مختارات

حصوننا مهدّدة من داخلها (6).. هل يستبدل الغرب مرجعية الشريعة الإسلامية بمنظومة الفكر الغربي؟

د. عثمان محمد بخاش

باحث في الفكر الإسلامي والقضايا المعاصرة
عرض مقالات الكاتب

تعلم قادة الغرب الدروس الجذرية من حملات الحروب الصليبية التي انتهت بالفشل الذريع بعد قرنين من الكر والفر و الحملات المتتالية التي أرادوا منها القضاء على كيان الأمة الإسلامية باستعبادها وإلحاقها بالحضارة الأوروبية، وإطفاء شعلة الإسلام إلى الأبد، والملاحظ أن الحروب الصليبية قد شهدت جولات و صولات من الحروب الدامية بين الأمة الإسلامية وجيوش الفرنجة، وكانت الأيام دولا بين الطرفين: فتارة يخسر المسلمون معركة وتارة ينتصرون، حتى تم النصر الكلي التام و عاد آخر جندي فرنجي (صليبي لأن الفرنجة اتخذوا من الصليب وسما وشعارا لهم) يجر أذيال الخيبة، وما يهمنا هنا هو أن المسلمين، رغم خسارتهم لعدد من المعارك في الحروب إلا إنهم لم يشعروا يوما قط بالهزيمة الروحية أو العقدية تجاه خصومهم الفرنجة، بل تمسك المسلمون بتفوق عقيدتهم الحقة و بأن النصر حليفهم ولو بعد حين، بينما دهش الفرنجة من تقدم الصناعات والفنون عند خصومهم المسلمين. وكان من أهم ما خلص إليه قادة الغرب أنه لا سبيل إلى تحقيق مأربهم بالتخلص من التحدي الإسلامي طالما بقي المسلمون متمسكين بعقيدتهم معتزين بدينهم، وهذا ما أدى بهم إلى تكثيف الغزو الفكري الهادف إلى تمييع مفاهيم الإسلام و تشويهها وصولا إلى القضاء على أي تأثير عملي للإسلام في حركة المجتمع والدولة أولا ثم في حياة الفرد المسلم، ولو بعد حين.

ثم دارت الأيام واشتدت أوروبا في طلب الصناعات والعلوم ما مكّنها من تملك أسباب القوة العسكرية، بينما تجمد كيان الدولة العثمانية و تحجرت عقول المسلمين على ما ورثوه عن أسلافهم السابقين من عز و سؤدد، فلما قام نابليون بحملته الصليبية المتجددة في احتلاله مصر تقصد أن يقرن التفوق العسكري بالتفوق العلمي الفكري فأحضر معه البعثة العلمية، إلا أن بريطانيا أزعجها أن تنفرد فرنسا في احتلال مصر فقامت بدعم الدولة العثمانية في طرد الفرنسيين من مصر. و لكن فرنسا عمدت إلى تكثيف حملاتها في الغزو الفكري عوضا عن الغزو العسكري في مصر، فقامت باستمالة محمد علي لجانبها و أنشأت له جيشا قويا مكنه من مزاحمة الدولة العثمانية حتى كاد أن يهزمها هزيمة نهائية لولا أن بريطانيا حالت دون ذلك.

ما يهمنا هنا هو ما قام به محمد علي لجهة السير في تغريب المجتمع المصري عبر ابتعاث عدد من الشباب إلى فرنسا لينهلوا من علومها وحضارتها،كما سبق أن ذكرنا في المقالة السابقة عن دور رفاعة الطهطاوي في غرس بذرة العلمانية و الترويج لمفهوم الوطنية. وقد عبّر الشيخ محمد قطب رحمه الله في كتابه (واقعنا المعاصر-196) عن عملية التغريب هذه فقال: “كانت في حياة المسلمين نقطة إرتكاز واحدة هي الإسلام، بصرف النظر مؤقتا عن كل ما أصابهم من تخلف عن حقيقة هذا الدين، فجاء رفاعة الطهطاوي فوضع إلى جانب نقطة الارتكاظ الضخمة القائمة، نقطة ضئيلة غاية الضآلة هي الحضارة الغربية، ودعا المسلمين إلى الانتقال إليها والارتكاز عليها، ورويدا رويدا أخذت تلك  النقطة الضئيلة تكبر وتتضخم وتصبح نقطة ارتكاز ثانية في حياة المسلمين إلى جانب الإسلام، مع التضاؤل التدريجي في نقطة الارتكاز الأولى بمقدار  ما تتضخم النقطة الثانية  حتى يأتي وقت تصبح تلك النقطة الضئيلة هي نقطة الارتكاز الرئيسية، وتصبح نقطة الارتكاز الضخمة السابقة نقطة جانبية ضئيلة تكاد تنمحى من الوجود”.

لم يكن بالأمر الهين أن يتم سلخ المسلمين عن دينهم وعقيدتهم وحضارتهم الممتدة ثلاثة عشرة قرنا في التاريخ المعاش، ولكن قادة الغرب اشتغلوا بروية ولو من باب “رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة”، ومع الزمن تتالت خطوات التغريب التي تزامنت مع استمرار ضعف المسلمين، وتخبط قياداتهم في كيفية الخروج من الجمود الحضاري والتخلف المدني الذي شابهم، يواكب ذلك تعاظم القوة المادية للغرب الذي تزوّد بآلة حربية فتاكة مكّنته من نشر سيطرته على ربوع شاسعة في الأرض، بما في ذلك كثير من  ديار المسلمين.

وبعد أن آتت الجهود الغربية ثمارها وتمكّنت بريطانيا من هدم دولة الخلافة العثمانية على يد كمال أتاتورك في أذار 1924 وشرعت مع فرنسا في فرض منظومة سايكس بيكو، كان لا بد للقوى الغربية من العمل بكثافة لمحو التواجد الإسلامي في شؤون المجتمع والدولة من الفكر والثقافة الى التعليم والاقتصاد، وفي قلب هذا كله في التشريع الذي ينظم حياة المجتمع وحركة الأفراد في المعاملات. وكان الأمر أشبه بفريق أوركسترا يقوده مايسترو ماهر يوزع الأدوار المتعددة على طيف واسع من رجال الدين و رجال القانون و رجال السياسة والثقافة والفكر، كل منهم يقوم بدوره المرسوم للوصول إلى تحقيق الهدف النهائي، كنا ذكرنا بعض الشواهد من ذلك في الجزء الأول من هذه السلسلة بعنوان:” دور عملاء الاستعمار الغربي في هدم حصوننا”.

فما بدأه الطهطاوي جاء من بعده من يكمل المسيرة فأفتى محمد عبده بإباحة الربا، ما جعل اللورد كريمر يرثيه بمرارة بعد وفاته فقد كان خير خادم لمخططات الإنجليز، وقد ذكر كريمر في تقريره السنوي عن عام 1905 عن عبده بمناسبة وفاته:” وكان لمعرفته العميقة بالشريعة الإسلامية ولآرائه المتحررة المستنيرة أثرها في جعل مشورته والتعاون معه عظيم الجدوى…والأيام وحدها هي التي  ستكشف عما إذا كانت الآراء التي تعتنقها المدرسة التي تزعمها الشيخ محمد عبده  سوف تستطيع التسرب إلى المجتمه الإسلامي. وأنا شديد الرجاء في أن تنجح في اكتساب الأنصار تدريجيا، فلا ريب أن مستقبل افصلاح الإسلامي، في صورته الصحيحة المبشرة بالآمال، يكمن في ذلك الطريق الذي رسمه الشيخ محمد عبده، وإن أتباعه ليستحقون أن يُعاوَنوا بكل ما هو مستطاع من عطف الأوروبي وتشجيعه”.

 وأفتى محمد رشيد رضا بأن قيام المسلمين في الهند بتطبيق القانون الإنجليزي هو من باب الرخصة، بل العزيمة  ودعا لإقامة خلافة عربية، و حمل قاسم أمين الدعوة لحرية المرأة.. وقام من بين الترك من يدعو إلى القومية الطورانية ومن بين العرب من يدعو إلى القومية العربية، بل ومنهم من دعا إلى إحياء الهوية الفرعونية في مصر و منهم من دعا إلى إحلال اللغة العربية العامية بدل الفصحى..وجاء طه حسين ليطعن في القرآن الكريم، بينما تولّى علي عبدالرازق محاولة هدم النظام السياسي في الإسلام و جعل الإسلام دينا كهنوتيا شأنه شأن النصرانية.

اقتضى هدم الدولة العثمانية وإلغاء دولة الخلافة والسعي الغربي الحثيث في إزاحة الإسلام من فضاء المجتمع والدولة العمل على بناء منظومة بديلة من الأفكار والمفاهيم و التصورات مستوحاة من الحضارة الغربية ومن الفكر الغربي، بحيث يتم “ترويض” المسلمين، ولو تدريجيا على نسيان “نقطة الارتكاز الإسلامية” و اعتماد نقطة الارتكاز المفروضة من المستعمر الغربي، بكل عجرها وبجرها.

وفي الشأن التشريعي القانوني سخّرت بريطانيا وفرنسا كل طاقاتها لتخريج حشد من أبناء المسلمين الذين صُنعوا على أعين المستشرقين ودرسوا في جامعات الغرب (خاصة فرنسا وبريطانيا ) لتقديم المنظومة القانونية الغربية، مع اسنادها بالفتاوى الشرعية اللازمة الكفيلة بإسكات أية أصوات معارضة. فقد كانت البلاد العربية جميعها- فيما عدا مراكش وأجزاء من اليمن- مندمجة في الخلافة العثمانية حتى القرن التاسع عشر، وكان الفقه الاسلامي غير المقنن هو المعمول به فيها جميعا. فاستقلت مصر استقلالا ذاتيا تحت حكم محمد علي، ولما قننت الدولة العثمانية الفقه الإسلامي في “مجلة الأحكام العدلية” لم يمتد هذا التقنين إلى مصر وبقيت هذه على ما كانت عليه من تطبيق الفقه الإسلامي غير المقنن، مع بعض التشريعات الفرنسية وبخاصة في القانون التجاري، ثم انشئت المحاكم المختلطة فالمحاكم الوطنية على غرار المحاكم الفرنسية في عهد الخديوي توفيق،و وضعت تقنينات حديثة تطبقها هذه المحاكم في سنتي1875م/1292هـ و1883م /1300هـ أُخذت كلها من التقنينات الفرنسية، وعلى رأس هذه التقنينات القانون المدني ومن ثمّ أصبحت مصر ذات قانون مدني مقتبس من القانون الفرنسي. ومن المعروف أن القوانين هي التي تحكم سير المجتمعات وتضبط بت الخلافات، ومن ذلك مثلا أن قانون الجمعيات العثماني (1909) لا زال معمولا به في لبنان حتى الساعة.

وكان من الطبيعي أن تعمد فرنسا وبريطانيا إلى “صناعة” شخصيات بارزة، أو تعمل على إبرازهم، من بين المسلمين ليقوموا بالمحافظة على ما تريد فرضه من أوضاع جديدة تُقصي الإسلام عن الحياة؛ ففي الشأن القانوني نجد أن من أبرز رجالات القانون هو عبدالرزاق السنهوري ،الذي يُعد “أبو الدساتير” العربية الحديثة، فقد قام بدورٍ محوري في إخراج القالب الدستوري القانوني للقانون المدني في مصر أولا، ثم استنساخه و ترويجه في سوريا والعراق والاردن والسودان والكويت وليبيا.

ولنا مع  الدكتور السنهوري وقفة مفصلة في المقالة التالية بعون الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى