مقالات

استعراض الوهم

مصعب الأحمد

كاتب وباحث وشاعر سوري
عرض مقالات الكاتب

الحقيقة المرة خير من الوهم المريح:
الوهم المريح كالخمر يعطيك لحظة انتشاء عالية فتصير حيث لا زمان، ولا مكان، ولا أشخاص، ولكنك في الواقع مكانك، وقد تكون تحت السلم أو وسط قمامة.
تفزع منه إلى الواقع بعد زوال النشوة فتزداد خيبة على خيبتك، لتسعى بعدها إلى حالة انتشاء أخرى وهكذا دواليك. وتمر الحياة وأنت تحقق أعظم الانتصارات والإنجازات ولكن في عالم من الخيال فقط.
هذا الاستعراض يمارسه الأفراد، وتمارسه الجماعات، والمؤسسات، والدول، ويحقق لها نتائج مريحة. وهو قبل هؤلاء منهج شيطاني، يهدف إلى تزييف الوعى، بأن نتصور الوهم والباطل مسلًمات ويقينيات ” لاقعدن لهم” . هو منهج السامري في صناعة العجل، هياكل فارغة، وعقائد خاوية ومذاهب وطوائف، ليست سوى زينة للقوم (كل حزب بما لديهم فرحون).
خليل موظف في إحدى الشركات، يأتي كل يوم في الثامنة صباحاً ويذهب كذلك مساء، يقوم بكتابة صفحات، ويتواصل مع كثيرين، ويقيم جداول، ويعدل، ويناقش، ويحلل، ويعارض، وينسج القصص، ليوهم المدير ويغريه، أنه يعمل، وأنه نشيط، ويوهم نفسه بذلك، وهو في الحقيقة لايفعل شيئاً، ولا ينجز عملاً سوى “صناعة الوهم” .
ألّف أحد الشباب كتاباَ ونمقه وزينه، وطبعه وفق أعظم وأجمل معايير الطباعة الحديثة، وأقام احتفالية بتوقيع النسخة الأولى من الكتاب، وصار يحدث الناس في كل ناد، وكأنه حائز على جائزة أفضل عشرة كتب في التاريخ، ولو رأيته وهو مزهو فرح، لانتشيت لنشوته، وكان أن أهداني نسخة، فتصفحته ولعل أهم مافي هذا الكتاب هو الورق، يستعمل في إشعال النار ومسح الزجاج، وتزيين الرفوف.
الجماعات عندنا تمارس ذلك (الوهم المقدس) فتنسج الأساطير حول قائدها، ومؤسسها، وشيخها، وتوهم الناس بمستقبل براق وهيمنة عالية، وتمكين عظيم، وتحفل بما تعتبره إنجازات، وتلمع صورة الفرد وتسرد عنه خرافات أو كرامات، وليس لديها من المقاصد، والخطط، والفهم الحضاري والمقومات، والواقعية السياسية، والخبرة العملية، ما يمكنها من ادارة مدينة ألعاب.
يذكرني هذا المعنى بمجموعة من الثوار الذين قاموا بتحرير حاجز، والحاجز لمن لايعرف هو “نقطة تفتيش” فيها نحواً من عشرة عساكر، هجموا عليهم عند بوابة البلدة وأجبروهم على الانسحاب وسلبوهم أسلحتهم، وكانت فرحة عارمة واحتفلات وإطلاق نار وعنتريات زائفة واعلنوها بلدة محررة، ورفعوا فوق ناحيتها أعلام الثورة، وكأنهم حرروا البلاد كلها وكان يوما مشهوداً، دون التفكير في اليوم التالي، الذي استدعا دخول الجيش والأمن فاغتصب النساء، وقتل الأطفال، ودمَّر القرية كلها، وشرد الناس .
الدول التي تغزوك بالإحصائيات والأرقام لتعيش حالة انتشاء أن هناك مستقبل زاهر ينتظرك، وهناك من يسهر الليالي من أجلك، وأن هذا التراب الذي تجلس عليه جدير أن تقدم وقتك لأجله لتحوز مرتبة المواطن الصالح، وسط أعتى قمامة، وتقدم دمك لأجله، وأن الاعداء المتربصين الحاسدين لا يفتأون يحاول النيل من إنجازاتك وبلدك. وأن عبد الذات وولي الأمر هو صاحب الرؤية الفذة، والنقلة النوعية، والفكر العظيم لتعيش من أجله وتموت من أجله.
توهمك الدول أنه ثمة مؤسسات يجب الحفظ عليها، وثمة جامعات ومدارس تبني الأجيال، وثمة معارك انتصرت بها ولو في كرة القدم والسباحة الأولمبية ، وأنه ثمة مخططات أفشلتها، وهي تعلم أنك تعلم أنها تكذب. ولكنها تسير على مبدأ اكذب اكذب حتى تصدق .

استعراض الوهم حركة تمارسها الشركات العالمية والماركات الكبرى لتعيشك حالة من البذخ الأسطوري، وحياة الأغنياء لمجرد أن تلبس ما يلبسون وتجلس حيث يجلسون، وأنت فيهم كشارب الخمر لاتنال سوى لحظة انتشاء تفرزك إلى سخط قادم ، يفرغ مخفظتك، ويتلف مخزونك ويبني لهوارين المال أمجادهم .

استعراض الوهم واقع يعيشه الناس، وعلى المفكرين وأرباب العلم أن يهدموا صوامعه وبيعه، فالحقيقة المرة رغم قسوتها، رغم كلفتها، رغم شدتها، رغم طول أمدها، قد تكون هي الحل ولا شيء سواها.
قد يكون الاستسلام وإنهاء المعركة بل والفرار والاستعداد لجولة جديدة هو حفظ البقية الباقية وأعظم من جهاد لايبقي ولايذر .
قد يكون حل الجماعة، ونقض الدولة، وهدم الهياكل، وإعدام القائد والزعيم والمؤسس وإنهاء البناء المهترئ الشامخ الآيل للسقوط بأي لحظة، هو الحل وبداية الطريق لبناء مؤسس جديد قائم على أعمدة ومواد حديثة تواكب الحضارة وتناسب الظروف المحيطة.
لم تقم دولة الاسلام إلا لما حطمت الأصنام
نحتاج لمعول هدم حضاري لتفكيك حالة الخرافة والوهم السيكولوجي الذي يعيشه الحالمون بغد لا يصنع أحدهم شيئا من مقوماته.
‏التفاؤل والثقة وحسن الظن أن تتعلق بفرج الله حتى ولو كانت المعطيات كلها ضدك، شيء جميل، ولكن عَوِّد نفسَكَ على مُواجهة الحقيقة المُرَّة لا أن تَرْكَن إلى الوهمِ المُرِيح إذ ليس دائماً العطاء بالمنح، أحياناً يكون العطاء بالمنع.
ولايفهمن أحد من الكلام أننا ندعوا التعقل الذي هو نواة التخاذل، ولا إلى الاقدام الذي هو قرين الاعدام، بل الى الواقعية ..
الواقعية التي جعلت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يهاجر من مكة، ويصالح الحديبية، ويهادن يهود، ويعطي ثلث تمر المدينة،وجعلت الصحابة يفرون من مؤتة
الواقعية أن تعرف متى تقدم ومتى تحجم، متى تضرب متى تهرب، فتحسن في الأولى وتغذر في الثانية.
الواقعية أن تعمل وفق المتاح وتستغل الممكن وتموت على الطريق، ولا تنتظر خلاف اللصوص فيما بينهم ولا انقلاب الجيش على بعضه، ولاحرب عالمية، ولا صاعقة وريحاَ صرصراً. وفي الحديث (لايدخل الجنة مدمن خمر)، ولك أن تقول (ولا يخرج من التيه مُدمن وهم).

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. بسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله . مقال رائع ألقى الضوء على سلبية عاشتها غالبية أمتنا منذ أن أزيحت عن دورها الريادي في قيادة البشرية لتخضع لدول ” أنشأتها شركات و شركات أنشأتها عصابات تافهة ” . كان طبيعياً أن تتولد من الرؤوس التافهة أنظمة تفاهة ، و هذه الأنظمة زرعت لدى شعوبها وهم “التفوق العنصري” و وهم “رسالة الرجل الأبيض” لكي تستخدم تلك الشعوب المضلَلة في استعمار بلدان الآخرين المختلفين من حيث الدين و لون البشرة ، ثم إن الاستعمار أوهم من أخضعهم أنه قد أتى في صك انتداب مؤقت حتى يرى آثار تنويره و تبلغ الشعوب مرحلة الرشد فيتركها لوهمين آخرين ” حق تقرير المصير ، الاستقلال ” .
    أدرك بعض أبناء أمتنا أن الاستعمار لم يغادر بلادنا لكنه تظاهر بالخروج من الأبواب الأمامية ليعاود الدخول من الأبواب الخلفية و كان دخوله الخلفي الخبيث عن طريق أشخاص مزروعين كثير منهم ليسو من أبناء ملتنا و ينحدرون من سلاسل عائلات فيها ثغرات أو انقطاع لكن هؤلاء المزروعين لديهم أسماء تماثل أسماءنا و ألوان تشبه ألواننا و يتحدثون بلغتنا و يمارسون ظاهرياً شعائرنا الدينية و مقتضيات عادتنا و تقاليدنا . من هؤلاء المجهولين و من غيرهم من الساقطين الرخيصين غير المجهولين ، ظهر الطراطير النواطير أدوات الاستعمار الغربي القديم منه و الجديد .
    كانت لهؤلاء الأدوات وظائف تتمثل في المحافظة على سيطرة الاستعمار ، ديمومة التخلف عن البلدان الصناعية ، قمع الشعوب بدون رحمة ، نهب الثروات للأسياد ، و إحباط كل محاولة جادة للتقدم . لقد تطلبت هذه الوظائف كمية هائلة من بيع و نشر الأوهام .
    باعونا وهم مقاومة الامبريالية و كانوا أشد المخلصين لها ، باعونا وهم التصنيع و زراعة السلع الأساسية فوجدنا أن بلداننا لديها بطولة في استيراد منتجات الآخرين ، نشروا لدينا أوهام إنشاء جيوش وطنية ليتبين فيما بعد أنها شرطة مكافحة شغب الشعوب و لا تصلح لأي حرب مع جيوش الآخرين ، نشروا لدينا أوهام أن لدينا جامعات و أبحاث لنكتشف أنها كانت خدعة من العيار الثقيل .
    توجد أمور كان من النادر أن تتناولها كتب التاريخ المتداولة للمقارنة بين أبناء أمتنا في عصور الازدهار و في عصر الانحطاط الحالي و من ضمن ذلك “بضاعة الوهم” . لا أستطيع إحصاء عدد المرات التي قرأت فيها بالمحلات التجارية شعار ” القناعة كنز لا يفنى ” و هو شعار مخادع لأن الأبرياء قد يفهمون منه ” القبول بضيق العيش و مذلته ” . في عصور المجد ، وجدنا الشاعر يقول ( لَيسَ التَعَلُّلُ بِالآمالِ مِن أَرَبي** وَلا القَناعَةُ بِالإِقلالِ مِن شِيَمي ) و وجدنا الشاعر يقول (إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ ** فَلا تَقنَع بِما دونَ النُجومِ • فَطَعمُ المَوتِ في أَمرٍ صَغيرٍ ** كَطَعمِ المَوتِ في أَمرٍ عَظيمِ ) . لم يكن شعراء ، قالوا في عصورنا الزاهية (وَمَا طَلبُ المَعِيشَةِ بالتمنِّي **ولكِنْ ألقِ دَلوكَ في الدِّلاء) و (تَرجو النَجاةَ وَلَم تَسلُك مَسالِكَها ** إِنَّ السَفينَةَ لا تَجري عَلى اليَبَسِ،) ، بائعي أو مشتري أوهام بل لوحظ عليهم التزام بالفرض – الذي تناساه الكثيرون في عصرنا الحالي – و هو فرض ((السببية )) .
    هذا الفرض يعني ربط الأسباب بالمسببات و عدم الاتكال على القدرية الغيبية . يقول ربنا سبحانه و تعالى مثلاً في الآيتين الكريمتين 83 ، 84 من سورة الكهف (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا* إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) المعنى أن الله أعطى هذا الرجل من الأسباب الموصلة له لما وصل إليه فاستعملها على وجهها الصحيح في الوصول إلى أقاصي العمران ، لكن المذهل أن هذا الرجل قال عنه تعالى في الآية 85 من نفس السورة كلمتين (فأتبع سببا). يقول سيدنا عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – يعني بالسبب المنزل أي أضاف للأسباب المنزَلة سبباً غير منزَل و في هذا مدح للرجل الذي زاد في ربط الأسباب بالمسببات ربطة من دون إتباع أوهام أو تفكير أمنيات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى