مقالات

مظاهراتٌ في إيران .. كأسٌ والكلُّ شارِبُهُ

د. عطية عدلان

مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول
عرض مقالات الكاتب

إلى آخِرِ قطرة في قاعه سوف تشربه الشعوب؛ ثم يكون أمرٌ آخَرُ، إلى آخِرِ رَشْفَةٍ في كأس الثورة “العفوية” سوف تتجرع شعوبُ منطقتنا ذلك الخليط العجيب الذي يُطْرِبُ طورًا ويُخْرِبُ أطوارًا، ثم يكون أمرٌ جِدُّ مختلف، فهي مرحلةٌ واحدةٌ وعامَّة، وهي كأسٌ دوَّارةٌ وطامَّة، والكلُّ شاربُها ولا مَفَرّ، ولن يستطيع أحد – ولو بَذَلَ وُسْعَهُ – الحيلولةَ دون غَضْبَةِ الشعوب وثورتها، ولن يملك أحدٌ – ولو استفرغ طاقته – مَنْعَ الأنظمة الجائرة من سحقِ الثائرين وطَمْرِهم في مستنقع الثورة المضادة، حتى إذا ما اكتملت الجملةُ وتمّ معناها بدأت جملةٌ جديدة، تختلف في مفرداتها وعواملها وعلاماتها كذلك، واسألوا – إن كنتم لا تعلمون – جيرانكم أجمعين، اسألوهم عن مسيرتهم الثورية مُنذ ولادتها على شواطئ الإدرياتيكي إلى أن استقرت فوق أطلال الباستيل: كيف بدأت؟ وكيف تعوقت؟ ثم كيف كان ظَفَرُها في الختام؟

بين المنطق والواقع

منطقيٌّ إلى أبعد مدى أن ينتظر البعض من الشعوب أن تتريث بعدما رأت ما حل بالبلدان من خراب ودمار، ومنهجيٌّ إلى أن تبلغ المنهجية منتهاها أن يحرص الكثيرون على ألَّا تُلدغ الشعوب من جحر واحد مرات ومرات، وبَدَهيٌّ من هنا إلى مَنْشَأ البداهة ومَنْبَتِهَا أنْ يدرك الشعب الإيرانيّ أنّ السلطة الصفوية التي سحقت الثورات في سوريا واليمن والعراق؛ لن تسمح لرياح التغيير أنْ تقتلع الشجرة من جذورها بعد أن حالت دون حلحلة بعض فروعها؛ فيتروى ويتحلى بشيء من الصبر وطول النفس.

    كل هذا الذي ننتظره ونُنَظِّر له منطقيٌ وبَدَهِيٌ وَمَنْهَجِيٌّ، لكن الأمر لا علاقة له بمنطق التفكير ولا ببداهة العقول ولا بما تعارفناه من مناهج ومدارس، الأمر تحكمه عوامل فوق طاقة الشعوب واستيعابها، وليس الوعي الذي نسعى بكل ما نستطيع لتحريره وتطويره إلا عنصرا واحدًا من جملة كبيرة من العناصر المتحكمة في المشهد؛ فلا وجه لإطلاق العنان لأحلامنا كلما رأينا موجة تهب في جهة من جهات الأرض التي يستهدفها زلزال الثورات؛ إذْ إنّ الاسترسال مع هذه الأحلام الساذجة يؤخر اليقظة، ويعوق المسير نحو تجديد التفكير في كل ما يتعلق بالثورة والتغيير.

حتمية لا فكاك منها

إنَّ وضع الشعوب في منطقتنا مُرَتَّبٌ على نحو يحتم سيرها في هذا الطريق، الذي يبدأ بثورة عاليةِ المدّ، بالغةٍ ذروةَ المجد؛ لينتهي إلى واحد من مصيرين لا ثالث لهما إلا أن يجتمعا، الأول: الانقلاب التام الذي تستعيد فيه الثورةُ المضادةُ النظامَ السابقَ ومعه سيلٌ من الحقد الجارف والانتقام الغشوم، الثاني: الحرب الأهلية التي تنشر الخراب واليباب في البقاع والأصقاع؛ ذلك لأنّ هذه الشعوب المقهورة ليس لديها قيادةٌ موحدة تستمد من ثقافتها وحضارتها رؤيةً للتغير ومشروعًا للبناء والتطوير، وليس بيدها أيّ أداة من أدوات الضغط والإكراه، تستطيع بها أن تواجه عَسْفَ أنظمةٍ احتكرتْ كلَّ ما تم شراؤه من جيوب الشعوب؛ فلم تترك لها سوى حناجر مخنوقة وأصوات مبحوحة.

الأسباب التلقائية

لماذا يثور الإيرانيون؟ سؤالٌ يبدو وجيها لمن لا يرى صورة إيران إلا من الخارج؛ فالذي يبدو للبسطاء أنّ الدولة مستقرة بما حققته ثورتها من إنجاز على مستوى استقلال القرار السياسي، وبما حققته الحكومة من قدرة على المنافسة والمناكفة، وبما تَحَقَّقَ للمشروع الإيرانيّ عمومًا من توسع وتمدد على حساب الشعوب السُّنِّيَّة، لكنّ الحقيقة أنّ هذا الوجه البَرَّاق بما يحمله من ملامحَ زائفةٍ كزيف عقيدة “التَّقية” يتمايل فوق جسد عليل كليل محملٍ بالأمراض المستعصية، فإنّ النظامَ الحاكمَ الذي أفرزته الثورةُ الخومينيةُ تركيبةٌ نَكِدَةٌ، ترتدي فيها الثيوقراطيةُ ثوبَ الديمقراطية، ويتحالف فيها الملالي مع المشروع الصفوي التَّوَسُّعي، ذلك المشروع الذي يمتطي صهوة التشيع لينطلق إلى غايته، متجاهلا مسئوليات الحكومة تجاه الشعب، ومستخدما مقررات الشعب في صراعات لا ناقة للخلق فيها ولا جمل؛ مما نتج عنه أزمتان عويصتان.

معضلتان عويصتان

الأولى: الأزمة الاقتصادية الخانقة؛ فبحسب “الجزيرة نت”: أعلن رئيس غرفة التجارة الإيرانية أن حصة إيران في الاقتصاد العالمي تقلصت إلى النصف على مدار الأربعين عامًا الماضية منذ الثورة الإيرانية، وأفاد رئيس المعهد العالي لأبحاث الضمان الاجتماعي أن عدد السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر تضاعف بين عاميّ 2017م و2019م، ليصل إلى 30%، وانعكست الأزمة الاقتصادية على فئات مختلفة من المجتمع، فقد لجأت عائلات تأثرت بأزمة البطالة، إلى التقشف في الكثير من المصروفات الأساسية، والاعتماد على مداخيل بسيطة توفرها وظائف ظرفية مؤقتة، والكثير من الطلاب اضطروا للتخلي عن متابعة تعليمهم العالي نظرا لافتقادهم الموارد المالية اللازمة.

    أمّا الثانية: فهي الأزمة الاجتماعية؛ فإنّ التناقضات في عقائد الملالي التي يفرضونها فرضا، مع التناقضات الخارمة في مواقفهم؛ أدت إلى شيوع الإلحاد والانحلال الخلقي، وإلى حالة من البغض الشديد للملالي وللحكومة معًا، إلى جانب فقدان الثقة في القيادات الدينية والسياسية، فبحسب “العربي الجديد”: “تُجْمِعُ أغلبُ الدراسات الاجتماعية على وجود انتشار واسع لفقدان الثقة؛ باعتباره نوعًا من أنواع أمراض العلاقات الاجتماعية في المجتمع الإيراني، ويرجعون أسبابه إلى ضعف مراعاة القواعد الأخلاقية، ومع غياب الثقة يصبح من الطبيعي الحديث عن غياب الاستقرار وشيوع التوتر في العلاقات الاجتماعية”، وقد تواترت الأخبار على ألسنة الكثيرين من أبناء إيران بهذه الحالات.

جُحْرُ الضَّبّ

وكما يُذَكِّرُنا “نكاحُ المتعة” القائمُ بين الملالي والحكومة بازدواج السلطتين الدينية والزمنية في العصور الوسطى، يُذَكِّرُنا كذلك دخولُ المستبدين الإيرانيين في عباءة الحسين بالحالة الْمَرَضِيَّة الغريبة التي وَضَع قسطنطين نفسه فيها، يقول “ه.ج.ويلز” في كتابه “معالم تاريخ الإنسانية”: “والجليُّ الذي لا خفاء فيه أنّ قدرًا كبيرا من تاريخ المسيحية في ذاك العصر يَشِفُّ عن روح قسطنطين الكبير أكثر مما يشف عن روح يسوع، وقد كان قسطنطين مستبدا أوتوقراطيا مطلقًا”، هذه الإزدواجية الممجوجة تلفظها الفطرة، وتثور عليها الشعوب، وهذا السبب – برغم عدم طفوه على السطح – من أكبر الأمور التي يُراهَنُ عليها في استمرار الموجات الثورية وتتابعها، حتى ترسو سفينة الشعب الإيرانيّ حيث يريد لها الله، (وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 21).

مقالات ذات صلة

‫4 تعليقات

  1. أي نظام حكم سياسي يستند في استمراريته على قدرته على التحكم في حركة المجتمع وقوى المعارضة في الداخل، و على ردع قوى الخارج الطامعة في إسقاطه وتغييره، ومفتاح هذا كله هو “أهل الشوكة”…ففي روسيا سقط نظام القيصرعلى إثر الضربات الساحقة في الحرب ضد المانيا مما تسبب بتصدع الجبهة الداخلية و، الأهم، تصدع صفوف أهل الشوكة- الجيش الروسي الذين تزامنت شكواهم مع ارتفاع صيحات الاحتجاج من الشعب المكتوي بويلات الحرب، فلما سقط نظام القيصر تول الحكم حكومة “بورجوازية” تفتقد الرؤية والمشروع السياسي، فلما أصرت على المضي في الحرب ضد المانيا، تمكن الحزب البلشفي بقيادة لينين من إغتنام الفرصة و غلإطاحة بها، مع أنه ركب موجة السخط الشعبي وانتشار رياح التغيير في وسط القوى المعارضة، و كان الموقف الحاسم هو انفراط عقد الجيش المساند لحكومة كيرينسكي…في كوبا مع انتشار السخط الشعبي من الممارسات والسياسات الظالمة لباتيستا تبين أن هناك (رضا) أمريكي فتح الباب أمام الطليعة الثورية لكاسترو التي ركبت موجة الغضب الشعبي وقدم كاسترو القيادة الحاسمة للساعين إلى إسقاط النظام والذي سقط من جراء تراخي، أو غياب الدعم الأمريكي….في إيران ، بينما كان كارتر يشرب نخب السنة الجديدة مع الشاه واصفا إياه بأنه نموذج الاستقرار في المنطقة،كانت مخابرات ال سي أي إيه تحفر لإسقاط نظام الشاه وهذا ما تم بعد أن قام الجنرال هايسنر الأمريكي بتحييد قوى الجيش بل و حضهم على استقبال طائرة الخميني القادمة من باريس، فلما فقد الشاه سنده من أهل الشوكة- الجيش انتهى نظامه، وقد عبر الجنرال غراهي عن هذا بقوله في المحكمة حين سئل: ماذا كان الجنراك هايسنر يفعل في طهران في آخر 1978 و أول 1979 فقال: “الجنرال هايسنر رمى بالشاه خارج البلاد كمن يلقي فأرا ميتا”….
    أخلص إلى القول: لا يكفي وجود سخط شعبي عارم مهما كان محقا، بل لا بد من وجود القيادة البارعة، ولا بد من سحب “سند النظام المتمثل بأهل الشوكة” ، فإذا أدركنا ان النظام القائم في حظيرة سايكس بيكو ليس إلا كلب حراسة لمعلمه في الغرب، أدركنا حينها أن الصراع يدور مع الصياد- الغرب وليس فقط مع كلب الصياد. ولنا فيما جرى و يجري في مصر و الشام وليبيا واليمن حير شاهد. والله تعالى أعلم وأحكم.

  2. كان شاه إيران تابعاً لبريطانيا حتى عام 1953حين حصل انقلاب عليه “بتدبير من أمريكا ” لذلك اضطر- حتى يعود للحكم – مع سيدته بريطانيا لمسايرة أمريكا من خلال صفقة ، ثم صار يعمل شرطياً على الخليج العربي لخدمة بريطانيا و أمريكا . بحسب مثل شعبي مصري ، أمريكا ” زي الفريك ما تحيبش شريك” لذلك اشتغلت على تجنيد عملاء إيرانيين في الخارج “مثلاً ضباطاً يتدربون عندها ” و الداخل “مثلاً رجال اقتصاد و كهنوت” . من ضمن الكهنوت كان (الخميني الهندي) الذي سار معها في مطلع الستينات . قرر الشاه حينها قراراً رأيته و سمعته منه على التلفزيون – اعترف فيما بعد بخطئه- و هو كما قال إبعاد الخميني نهائياً من إيران
    ) .I Gave Him One-Way Ticket(
    ذهب الخميني في نهاية المطاف إلى النجف في العراق و استقر هناك ثم بدأ بتأجيج مشاعر الإيرانيين ضد حكم الشاه ، و نضج العملاء و الشارع في نهاية السبعينات . كان صدام يريد بقاءه في النجف ، لكن الشاه –المتفق مع صدام على شط العرب في الجزائر حديثاً في حينه – طلب إبعاده من العراق ، و وافقت فرنسا على استقباله و تكفلت أمريكا بتكاليف الشقة التي سيقيم فيها هناك و بمصاريفه.
    مع زيادة تسخين الأوضاع في إيران ، حصل أمر مفاجئ عام 1979 : حضر قائد القوات الأمريكية في أوروبا الجنرال “روبرت هايزر ” إلى مطار طهران من دون استئذان و توجه إلى قصر الشاه أيضاً من دون استئذان و طلب من الشاه مغادرة إيران فوراً – كما قال الشاه بنفسه – فغادر و هو يبكي في المطار . لم يجد مكاناً يؤويه وفي النهاية مات مقهوراً مريضاً في مصر في يوليو 1980.
    كان الخميني الهندي أنسب من الشاه لأمريكا في (مشروع الشرق الأوسط الجديد) الذي كانت أمريكا تصنعه من خلال (الفوضى الخلاقة) بحيث تتحكم فيه الأقليات مع تقليل عدد المسلمين فيه “بالقتل ، بالارتداد عن الدين ، بالتهجير” و جلب مستوطنين غرباء إليه تابعين للفرس .
    كان المطلوب من الخميني “الذي تربَى على يد الأمريكان ما يزيد عن 15 عاماً” :
    1) نقل التشيع من مذهب إسلامي إلى دين جديد مختلف عن الإسلام فقام باختراع مفهوم “الولي الفقيه المعصوم النائب عن الإمام الذي في السرداب أو الإمام الغائب ” و اعتبار أنه يوجد في أئمتهم “من لا يدانيه نبي مرسل أو ملك مقرَب أي (كجبريل عليه السلام)” و أن ما يقوله هذا الولي شرع و بالتالي لا حاجة لأخذ شرع من الكتاب و السنة إذا قال الولي بشيء في موضوع معيَن .
    2) يجب أن يكون الدين الجديد فارسياً من حيث المرجعية ، و بالتالي ينبغي تشجيع النزعة القومية العنصرية الفارسية عند الجمهور مع العمل على إحياء الإمبراطورية الفارسية باستغلال “التشيع “.
    3) تصدير الثورة ” أي تصدير الخراب و التخريب لبلدان العرب خاصة و لغيرها” و كان المبلغ المرصود لهذا التصدير 16 مليار دولار سنوياً منذ عام 1979 و حتى هذا العام2022 أي أنفقوا 688 مليار دولار خارج إيران – مع ما صاحب ذلك من سرقة مليارات -على هذا الدور الوظيفي .
    4) أن تلعب إيران دور البعبع أو الفزاعة أو خيال المآتة لحكام الخليج من أجل استحلاب الأموال منهم بحجة حمايتهم .
    5) إعداد حرس ثوري موازي للجيش و منافس له و مليشيات مرتزقة – مثل فاطميون ، زينبيون …الخ -عابرة للحدود و بالتالي صارت إيران ، كما قال شيخ عالم من مصر، ” أكبر تاجر حمير في العالم”.
    حين مات الخميني ، كان رجل إيران القوي هو “هاشمي رفسنجاني” و هو الذي أوصل “خامنئي” إلى لقب آية الله – مع عدم استحقاقه لكونه لم يكن مجتهداً مطلقاً شرط اللقب – و إلى منصب المرشد . علماً بأن خامنئي هذا هو أذري و ليس فارسياً تماماً بالضبط مثل الخميني الذي كان هندياً و ليس فارسياً . أدرك رفسنجاني متأخراً عبثية تبديد إيران الأموال على “تصدير الثورة” و دعا إلى إقامة الدولة النموذج فجرى قتله على هذه الدعوة ، كما أفادت ابنته فائزة المعتقلة خلال التظاهرات الحالية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى