تقارير

قطع الغاز الرُّوسي عن أوروبَّا يهدِّدها بشتاء قارس ومظلم

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب


بعدما ما أحدثته من تداعيات اقتصاديَّة وخيمة فاقمت من حالة الرُّكود العالمي وأسفرت عن مزيد من التَّضخُّم الاقتصادي، أُضيف إلى سلبيَّات الحرب الرُّوسيَّة-الأوكرانيَّة أزمة جديدة، هي التَّهديد بارتفاع جنوني في أسعار النَّفط من جرَّاء قطْع روسيا إمدادات الغاز الطَّبيعي إلى قارَّة أوروبَّا، في خطوة تصعيديَّة للرَّد على العقوبات الغربيَّة المفروضة على الاقتصاد الرُّوسي، وعلى رأسها وقْف تصدير النَّفط ومشتقَّاته إلى القارَّة العجوز. فقد أعلنت شركة غاز بروم الرُّوسيَّة عن إيقاف تدفُّق الغاز الطَّبيعي إلى أوروبَّا عبر خط نورد ستريم 1 إلى أجل غير مسمَّى الجمعة 2 سبتمبر، بعد توقُّف الخطّ بضعة أيَّام بزعم إجراء صيانة. غير أنَّ الخطوة الرُّوسيَّة تأتي ردًّا على قرار الدُّول الصِّناعيَّة السَّبع الكبرى (جي 7) وضْع سقف لسعر المنتجات النَّفطيَّة الرُّوسيَّة، ضمن حزمة العقوبات المفروضة على الاقتصاد الرُّوسي؛ للحدِّ من استغلال روسيا مكاسبها من النَّفط في تمويل حربها على أوكرانيا، كما أوضح الكاتب البريطاني أليكس لوسن في مقال نشرته صحيفة الغارديان البريطانيَّة. ويأتي على رأس تداعيات الخطوة الرُّوسيَّة الأخيرة على تهديد أوروبَّا، الَّتي تعاني في الآونة الأخيرة من جفاف غير مسبوق في الأنهار أدَّى إلى تعطيل النَّقل المائي للبضائع، بشتاء مظلم وقارس البرودة؛ نتيجة لغياب الوقود اللازم لتشغيل محطَّات الكهرباء. ويرى مراقبون أنَّ استغلال روسيا سلاح إيقاف إمدادات الطَّاقة في تهديد الغرب له تداعياته القاسية على الاقتصاد العالمي بأسره، وليس على الاقتصاد الأوروبِّي المنهك بسبب تأثيرات تفشِّي جائحة كورونا خلال العامين الماضيين وحده، وفي ذلك ما ينذر بمزيد من الكساد وقلَّة الموارد الأساسيَّة والعوز.
مستقبل غامض ينتظر القارَّة العجوز من جرَّاء قرار الدُّول الصِّناعيَّة الكبرى
أصدر وزراء ماليَّة الدُّول الصِّناعيَّة السَّبع الكبرى (جي 7) بيانًا مشتركًا بعد اجتماعهم الأخير، الجمعة 2 سبتمبر، ينصُّ على تحديد سقف لأسعار النَّفط الرُّوسي بشكل عاجل. وجاء في البيان “سقف الأسعار سيحدد عند مستوى يستند إلى سلسلة من البيانات الفنيَّة، وسيقرِّره التَّحالف بمجمله قبل وضعه موضع التَّنفيذ”، مع الإشارة إلى أنَّ الأسعار لاحقًا “ستحدَّد علنًا بصورة واضحة وشفَّافة…تحديد سقف للأسعار مُصمَّم خصيصًا لخفض عائدات روسيا وقدرتها على تمويل حربها العدوانيَّة”. وتأكيدًا على أنَّ تلك الخطوة تهدف إلى حرمان روسيا من حصَّة ليست بالهيِّنة من عائداتها الماليَّة المستغلَّة في تمويل غزوها لأوكرانيا، أكَّد وزير الماليَّة الألماني، كريستيان ليندنر، في مؤتمر صحافي على أنَّ “روسيا تحقِّق حاليًا أرباحًا كبيرة بفضل تصدير مواد أولية كالنَّفط، ونريد التَّصدي لذلك بحزم”.
بالطَّبع، لم تكن الدُّول الأوروبيَّة الكبرى لتغامر بمستقبل العيش فيها في ظلِّ الأوضاع الرَّاهنة؛ فحرصت على تخزين مقدار كافٍ من الوقود للاستخدام في الفترات الحرجة. فكما تشير إحصاءات موقع AGSI، المتخصِّص في تتبُّع مخزون الغاز في العالم، فإنَّ دول أوروبَّا الغربيَّة تحتفظ بمخزون مطمئن من الغاز الطَّبيعي، وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا وبلجيكا والدَّانمرك. غير أنَّ جفاف الأنهار، لا سيِّما نهر الرَّاين الَّذي يمثِّل أهميَّة قصوى في النَّقل المائي والتِّجارة الدَّاخليَّة في 6 دول أوروبيَّة، يهدِّد بأزمة اقتصاديَّة كبيرة، بعد ازدياد الاعتماد على النَّقل البرِّي الَّذي يترتَّب عليه مزيد من الحاجة إلى الوقود. من ناحية أخرى، فإنَّ دول أوروبَّا الشَّرقية تعاني من نقْص في معدَّلات تخزين الطَّاقة ينذر بتوقُّف محطَّات توليد الطَّاقة، خاصَّةً بعد ارتفاع سعر الغاز الطَّبيعي إلى 3100 دولار أمريكي لكلِّ ألف متر مكعب من الغاز في شهر أغسطس المنصرم، بارتفاع بنسبة 610 بالمائة، مقارنة بنفس الفترة خلال العام الماضي.
روسيا تبرِّر خطوتها الكيديَّة ضدَّ أوروبَّا
تأتي قطْع الغاز الرُّوسي عن أوروبَّا تنفيذًا لتهديد سبق وأن أطلقه الرَّئيس الرَّوسي السَّابق ونائب رئيس مجلس الأمن الروسي، دميتري ميدفيديف، بمعاقبة أوروبَّا بتلك الصُّورة، إذا ما أقدمت على تحديد سقف لسعر النَّفط الرُّوسي. في حين ألقى رئيس مجلس الدُّوما، أو مجلس النُّوَّاب الرُّوسي، فياتشيسلاف فولودين، باللوم على قادة أوروبَّا في دفْع بلاده إلى اتِّخاذ تلك الخطوة القاسية بفرض عقوبات مجحفة على الاقتصاد الرُّوسي، في مرحلة يعاني فيها سكانَّ العالم بأسره من محنة اقتصاديَّة ربَّما غير مسبوقة، حيث قال “حانت لحظة الحقيقة للزُّعماء الأوروبيين، لديهم حلان للخروج من الوضع الَّذي تتسبَّوا فيه.. أوَّلًا عن طريق رفع العقوبات غير القانونيَّة عن بلدنا وتشغيل خط نورد ستريم 2، أو ترك كل شيء كما هو، وسيتسبَّب ذلك في مشكلات اقتصاديَّة وزيادة أعباء الحياة على المواطنين”. وكانت القارَّة العجوز قد اشترت من روسيا 341 مليار متر مكعَّب من الغاز الطَّبيعي العام الماضي، نُقل نصف ذلك المقدار عبر أنابيب الغاز، لكنَّ إدارة فلاديمير بوتين قد قلَّصت إمدادات الطَّاقة إلى أوروبَّا منذ فبراير الماضي؛ نتيجة للموقف الأوروبِّي المعارِض لغزوها أوكرانيا. بالتَّساؤل عن خيارات أوروبَّا لمواجهة تلك الأزمة، أشارت مجلَّة الإيكونوميست الاقتصاديَّة إلى أنَّ ترشيد استهلاك الطَّاقة هو الحلُّ الأمثل، في ظلِّ الارتفاع الجنوني في أسعار الوقود، الَّذي سيفضي إلى ارتفاع فواتير استهلاك الطَّاقة في شتَّى ربوع أوروبَّا.
ونتساءل: ماذا ينتظر القارَّة العجوز في ظلِّ جفاف الأنهار ونقْص إمدادات الطَّاقة؟ ولماذا الولايات المتَّحدة في منأى عن تداعيات الحرب الرُّوسيَّة-الأوكرانيَّة برغم أنَّها هي الَّتي فرضت العقوبات الاقتصاديَّة على روسيا وحظرت تسويق نفطها في الغرب؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى