بحوث ودراسات

مَن وراء صعود و “سقوط الرَّبيع العربي”؟ 9 من 9

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

ويقول المقال ذاته الَّذي نشرته وكالة الأنباء الأمريكيَّة، أسوشيتد برس، إنَّ أوباما اندهش من تغيير محتوى الخطاب الأخير لمبارك، ولم يكن يعرف أنَّ نجله وراء تمسُّك الرَّئيس الأسبق بالحُكم. ويبدو، كما يفترض مقال أسوشيتد برس، أنَّ المجلس العسكري قد تراجَع عن تأييد بقاء مبارك لفترة انتقاليَّة، بعد أن عُرف أنَّ نجله كان يخطّط للبقاء، وبعد عجْز مبارك ونائبه عن تهدئة الشَّارع وإنهاء الاحتجاجات. يؤكّد برينان (2015م) على أنَّ افتراض أنَّ الاحتجاجات الشَّعبيَّة هي الَّتي أجبرت مبارك على التَّنحّي غير وراد بالمرَّة، واصفًا الاحتجاجات بأنَّها “عاجزة، وفير مؤثّرة، وغير قادرة على الاستحواذ على السُّلطة أو تغيير المؤسَّسات الَّتي كانت تستحوذ على السُّلطة فعَّاليَّة” (صــ66).

أمَّا عن تبرير ذلك بأنَّ المؤسَّسة العسكريَّة، الَّتي كان تأييدها لا غنى عنها للاحتفاظ بالسُّلطة، هي الَّتي أجبرت مبارك على التَّنحّي، فهو أيضًا مشكوك في صحَّته، حيث أخبر ‘البيان الثَّاني’ للمجلس العسكري عن تأييد سعي الرَّئيس الأسبق إلى تسليم الحُكم بعد مرحلة انتقاليَّة تمتدُّ إلى سبتمبر أو أكتوبر 2011م، كان من الممكن أن تهدأ فيها الأمور ويعود نظام مبارك إلى الاستقرار. غير أنَّ التَّبرير الأقرب إلى الواقع هو ما قاله ويبستر ج. تاربلي في مقاله آنف الذِّكر، عن أنَّ هناك “قوَّة خارجيَّة” أجبرت مبارك على التَّخلّي عن منصبه؛ وبتأمُّل القوى العالميَّة المتحكّمة في سياسة العالم، “لا يمكن أن تكون تلك القوَّة غير الأمريكيَّة، ربَّما بمساعدة من البريطانيَّة”، كما يوضح برينان (2015م، صــ67). ويستنتج براين أنَّ جهود الإطاحة بمبارك، الَّتي تشمل الاحتجاجات الشَّعبيَّة بدفع من المخابرات المركزيَّة الأمريكيَّة ومنظَّمة الوقف الوطني للدّيموقراطيَّة وتأثير القادة العسكريين بدعم من الإدارة الأمريكيَّة، كانت بقيادة أمريكيَّة.

يعتقد برينان أنَّ المشير طنطاوي والفريق عنان كانا على اتّصال بالإدارة الأمريكيَّة عند اتّخاذ قرار التَّخلّي عن مبارك. فقد كان سامي عنان في اجتماع مع وزارة الدّفاع الأمريكيَّة في يوم 28 يناير 2011م، المعروف باسم جمعة الغضب، والَّذي قُتل فيه ما بين 650 و850 متظاهر؛ واضطرَّ حينها إلى العودة إلى مصر بسبب حراجة الموقف. ويذكر موقع صوت أمريكا (Voice of America) في مقال تحت عنوان “العلاقات العسكريَّة الأمريكيَّة-المصريَّة قد تؤثّر على الأزمة”، أنَّ الفريق عنان قد تلقَّى مكالمة من رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكيَّة، الأميرال مايكل مولن، أكَّد الطَّرفان فيها على حرْصها على استمرار الشَّراكة العسكريَّة الأمريكيَّة-المصريَّة. وقد أكَّد المقال أنَّ الإدارة الأمريكيَّة لم تكن ترحّب باستخدام العنف في مواجهة المتظاهرين، وأنَّ الجيش ما كان ليميل إلى ذلك الحلِّ لإنهاء الاحتجاجات، في إشارة ضمنيَّة إلى أنَّ قوَّات الشُّرطة المصريَّة كانت المسؤول عن استخدام العنف. هذا، وقد أشارت وكالة رويترز في 25 مايو 2011م إلى أنَّ المشير طنطاوي قد تواصَل مع وزير الدّفاع الأمريكي 5 مرَّات خلال الأزمة، ويُشاع أنَّ خلافًا دبَّ بين مبارك وطنطاوي خلال تلك الفترة.

وقد نشرت صحيفة واشنطن بوست في 22 مايو 2011م حوارًا مع المفكّر الليبرالي المصري المعارض لنظام مبارك، سعد الدّين إبراهيم، في مقال تحت عنوان “في مصر، ثورة بلا توضيح”، ردَّ خلال إبراهيم على سؤال عمَّا إذا كان الجيش “قرَّر التَّخلُّص من مبارك”، بقوله أنَّ “رئيس الأركان المصري (سامي عنان)، كان يصعّد الضَّغط، بأوامر من البيت الأبيض”، نافيًا عن يكون الجيش المصري قد تورَّط في قتْل المتظاهرين، ومشيرًا إلى أنَّ أوباما اقتنع بضرورة تنحّي مبارك عن الحُكم بعد خطابه الثَّاني.

ويستنتج برينان ممَّا سبق أنَّ الإطاحة بمبارك كانت بدفع أمريكي، بعد اطّلاع أوباما على سير الأحوال في مصر بعد مشاورة مسؤولين في مجلس الأمن القومي الأمريكي، وكان كبار قادة الجيش هم المنفّذ لمخطَّط الإطاحة بالرَّئيس الطَّاعن في السّن (83 عامًا حينها). لم يكن رحيل مبارك عن السُّلطة نتيجة لاحتجاجات نظَّمتها حركات ثوريَّة تسعى إلى تأسيس حُكم ديموقراطي، إنَّما كان انقلابًا أمريكيًّا جديدًا، أدارة باراك أوباما، بمساعدة الدّبلوماسي مايكل ماكفول، الَّذي صار لاحقًا سفيرًا لأمريكا في روسيا، والأكاديميَّة سامانثا جين باور، الَّتي أصبحت سفير أمريكا الدَّائم لدى الأمم المتَّحدة.

واقع المسألة بعيدًا عن المبالغات

يؤكِّد كريستوفر ل. برينان على أنَّ الرُّواية الإعلاميَّة السَّائدة، عن أنَّ الانتفاضات العربيَّة في مواجهة أنظمة الحُكم الاستبداديَّة في عدد من الدُّول العربيَّة كانت ثورات قادها شباب ونشطاء سياسيون معارضون وحدهم، ليست إلَّا وهم، مضيفًا أنَّ الزَّعم بأنَّ المحتجّين كانوا على تواصُل مع قوى خارجيَّة تعاونت معهم في تغيير رأس النِّظام في مصر لا ينقل الحقيقة كاملةً. أمَّا عن رؤيته الشَّخصيَّة لما حدث فهو أنَّ موجة الاضطرابات الَّتي عمَّت العالم العربي هي في الأصل بتدبير أمريكا، وتنفيذ من وكلائها بواسطة القوَّة المدنيَّة، مع الاستعانة بالقوَّة العسكريَّة إذا لزم الأمر، كما حدث في ليبيا. أرادت أمريكا أن يكون النِّظام العالمي متعدِّد الأقطاب الجديد الصَّاعد متوافقًا مع مصالحها، وأن يحافظ على أمن إسرائيل في الوقت ذاته. طبَّق أوباما في ذلك الصَّدد استراتيجيَّات خداعيَّة وسرّيَّة، مستعينًا بحلفاء إقليميين طموحين إلى تكوين زعامات في المنطقة، مثل قطر وتركيا؛ وكان ذلك على عكس استراتيجيَّات بوش الابن الفجَّة والصَّريحة.

استعانت أمريكا بالقوَّة المدنيَّة في مصر، متمثّلةً في الحركات التَّمرُّديَّة الَّتي دُرّب أعضاؤها على إشعال الثَّورات السّلميَّة، وجماعة الإخوان المسلمون، الَّتي طالما وظَّفها الغرب سياسيًّا لخدمة مصالحه، كما حدث في ثورة يوليو 1952م، وفي مقاومة التَّيَّار الشُّيوعي مطلع السَّبعينات عند تقارُب النِّظام المصري حينها مع أمريكا. أمَّا في ليبيا، فقد اعتمدت أمريكا على الجماعات الإسلاميَّة المتشدّدة، والميلشيات القبائليَّة، والمرتزقة، وفرق الموت في الإطاحة بنظام القذَّافي العلماني. ومع تدخُّل قوَّات النَّاتو، حُسمت المعركة لصالح وكلاء أمريكا في ليبيا، ولولا المساعدات الغربيَّة، لما سُحقت قوَّات القذَّافي وقُتل هو على يد أفراد من الشَّعب الليبي، في 20 أكتوبر 2011م، وهو يحاول الهروب من غارة للنَّاتو. وحتَّى لا يتوهَّم البعض عن أنَّ قوَّات النَّاتو دخلت ليبيا لإنصاف الشَّعب في ثورته على نظام القذَّافي، فما أثبتته الوقائع هو أنَّ تلك القوَّات عجزت عن حماية المدنيين، بل وسهَّلت قتلهم، وعملت على إزاحتهم من بيوتهم وتجريدهم من أملاكهم من خلال الطَّرد القسري. ما أسفرت عنه تلك الاحتجاجات هو الاضطرابات المؤدِّية إلى الانهيار المجتمعي، وبخاصَّة مع نشوب الصِّراعات الطَّائفيَّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى