بحوث ودراسات

مَن وراء صعود و “سقوط الرَّبيع العربي”؟ 4 من 9

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

استخدام القوَّة النَّاعمة في إسقاط الأنظمة العربيَّة

كما سبق التَّنويه، اعتمدت إدارة باراك أوباما سياسة جديدة في التَّعامل مع العالم الإسلامي، وهي استبدال قوَّة البطش والتَّهديد بقوَّة الجذب والتَّرغيب، ودعْم كافَّة الحركات المدنيَّة الاحتجاجيَّة، طالما كانت علمانيَّة وتعتنق أفكارًا تحرُّريَّة؛ بمعنى أوضح، طالما لم تكن إسلاميَّة. عهدت إدارة أوباما إلى عدد من المراكز البحثيَّة بمهمَّة تغيير الوعي العام للعالم الإسلامي؛ ويختصُّ برينان بالذِّكر معهد ألبرت أينشتاين، ومقرُّه ولاية ماساتشوستس، الَّذي يعتبر رائدًا في مجال استغلال القوَّة المدنيَّة في إحداث التَّغييرات الَّتي تريدها أمريكا. وصلت الإدارة الأمريكيَّة إلى قناعة بأنَّ إحداث الاضطرابات الدَّاخليَّة لزعزعة استقرار الأنظمة الحاكمة أفضل وأقل كلفة من توجيه الجيوش إلى الدُّول المراد تغيير أنظمتها.

من الممكن إثارة المعارَضة المدنيَّة من خلال تنظيم الإضرابات والمقاطعات والعصيان المدني، وغير ذلك من أشكال المقاومة السّلميَّة. ويذكّر برينان بأنَّ جين شارب، مؤسّس معهد ألبرت أينشتاين، هو مبتكر تلك الأساليب في إسقاط الأنظمة سلميًّا؛ ويُعتبر كتابه From Dictatorship to Democracy (1994م)، أو من الدّيكتاتوريَّة إلى الدِّيموقراطية، من أشهر ما كُتب عن كيفيَّة إسقاط الأنظمة الدّيكتاتوريَّة دون تدخُّل خارجي مباشر. وقبل نشْر هذا المؤلَّف بأكثر من 20 عامًا، كان شارب قد قدَّم كتاب The Politics of Nonviolent Action (1973م)، أو سياسات العمل السّلمي، الَّذي يضمُّ 198 استراتيجيَّة للعمل السّلمي، وكان ملهمًا وموجّهًا لأعضاء الحركات التَّحرُّريَّة، من صنائع أجهزة الاستخبارات الغربيَّة. وكان شارب قد حصل على مصطلح “الدّفاع المدني” (civilian-based defense)، والَّذي يقصد به استغلال طاقات المدنيين في الدُّول المستهدفة في تنفيذ أهداف أمريكا، من الجنرال روبرت هيلفي، الَّذي كان نائبًا لجهاز استخبارات الجيش الأمريكي في أوروبَّا، والَّذي انضمَّ إلى المجلس الاستشاري لمعهد ألبرت أينشتاين.

يصنِّف كريستوفر ل. برينان (2015م) الحركات الَّتي أطاحت برؤوس أنظمة بعض الدُّول العربيَّة على أنَّها “انقلابات ما بعد الحداثة” (post-modern coup) أو “ثورات ملوَّنة”، اعتمدت على الاحتجاجات السّلميَّة والاعتصام في الميادين، بهدف إسقاط الأنظمة، معتبرًا أنَّها كانت أشبه ما يكون بالثَّورات الَّتي اندلعت في دول الاتّحاد السُّوفييتي بعد انهياره. أمَّا عن سبب تسمية تلك الثَّورات ثورات ملوَّنة أنَّ منظّميها كانوا يستخدمون ألوانًا معيَّنة في تحديد أتباعهم وحشدهم. ويؤكّد جوناثان موات في دراسته ” Coup d’état in Disguise: Washington’s New World Order Democratization Template” (2005م)، أو انقلاب متنكِّر: نموذج واشنطن لدمقرطة النِّظام العالمي الجديد، أنَّ الثَّورات الملوَّنة كانت بدعم أمريكي لإعادة تشكيل النِّظام الحاكم في دول الاتّحاد السُّوفييتي، تحت غطاء تعزيز الدِّيموقراطيَّة.

أمَّا عن أهمّ جهة أمريكيَّة توَّلت الثَّورات الملوَّنة والانتفاضات العربيَّة بالرّعاية والتَّمويل، فهي الوقف الوطني للدّيموقراطيَّة (NED)، وهو عبارة عن منظَّمة غير حكوميَّة، أي لا تنفّذ سياسة رسميَّة للدَّولة، تُعنى بنشْر الدِّيموقراطيَّة وبدعم المؤسَّسات التَّحرُّريَّة في العالم. وكما يشير برينان، تتلقَّى هذه المنظَّمة سنويًّا حصَّة من ميزانيَّة وكالة الاستخبارات الأمريكيَّة، ممَّا يعني أنَّ نشاطاتها مسيَّسة وتدخل في إطار مخطَّطات الدَّولة. وبخلاف ما ينشره موقع منظَّمة الوقف الوطني للدّيموقراطيَّة عن تعزيزها الدِّيموقراطية، فالحقيقة تؤكّد أنَّها تعمل على إحداث الاضطرابات الدَّاخليَّة، من خلال تمويل حركات التَّمرُّد، والاتّحادات العمَّاليَّة، ومنظَّمات المجتمع المدني، وناشري الكتب، والصُّحف المعارِضة.

أُسّست منظَّمة الوقف الوطني للدّيموقراطيَّة في فترة إدارة الرَّئيس رونالد ريغان (يناير 1981-يناير 1989م)، لخدمة أعمال وكالة المخابرات المركزيَّة ومنْح عملائها قدرًا أعلى من حريَّة العمل، من خلال توفير غطاء لتنقُّلاتهم داخل الدُّول، دون رقابة أو ملاحقة. وكانت وكالة المخابرات قد تعرَّضت لمشكلات أثناء مباشّرة أعمالها خلال عقدي السّتّينات والسَّبعينات، واتُّهمت صراحةً بتدبير اغتيالات سياسيَّة وإحداث اضطرابات في دول أخرى. واعتُبرت المنظَّمة من أشكال “خصخصة جهاز الاستخبارات” لتغيير الأنظمة المعادية والمعاندة للهيمنة الأمريكيَّة، دون تدخُّل مباشر من الإدارة الحاكمة. حرصًا على كشْف حقيقة الوقف الوطني للدّيموقراطيَّة، يشير وليام بلوم في كتابه Rogue State: A Guide to the World’s Only Superpower (2002م)، أو الدَّولة المارقة: دليل القوَّة العظمى الوحيدة في العالم، إلى أنَّ تلك المنظَّمة تتصرَّف عكس ما تدَّعي، ولا هدف من تأسيسها سوى إعفاء وكالة المخابرات المركزيَّة من الحرج عند انكشاف عمليَّاتها.

وقد نالت تلك المنظَّمة ومثيلاتها في أمريكا دعمًا كبيرًا خلال فترة إدارة أوباما، الَّتي حرصت على تحاشي الانتقادات الدُّوليَّة عند تدخُّلها المباشر في شؤون الدُّول الأخرى، وبخاصَّة بعد تجربة إدارة بوش الابن في العراق. تلقَّى أوباما دعمًا من جوزيف صموئيل ناي الابن، المفكّر السّياسي الأمريكي البارز الَّذي صاغ مصطلحي القوَّة النَّاعمة والقوَّة الذَّكيَّة. يوضح برينان (2015م) أنَّ المملكة المتَّحدة وفرنسا تتعاونان مع أمريكا في استخدام قوَّة الضَّغط الإعلامي ووسائل الإقناع الحديثة في إحداث التَّغيير، مضيفًا أنَّ “قطر وتركيا شريكين إقليميين طموحين” في هذا المجال (صــ48).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى