية المستدامة في القطاع التعليمي من منظور الفكر الإسلامي

د. محمد القطاونة

أستاذ العقيدة والفلسفة
عرض مقالات الكاتب

بالاشتراك مع أ.سعيد محمد زعبنوت_ باحث دكتوراة /جامعة ملايا /كوالالمبور|

إن مفهوم التنمية في الفكر الإسلام مفهوم شامل يستوعب كل ما يؤدي إلى الحياة الطيبة للإنسان الذي كرمه الله تعالى وجعله خليفته في الأرض، وأمره بإصلاحها ونهاه عن السعي فيها بالفساد والخراب والدمار وإهلاك الحرث والنسل. والمناخ المناسب لعملية التنمية في الإسلام هو صلاح البيئة المطبقة فيها، ولن يكون ذلك إلا بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية فيها، في مختلف جوانب الحياة والتمسك بالقيم الإسلامية. 

فالتنمية وفق الرؤية الإسلامية تعرف بأنها:  السعي للارتقاء بحياة الناس ماديًّا وروحيًّا بما يسعدهم في دنياهم وأخراهم، وفق السنن التي وضعها الله سبحانه وتعالى في الحياة، من غير إفساد أو إضرار أو إهدار للموارد، وبما يضمن حظوظ الأجيال كلها حاضرها ومستقبلها؛ حتى يتحقق لهم التكريم اللائق بهم.

فالتنمية إذن عمل وسعي متواصل للوصول إلى حالة الإشباع المُحَقِّقة لسعادتهم، وفق سنن كونية وضعها الله سبحانه وتعالى، تنمية متوازنة وشاملة لا يطغى فيها جانب على آخر، فهي تنمية اقتصادية واجتماعية وإنسانية وبيئية وتقنية وإدارية وتعليمية، وهي تنمية مادية وروحية، تنمية تشاركية لا يقصى فيها أحد، ولا يحرم من ثمارها أحد، تنمية تحافظ على البيئة من التلوث والعبث والهدر، تنمية تعطي للأجيال الحاضرة حقها من غير إجحاف بحقوق الأجيال القادمة، تستخدم فيها أفضل الوسائل والسبل لتحقيق الاستثمار الأمثل للموارد المادية والبشرية في العمليات التنموية، ولاعتماد مبادئ العدالة في الإنتاج والتوزيع والعوائد، تنمية غايتها القصوى هي الإنسان كل الإنسان، فهي تسعى إلى الارتقاء المستمر به، حيث تقوم بتأهيله وإعداده ليقوم بعملية التنمية المنشودة من أجل تحقيق الرفاهية له في حياته، والوصول به إلى التكريم الذي أرداه الله له في هذه الحياة مُصْطَلِحًا فيها مع الله تعالى مجتنباً لما حرمه الله تعالى ونهى عنه.

وقد لا يظهر كبير فرق بين مفهوم التنمية المستدامة حسب الرؤية الإسلامية وفق ما قدمناه وبين مفهومها في الاصطلاح المعاصر الذي تعارفت عليه البشرية من خلال المؤسسات الدولية ذات الصلة؛ إلا إننا يمكننا الوقوف على شيء من التفرد والتميز للتنمية في مفهومها الإسلامي، وتختلف فيه عن الرؤية المعاصرة للتنمية، ويظهر ذلك فيما يلي: 

أولًا: التنمية في الإسلام ضرب من ضروب التعبد لله تعالى في الأرض يثمر لصاحبه خير الدنيا والآخرة.

ثانيًا: التنمية في الفكر الإسلامي تشمل الجوانب المادية والروحية معًا.

ثالثًا: وجود مرجعية شرعية منضبطة تعلو على الأهواء، وهي هنا القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وهما زاخران بالتوجيهات والتكليفات التي تضبط عملية التنمية وتُرَشِّدها وتنأى بها عن عبث العابثين.

رابعًا: التنمية في الفكر الإسلام لا تعرف التفرقة بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو العرق، فالجميع شركاء وكلهم مكلفون.

خامسًا: التنمية في الفكر الإسلام تكليف شرعي تصل مرتبته إلى درجة الفرض، وليست خيارًا للأفراد أو للأمم إن شاءوا قاموا به أو لم يقوموا، ويأثم كل مقصر في ذلك بحسب مرتبته ومنزلته.

إنَّ دراسة دور الإسلام في التنمية بشكل علمي يمكن لها أن تضاعف من عوائد مشاريع التنمية بما ينعكس بصورة كبيرة على الارتقاء بحياة الناس في الأقطار التي تتبنى الاستفادة من نتائج البحث والباحثين في هذا الشأن. فالأمة الإسلامية لم تكن أبداً لتشذ في ذلك بحيث تكون خططها التنموية لنهضتها خليطًا من أصول وفلسفات غيرها. فتراث هذه الأمة في الكتاب والسنة وما نتج عنهما من ثروة علمية كفيل بإخراجها من مشاكلها التنموية، وذلك بإعادة تفعيل منهجها التنموي على الأسس والأصول المستوحاة من الكتاب والسنة وما أجمع عليه الفقهاء ويكون نهجها في التعامل مع النماذج الوضعية للتنمية بحسن الانتقاء والبحث عن الحكمة النافعة.

إن الأمة الإسلامية المعاصرة تعيش حالة من غياب الهوية وتراجعًا وتخلفًا كبيرًا في إنجازاتها الحضارية على جميع المستويات والمجالات مقارنة مع إنجازاتها الحضارية في تاريخها المجيد، فبالرغم من إتباعها للمنهج الوضعي في التنمية (الرأسمالي والاشتراكي) إلا أنها ما لبثت كثيرًا حتى أدركت قصور المنهج الوضعي في تحقيق التنمية المنشودة. 

ويُعد التعليم مفتاحًا دائمًا للتنمية من خلال مساهمته في حل أغلب المشاكل التي تعاني منها الدول، والتنمية المستدامة في التعليم مشكلة غير حديثة وقد تناولتها الكتب والبحوث في السابق، وظهرت بعض الحلول لهذه المشكلة في القرآن الكريم في الآية الكريمة: }قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُون ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُون{ القرآن الكريم، يوسف 47-48 فهنا كان أول حل لتربية التنمية المستدامة لسد حاجات هذا الجيل والجيل القادم دون أدنى نقص.  

وللتعليم علاقة وطيدة مع التنمية المستدامة فهو المؤسس لها والمحافظ عليها فالتقدم العلمي والعالمي الملحوظ الذي غزى العالم في فهم الموارد البشرية وحاجتها والابتعاد في الاعتماد الدائم على الموارد الطبيعية وعدم استغلالها للمحافظة على الأجيال الحالية والقادمة، والقدرة على توظيف هذه الموارد البشرية وفهم قدراتها العقلية والإبداعية وتوظيف المهارات والخبرات البشرية بكل ما يخدم العلم والتنمية لينتج لنا جيلًا قادراً على الحفاظ على هذه الموارد ويستثمر في قدراته العقلية ومهاراته الإنتاجية. ولعل أهم الأمثلة التي نراها اليوم في هذا العالم هو قدرة الدول المتقدمة على إنتاج تنموي ضخم ومع افتقارها إلى أغلب الموارد الطبيعية مثل اليابان وسويسرا وسنغافورة فقد استطاعت بمواردها البشرية وطاقتها المتطورة أن تسبق العديد من الدول الغنية بالموارد الطبيعية. 

وبما أن من الأهداف الأساسية للتنمية المستدامة محاولة النهوض بالمجتمع في كافة جوانبه فلابد وأن يتطور جانب التعليم ويتقدم متماشياً مع عصر الانفجار المعرفي الهائل الذي نعيش فيه. 

ومشكلة عالمنا الإسلامي في العصر الحاضر أنَّ مشاريع التنمية سواء على مستوى عالمي أو محلي لم تأخذ بدور الفكر الإسلامي في التنمية بعين الاعتبار، وهذا يفقد هذه المشاريع قوة دفع كبيرة وقد تكون ضرورة وملحة كما في بعض  البلدان التي تنص دساتيرها على كون الإسلام المصدر الرئيسي للتشريع، بل إن بعض المشاريع التنموية قد تفشل نظرا لاصطدامها مع عقيدة  دينية سائدة في المجتمع الذي يراد تنميته.

وانطلاقاً من أهميه التنمية المستدامة  وأهمية التعليم باعتباره من أهم القطاعات إن لم يكن أهمها على الإطلاق أتساءل ما هو دور الجامعات عموما والكليات الشرعية خصوصا في عالمنا الإسلامي من أجل دعم التعليم لتحقيق التنمية المستدامة من منظور الفكر الإسلامي وسبل تطويره؟

وللإجابة على هذا السؤال لابد من بذل الجهد وتقديم الدراسات الكافية ووضع الخطط والبرامج حتى نستطيع أن نحقق لأمتنا الريادة والسيادة.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. جوابي على تساؤل الدكتور محمد حفظه الله (ما هو دور الجامعات عموما والكليات الشرعية خصوصا في عالمنا الإسلامي من أجل دعم التعليم لتحقيق التنمية المستدامة من منظور الفكر الإسلامي وسبل تطويره؟ ) راجياً من الله الكريم الهادي الحقَ أن يهديني و إياكم إلى الصواب و الحق في القول و التفكير و التحليل:
    في الحديث الصحيح الطويل الذي أخرجه الإمام أحمد و ابن حبان والبيهقي وغيرهم – عن أبي ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه- من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذرٍّ (… وأمرني أن أقول الحقَّ وإن كان مرَّاً ) حيث نتيجة كبر سنَي عاصرت نشأة الكثير من الجامعات العربية أو “البدايات المشرقة” التي جعلتها عند الجماهير معقد الأمل ومحطَ الرجاء ، و كان من أهمَ بواعث التمني أن تلك الجامعات – حينئذٍ أي في طور التأسيس– كانت فيها إدارات مؤهلة و أساتذة أكفاء أي علماء نهلوا العلم من علماء” حتى و لو كان الصنف الأخير قد عاش في عهد الاستعمار الأوروبي القديم” .
    في نهاية السبعينات من القرن الماضي ، باشر الاستعمار الفرعوني الجديد بشنَ حملةٍ شرسةٍ على أمتنا الماجدة من عدة محاور و كان من ضمن المحاور هدم التعليم الجامعي بطريقة متدرَجة يجري فيها تفريغ المضامين و المحتويات و إبراز المظاهر و الأشكال . يقتضي هذا العمل الخبيث “تسييس الجامعات ” أي أن تتدخل جهات خارجية مستبدة – محلَية و دولية – في الشؤون الداخلية للجامعات بحيث تجعلها تنحدر نحو الهاوية المريرة وصولاً إلى “النهايات المحرقة” .
    يكون هذا التدخل بتعيين رؤساء جامعات على أساس أي شيء إلا الكفاءة ، و الأصل أن يفتقد هؤلاء القوة الفكرية و المزيَة العلمية و الأمانة و الإخلاص للأمة و هي أربعة صفات لا يمكن تسيير عملية التعليم – التعلمَ بدونها .
    صار “فلان” رئيس جامعة لأن المخابرات الجوية اختارته أو لأنه من أقارب أبي جعفر أو لأنه من أزلام أبي حيدر أو لأن لديه حظوة عند ساكن قصر المهاجرين … “فلان” هذا لن يأتي بخير بل سيكون عنصر التخريب الأساسي في الجامعة ، و ستنعكس تفاهته و حماقاته على كافة التعيينات للمناصب “عمداء ، رؤساء أقسام ، …” و على تعيينات أكاديميين و إداريين و حتى خدميين يهبطون من فوق بالمظلات من دون استشارة أحد.
    مع مرور الوقت ، صارت الجامعات مليئة بالمتعالمين و حلَ هؤلاء مكان العلماء الحقيقيين و طفحت الجامعات بالعبيد و بالجواسيس بدلاً من الأحرار و المخلصين المتناقصين بالتقاعد.
    في سنة الله الكونية “لا بدَ من أولي بقيةٍ من دينٍ وفضلٍ ينهون عن الفساد في الأرض ” مصداقاً لقوله تعالى ( فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) ، و هذا يعني– في موضوعنا – وجود قلة مؤمنة “في الجامعات التي يجري إفسادها ” شعارها (… إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) . كان و لا يزال يوجد في جامعاتنا علماء أفذاذ يسعون لجعل التعليم يحقق التنمية المستدامة و على الأخص في الحضَ على التفكير النقدي و بإثارة العصف الذهني و بتشجيع اتجاه “تعلم كيف تتعلم” . لكن إدارات “المستعربين” حاربتهم و تحاربهم بضراوة بالمطاردة الساخنة و بمحاولة الحصول على المستمسكات و بالتهميش و بمنع الترقية و بالخصم من الرواتب و بالسحل الأكاديمي “بحسب تعبير دكتور في جامعة مغاربية” … لكن “مكر أولئك هو يبور” و سيبقى في أمتنا من يجعله الله “مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر” بعونه تعالى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى