دين ودنيا

الإمام الشاطبي والموافقات.. فصل على أصل

د. محمود خليل

أكاديمي ومفكر مصري
عرض مقالات الكاتب

قد يعجب العقل المسلم من غياب كتاب عمدة، بل هو ” عمدة الكتب” في الشأن الأصولي والمقاصدي كله، وهو كتاب “الموافقات” لأبي إسحاق الشاطبي (إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي المتوفي ٧٩٠هـ/ ١٣٨٨م ليظل خارج نطاق البحث الأصولي، والدرس التأسيسي لهذا الفن الضابط للفنون جميعاً، إلى ما يزيد عن خمسة قرون متوالية.
الأمر الذي يقطع بوحشة، وغربة المسلمين في هذا الزمان، حتى كانت أولى طبعات هذا الكتاب الفخم في تونس سنة ١٠٣٢هـ، فانتشر واشتهر بين الناس، وبدأت تتجمع من حوله البصائر والأبصار، وتتحدث عنه الديار والأمصار، لتأسيس وتجديد ثلاثة علوم جامعة، على تقوى من الله ورضوان، (عمران البلدان، وتحقيق مصالح بني الإنسان، وإقامة شرع الرحيم الرحمن) تلكم هي علوم (الأصول، والمقاصد، والسياسة الشرعية)، من خلال المقاصد الميمونة للشاطبي الميمون إذ أنه من المعلوم أن علم الأصول لم يدوّن إلا بعد تدوين الفقه بزهاء قرنين من الزمان.
كما أن معظم مسائل الأصول لا ترجع إلى خدمة حكمة الشريعة، وتجلية سننها، وبيان مقاصدها، إنما تدور حول طرائق استنباط الأحكام، من ألفاظ الشارع الحكيم، بواسطة القواعد المرعية في هذا الفن الحاكم المحكم.

فجاء الشاطبي ليقفز بهذا المدخل العلمي قفزة تعليلية واسعة، فيقول: كل مسألة مرسومة في أصول الفقه، لا يبنى عليها فروع فقهية، أو آداب شرعية، أو لا تكون عونا في ذلك، فوضعها في أصول الفقه عارية”!
كأنما يعيد على الدنيا قول الشافعي” كل ما نزل بمسلم، ففيه حكم لازم، أو على سبيل الحق فيه دلالة موجودة”.!

وكأنما جاء الشاطبي لاستكناه المعاني من المباني، والإشارات من العبارات، والحكم والمقاصد من الأحكام والقواعد، ثم مزج بين المقاصد والسياسة الشرعية، على أنها تحقيق لمدار الحق على الخلق، كما أفصح عن ذلك شيخه العز بن عبد السلام في قواعده الصغرى، فقال:” ولا يرجع شيء من جلب المصالح ودرء المفاسد وأسبابهما إلى الديان (تعالى).. لاستغنائه عن الأكوان، وإنما يعود نفعهما وضررهما على الإنسان، فمن أحسن فلنفسه سعى ، ومن أساء فعلى نفسه جنى، وإحسان المرء إلى نفسه، أو إلى غيره: إما بجلب مصلحة دنيوية، أو أخروية أو بهما”).
وقد أحسن الإمام الشاطبي (٠/٧٢٠ ٧٩ ه) أيما إحسان، حين توج كتابه بعدة مقدمات عاصمة، ومداخل حاسمة، مجموعها ثلاثة عشرة مقدمة، وفيها جملة مفاتيح: فهم كتابة، وفقه أبوابه، وولوج أعتابه..
فقال رضي الله عنه: ومن هنا.. فليس للناظر في هذا الكتاب، أن ينظر فيه ،من مفيد أو مستفيد، حتى يكون ريان العلم في الشريعة، أصولها وفروعها، منقولها ومعقولها، غير مخلد إلى التقليد، أو التعصب للمذهب، جريا على قول “أبو المعالي” إمام الحرمين (٤١٩/ ٤٧٨ه‍) حين قدم للغياثي، فقال: ” فاضل هذا الزمان ، من يفهم مداخل هذه الفصول ومخارجها، والمرموق من يحيط بشرف هذا الكلام، وتميزه عن كلام بني الزمان”.
أين هذا ممن جعلوا من المقاصد قنطرة لتجاوز الوحي المنزل والسنن المتواترة؟
يعبرون بها دلالات النصوص، وقطعيات الأحكام، إلى خوائهم وأهوائهم؟ ويهيمون في أودية متشابهاتهم، سعيًا وراء زيغهم الكبير، ويتولون وهم فرحون. والأسى كل الأسى، أنهم يجدون من الدهماء والسوقة، من ينفش اغترارهم، ويروج صغارهم، ويجعل منهم، آلهة من الأحجار والأخشاب، والعجوة والحلوى، وذلك هو الضلال البعيد!
والشاطبي الركن .. مع ذلك القدر المعلى.. تلميذ مفيد مستفيد، يقوم مقاما محمودا بين شيوخه وتلاميذه.

★أما شيوخه، فمن تقدمه من أئمة الهدى حتى شيوخه المباشرين من الطبقة العليا من الأكابر، من أمثال:
١) إمام وقته أبو عبد الله محمد بن أحمد المقري، المعروف بالمقري الكبير،
المتوفي سنة ٧٥٨ ه.
٢) وشيخ الشيوخ في غرناطة فرج بن قاسم، أبو سعيد بن لب التغلبي الشاطبي،
(٧٨٢ه‍/١٣٨١ م)، شيخ المدرسة النصرية
الأعظم ومن سبقهم من أئمته الأصول، ورواد المقاصد من أمثال: إبراهيم النخعي ت: ٩٦ ه‍، والحكيم الترمذي ت: ٣٢٠ه‍، الذي قيل إنه أول من ذكر (المقاصد)
في حديثه عن(الصلاةومقاصدها).. إذ قال: (إن العبد .. بالوقوف يخرج من الإباق، وبالتوجه إلى القبلة، يخرج من التولي والإعراض، وبالتكبير يخرج من الكبر، وبالثناء يخرج من الغفلة، وبالتلاوة يجد تسليما للنفس، وقبولا للعهد، وبالركوع يخرج من الجفاء، وبالسجود يخرج من الذنب، وبالانتصاب للتشهد يخرج من الخسران، وبالسلام يخرج من الخطر العظيم.
وكذلك صنع الإمام القفال الكبير (ت ٣٦٥ه‍) في “محاسن الشريعة التي توسع فيها في التعليل، واجتهد في التدليل، على محاسن الشريعة الغراء قاصدا، “تقريب الشرائع إلى العقول في الأصل، وجواز وقوع السياسية فيها”.

وكان الإمام القفال الكبير يتفيأ من وراء ذلك بيان: أنها – أي: الشريعة – وقعت من حكيم عليم بالعواقب،… مستصلح.
وأبو الحسن العامري النيسابوري المتوفي ٣٨١ هـ صاحب ” الأعلام بمناقب الإسلام”.
ثم استوى هذا العلم على سوقه كاملا للإمام الجويني، (إمام الحرمين) المتوفي سنة ٤٧٨ ه‍ ، في (البرهان) و(الغياثي)، حيث تجلت أصولية الجويني في “البرهان”، وما انتقاه من فصوصه، وحققه من نصوصه العلامة د. عبد العظيم الديب، كما تجلت مقاصدية إمام الحرمين في “غياث الأمم”.. وما تواكب عليه من شراح ومحللين، ثم يأتي الشيخان الجليلان الإمام والمريد.
١) الإمام العز عز الدين بن عبد السلام، سلطان العلماء، وبائع الأمراء، وإمام المصالح والمقاصد (٥٧٧هـ – ١١٨١م/‍٦٦٠ ه‍ – ١٢٦١م) صاحب قواعد الأحكام في إصلاح الأنام، والمعروف بالقواعد الكبرى، وهو أول كتاب في بابه، و”الفوائد في اختصار المقاصد”، والمعروف بالقواعد الصغرى.
٢) المريد.. شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي (٦٢٦ هـ/ ١٢٢٦م) (٦٨٤ هـ / ١٢٨٥) صاحب ” نفائس الأصول وتنقيح الفصول في اختصار المحصول” ، و”أنوارالبروق في أنواء الفروق”، والمعروف اختصارا بالفروق.
وابن تيمية صاحب “محاسن الإسلام” وتلميذه ابن القيم، في معظم ما كتب، وعلّل وفسّر، وأبان وأوضح، خاصة في “إعلام الموقعين عن رب العالمين) و(الطرق الحكمية في السياسة الشرعية)، والذي كان معاصرًا لحياة أبي إسحاق الشاطبي، إلا أنهما لم يتلقيا لكن المحققين من أهل العلم يقطعون أن أبا عبد الله المقري، شيخ الشاطبي، قد التقى ابن القيم، وحكى ذلك عن نفسه، بيد أنه لم يرد ذكر من قريب أو بعيد، لابن تيمية، وابن القيم في ما خط ودرس أبو إسحاق الشاطبي.
ربما لبعد الديار، ما بين شرق وغرب،
واختلاف المذهب ما بين حنبلي ومالكي،
لكن المدرسة واحدة، والمشرب واحد، في ربط الترجيحات في المسائل الخلافية بالنظر إلى المقاصد، بعد التنقيح والتدقيق، والتحقيق والتوثيق، ولعل الحقل البحثى المقاصدي كان مدفوعًا بشدة لمدارسة هذا الطرح المصلحي للشريعة تحليلًا وتعليلًا.
هؤلاء أهم أعلام من تقدم وسبق، أو عاصر ونطق.. في إطار المدرسة الشاطبية المقاصدية الأصولية، ومنهم ابتني واعتني، وزاد وأفاض واغتنى.

★أما عن تلاميذه ومريديه، فحدث ولا حرج، حيث قيض الله لهذا السفر النفيس وصاحبه، من الفحول والعدول، ممن يضيق المقام بذكرهم، إلا أن أهم رجلين يلوحان على الأفق من طلابه وتلاميذه، هما القاضيان العادلان: أبو يحي بن عاصم الغرناطي، العلامة الشهيد في ساحة المعركة، (والمتوفي ٨٦٠ه‍ وحفيد ابن جزي) صاحب الشاطبي، ووارث تركته وطريقته، وكان قد نظم الموافقات تحت مسمي “نيل المنى”.
وأخوه القاضي الفقيه، أبو بكر بن عاصم ٨٢٩ ه‍ صاحب المنظومة الشهيرة (تحفة الحكام، في نكت العقود والأحكام) في ١٦٥٨ بيتاً.

كما أن هناك نظما ٱخر، لواحد من بلدة “وادي ٱش”..منه يقول:
جعلت في كتب العلوم أنسي
وعن سوي العلم صرفت نفسي
والمورد المستعذب الفرات
ومن أجلها الموافقات
لشيخنا العلامة المراقب
ذاك أبو اسحاق الشاطبي
فهو كتاب حسن المقاصد
مابعده من غاية لقاصد

وقد أحسن الشاطبي استدراكاً حين قدم لكتابه بهذا الشكل الحاسم العاصم، صيانة للدرس والبحث، وتقعيدا لأصول المدارسة والممارسة، حتى لا ينقلب العلم فتنة، على صاحبه، فإن من ولج الباب في غير مفتاحه، فقد ابتغى النور في غير مصباحه.
والكتاب يقع في أربعة مجلدات ضخمة، وينقسم إلى خمسة أقسام:
الأول: عبارة عن مجموعة من المقدمات، التي تمثل مدخلًا مفتاحيًا إلى هذا الكتاب
الحافل بأسرار التكليف، وأصول الفقه، وبناء الأحكام.
الثاني: في بيان الأحكام، وما يتعلق بها من حيث الوضع، أو التكليف ، وكيفية التصور والحكم.
الثالث: خاص بالمقاصد الشرعية وما يتعلق بها من أحكام.
الرابع: يتعلق بالأدلة الشرعية من حيث الحصر والدلالة، بين التفصيل والإجمال.
الخامس: خاص بمسائل التقليد والاجتهاد، وما يتعلق بها من تعارض أو ترجيح.
وللكتاب عدة طبعات، لعل أفضلها طبعة العلامة الدكتور الشيخ محمد عبد الله دراز، في أربعة مجلدات، وتقع في ٨٠٨ صفحة من القطع الكبير، تليها طبعة الشيخ مشهور آل سلمان في ستة مجلدات، وتقع في ١١٨٤ صفحة.
كما أن هناك طبعة الشيخ محمد حسنين مخلوف، والعلامة محيي الدين عبد الحميد، والشيخ محمد الخضر حسين، وغيرهم الكثير، ومنها ما يقع في سبعة مجلدات للحسين ٱيت سعيد في ٥٣٠٨ صفحة من منشورات البشير، بفاس بالمغرب.

وكان الشاطبي رحمه الله، قد وضع الكتاب تحت اسم “التعريف بأسرار التكليف” إلا أنه عدل عن هذا الاسم، بسبب رؤيا لأحد مشايخه، حيث قال للشاطبي: رأيتك البارحة في النوم، وفي يدك كتابة ألفته، وسألتك عنه فأخبرتني أنه “الموافقات”!!!

فأخبرتني أنك وفقت بين مذهب ابن القاسم وأبي حنيفة.
وقال الشاطبي: لقد أصبتم الغرض بسهم من الرؤيا الصالحة مصيب، فإني شرعت في تأليف هذه المعاني، عازما على تأسيس تلك المباني.
وقد بنى الشاطبي عمرانه، وشيد أركانه، على لبنات صالحات مما دندن حوله العز بن عبد السلام، وابن تيمية، وابن القيم، والقرافي، والماوردي، والجويني، والغزالي.

إلا أن ميلاد هذا العلم حقيقة واقعة، وأدلة جامعة، وتأصيله وتفصيله، وأحكامه وتجلية أسرار الشريعة السمحاء، ومقامات التكليف الفسحاء المتعلقة به
قد جاء على يد الشاطبي، كما جاء النحو على يد (سيبويه) والعروض على يد (الخليل بن احمد) حتى عده البعض في المقاصد، كالشافعي في الأصول.
ولقد تعدد التقريظات، وتواترت الإطراءات، في سجايا ومزايا (الموافقات)، لعل أبلغها
أثرا، تلك المحاضرة العلمية الرصينة لابن عاشور، و(المقرأة المعرفية) التي نظمها مركز الدراسات المعرفية، بالتعاون مع مركز (الشاطبي) للاستشارات الدراسية، بمدارسة العلامة الشيخ الأستاذ الدكتور محمود عبد الرحمن حجر، أستاذ ورئيس قسم أصول الفقه بكلية الشريعة بجامعة الأزهر الشريف، والتي أسفرت عن أهم النتائج العلمية المفتاحية للشاطبي، واعتصامه وموافقاته، على النحو التالي:

١) الكتاب يؤسس لنهضة اجتهادية، توائم وتلائم بين وقائع العصر، وأصول الشرع،
ويجلي القدرة الاستيعابية للشريعة الإسلامية أصولا وفروعا.
٢) يبسط الكتاب روح الشريعة الرحبة، فالمقاصد أرواح المعاني، وذلك بالنظر إلى المصالح الكلية والجزئية، بالتوظيف الأشمل لعلم الأصول، وتوجيهه في خدمة علم المقاصد.
٣) يوضح الشاطبي بجلاء، أن الأدلة العقلية (التعليلية) تأتي في هذا العلم مركبة على الأدلة السمعية اليقينية (الشرعية) معينة لها، أو محققة لمناطها، وما أشبه ذلك، لا مستقلة عنها بالدلالة أو البرهان، لأن النظر فيها إنما هو نظر في أمر شرعي، والعقل ليس بشارع، فالمعتمد الأول هو الأدلة الشرعية.
٤) يرى ابن عاشور أن الشاطبي في أبواب كتابه الخمسة، كان يراوح بين التقليد والتقييد في بعضها، وبين النقل والعقل في البعض الآخر، وربما انتقل إلى النطاق الضيق في أصول الفقه، لكنه يتجلى في الباب الثالث بعمله البنائي الذي يسمو إلى المقام الأعلى، الذي هو مقام الاتفاق على المبادئ القطعية، وقد وفق في ذلك توفيقا سديدا، حتى ليعتبر الشاطبي واضع علم جديد، هو “علم المقاصد” كعلم مستقل، فسد الفراغ الذي يبدو في الأفق الأسمى من المعارف الفقهية.
٥) خرج الإمام الشاطبي باعتصامه وموافقاته، بعلم أصول الفقه، من إطار التقليد إلي فضاء التجديد، وفض الخصومة القائمة بين الأصوليين والمقاصدين، وإنهاء النزاع القائم بين الشرع والعقل، بشرعنته العقل، وعقلنته الشرع ما استطاع إلى ذلك سبيلا،
وإن احتدم الأمر، فعل الشرع المدار والمسار.
٦) تدرج الشاطبي من القواعد الكلية والجزئية إلى عوالي القواعد العامة، التي أراد أن يجعلها قواعد قطعية، محاولا أن يرتقي بعلم أصول الفقه، عن كونه علما ظنيا، إذ كان يرى أن معنى الأصول معنى أصلياً يتنافى مع الظنية، وبلغ في ذلك الشأن الأعلى، حتى انتهى إلى الكليات المتفق عليها بين جميع الشرائع.
٧) الملازمة والاقتداء والتعهد، من شروط التحقيق، وأمارات العالم، وعلامات الأخذ الصحيح، والحرص على أن يتحصل ذلك يقينا، سواء بالمشافهة أو المطالعة
والمراجعة، فذلك أعون وأهون، للسبر والغور، والفهم والحكم، والقصد والاعتبار.
وبعد..
فقد تجلت قدرات الشاطبي التعليلية في مناظراته مع معاصريه ومجايليه، من أمثال: القشتالي، والقباب ، وابن عباد..
وكانت المقاصد قبله، لا تتجاوز أن تكون مبحثا من مباحث علم أصول الفقه، ثم توسعت حتى صارت على يديه علما منظما وفنا محكما، لتحقيق غايات الشرع الحكيم، فقد كان الإمام الشافعي يرى أن “الفقه بلا مقاصد، إنما هو فقه بلا روح” فإن جوهر الفكر المقاصدي، إنما يقوم على المصلحة، التي من أجلها نزلت الشريعة صدقا، وأكملت لبناتها عدلا، لتحصيل مصالح البلاد والعباد، في الٱجل العاجل.
ومن ثم، فقد شكل التعليل والتحليل، مفتاحا أساسًا في الفكرالمقاصدي الذي وعاه الصحابة من قبل، حين (“عرفوا مقاصد الشريعة فحصلوها، وأسسوا قواعدها وأصلوها، وتجلت أفكارهم في آياتها وأعملوا الجد في مبادئها وغاياتها”).
ومن قبل كان الشاطبي معروفا بنحوه وصرفه، حيث شرح رجز بن مالك في النحو في ألفيته الشهيرة، كما شرح الخلاصة في النحو في أربعة مجلدات وسرى ذكره بين الناس بالنحو والصرف، واللغة والبيان.

حتى قدم “الاعتصام”، وثنى “بالموافقات” مشفوعا “بالإفادات والإنشادات” .

وعلى أصداء انتصارات الدولة النصرية، وعلو شأن غرناطة، كمأوى للقادمين من انكسارات البلدات المترامية من قبل، وجلجلةالانتصارات الجديدة من بعد، واستعادة الكثير من الثغور من أيدي الإسبان غدا أبو إسحاق الشاطبي، أنشودة السلفيين بالاعتصام، وأنشودة الإصلاحيين بالموافقات.
فالاعتصام، جوهره محاربة البدعة والتزام السنة. والموافقات جوهره التعليل والتحليل.
ورغم رسوخ الرجل من العلم المكين وعلو كعبه في الاجتهاد الأمين، وما اكتسى به من التقوى والورع، وماألبسه من الخلق والعفة، إلا أنه لم يسلم من ألسنة غلاة المتصوفة، وعتاة المتسلفة.
من الذين وجدوامٱربهم ومشاربهم
مسدودة الطريق بين يديه فقد نسبوا إليه بغض الصحابة. على الرغم من أنه ما قال بذلك قط، ولا دعى إليه من قريب أو بعيد، بل إنه محض إدعاء كاذب من غلاة الصوفية عليه.
ونسبوا إليه أنه يجيز الخروج على الأئمة والسلاطين، وما ذلك إلا لأنه لم يكن يدعو على منبره الجامع لهؤلاء السلاطين، شأن من سبقه من الخطباء، لأنه كان يرى أن الدعاء للأئمة والسلاطين.
على وجه الإلزام والجبر، إنما هو بدعة فكان يدعها، ويدعوا للمسلمين عامة، بل ويسهب في دعائه لهم.
ونسبوا إليه تحيزه لمالكيته، وهو الذي ذم التعصب للمذهب بكل سبيل، وعد ذلك
مفتاحا مفاهيميا لموافقاته، وشرطًا للدخول إلى محكماته ومتشابهاته.
رضي الله عن أبي إسحاق، الذي أبحر في موافقاته، فنهل من مدرسة ابن عبد البر، وأقام موافقاته على أصوله، كما تتجلى الفصوص عن النصوص، وطيب الثمار عن كريم الأشجار، وكما يفوح الأريج عن الزهر البهيج.
سلام علي الشاطبي وشيوخه وطلابه والسارين إلى مصالح الدنيا والدين علي أعتابه وسلام علي الصادقين.

★أهم المراجع
١/ البرهان في أصول الفقه: إمام الحرمين الجويني، تحقيق عبد العظيم محمود الديب، دار الوفاء، القاهرة، ١٩٩٢م.
٢/ تخريج الفروع على الأصول:الإسنوي، تحقيق محمد أديب صالح، مؤسسة
الرسالة، ط ٤، ١٩٨٢م.
٣/ المحصول في علم الأصول: الرازي ، تحقيق طه جابر فياض العلواني، ط١، بدون تاريخ.
٤/ المصطلح الأصولي عند الشاطبي: فريد الأنصاري، معهد الدراسات المصطلحية،
والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، المغرب، ط١، ٢٠٠٤م.
٥/ مقاصد الشريعة الإسلامية: محمد الطاهر بن عاشور، الشركة التونسية للتوزيع، تونس، ١٩٨٧م.
٦/ نظرات في الفقه والتاريخ: عبد السلام ياسين، دار البشير، بدون تاريخ.
٧/ الأشباه والنظائر: ابن نعيم, دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ١٩٨٠م.
٨/ شجرة الأصوليين : محمد بن حسين الجيزاني، دار التحبير، السعودية،
١٤٤٠ هـ/٢٠١٩م.
٩/ الفوائد في اختصار المقاصد: العز بن عبد السلام، ط١، تحقيق جلال الدين عبد
الرحمن، مطبعة السعادة، القاهرة، ١٩٨٨م.
١٠/ الموافقات في أصول الفقه:إبراهيم بن موسى الشاطبي، المطبعة التجارية
الكبرى، القاهرة، بدون تاريخ.
١١/ وقائع الأعيان والأحوال،وأثرها في تعميم الأحكام واختصاصها: د محمود عبد الرحمن ،مفكرون الدولية للنشر والتوزيع، القاهرة،٢٠٢١م.
١٢/ البيان بالترك عند الأصوليين: د محمود عبد الرحمن ،مفكرون الدولية للنشر والتوزيع ،القاهرة،٢٠٢٠م.
١٣/ الأساس في أصول الفقه: د محمود عبد الرحمن، دار اليسر،القاهرة،٢٠١٨م.
١٤/ التجديد والمجددون في أصول الفقه: أبو الفضل عبد السلام بن محمد عبد الكريم ،المكتبة الإسلامية ،القاهرة، ٢٠٠٧م٠

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى