بحوث ودراسات

الملابسات الحقيقيَّة للفتنة الكبرى بين الحقيقة وافتراء “حروب الرُّحماء” 9 من 9

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

تكاتُف الصَّحابة في تأجيج فتنة التَّمرُّد على الإمام عليّ

يظهر عمرو بن العاص في الأحداث عند وصوله إلى الشَّام للانضمام إلى فرقة معاوية المناوئة لعليّ. ويعتبر عمرو من أكثر الصَّحابة الَّذين اختصَّهم الكاتب بالإساءة في الجزء الأوَّل في السّلسلة؛ ولعلَّ أهمُّ ما رُمي به فاتح مصر هو الطَّعن في شرف أمّه، وتحريض الصَّحابة على بعضهم خدمة لمصلحته، وتحريضه على قتْل عثمان بعد أن عزله عن ولاية مصر. يعرف القارئ عمرو بن العاص من الجزء الأوَّل بأنَّه نفعيٌّ وانتهازيٌّ وشديد المكر؛ ويفتتح الكاتب دورَه في الجزء الثَّاني بالإشارة إلى شماتته في مقتل عثمان، بأن انشرح صدره برؤية قميص عثمان المتشرّب بدمه وأصابع زوجته المقطوعة أثناء دفاعها عنه. يستنكر محمَّد بن عمرو بن العاص موقف أبيه من مقتل عثمان بانضمامه إلى صفّ معاوية، الَّذي لم ينصر عثمان، ويواجه أخاه عبد الله بذلك (صــ163):

-وهل دم عثمان يطلبه أبوك إلَّا مِن نفسه ومِن صحبه في المدينة؟! فلِمَ تخصُّون به عليًّا وحده؟ ثمَّ هل معاوية الَّذي امتنع عن نُصرة عثمان، ولم يَلحقه بجندي واحد يُنصر ويفكُّ حصاره هو الَّذي يريد الثَّأر له الآن؟ يا أبي، تُوفِّي النَّبيُّ وهو عنكَ راضٍ، وتوفِّي أبو بكر وهو عنكَ راضٍ، وتوفِّي عُمر وهو عنكَ راضٍ، أرى أن تكفَّ يدك وتجلس في بيتك حتَّى يجتمع النَّاس على إمام فتبايعه.

ويكشف عيسى عمَّا بقلب عمرو بن العاص، وهو أمنيته أن يستعيد ولايته على مصر، الَّتي سلبها منه عثمان قبل مقتله بعشر سنوات، ليعيش بلا إمارة ولا منصب يشبع طمعه في السُّلطة (صــ174):

دارت الكلمات تحت عمامة عمرو، يتباهى بمصره، ويراها فوزه ونصره، وليترك معاوية يسعد بهذا الشَّام أو حتَّى بالجزيرة كلِّها، عِراقها وفارسها، ليقنع بمصر في السَّبق فقد سابقه معاوية وتمكَّن في الشَّام، وعاش فيها حتَّى حاز شعبًا وأنصارًا وعِزَّا ومالًا، ممَّا يجعله قادرًا الآن على أن ينطلق من مكانه إلى مكانته، بينما هو أطاح به عثمان بلا أرض يدقُّ فيها أوتاده، أو يجمع فيها عزوته، أو يشتري منها وفيها رجاله.

يتطرَّق الكاتب في هذه المرحلة إلى موقف معاوية من تلك الفتنة، بادّعاء تأهُّبه لتولّي الخلافة بعد نزعها من عليّ، مشيرًا إلى أنَّه عرَض الزَّواج على نائلة، أرملة عثمان، بعد أن تنتهي عدَّتها، طالبًا من حُبى، الَّتي أرسلتها نائلة له بقميص عثمان وأصابعها المبتورة، أن تنقلها له عرْضه للزَّواج. يقرُّ معاوية بأهميَّة وجود عائشة على رأس جيش المتمرّدين على عليّ؛ حيث كان الجميع يتَّفق عليها، وإن اختلفوا بشأن الزُّبير وطلحة. وقبل إتمام مؤامرة التَّخلُّص من عليّ والاستيلاء على الخلافة، يتَّفق عمرو بن العاص مع معاوية على أن تكون مصر لعمرو وأبنائه من بعده؛ فيوافق معاوية، مذكّرًا ابن العاص بأصل أمّه في الجاهليَّة، بقوله “كأنَّك لم تغزُ مصر للمسلمين يا عمرو، بل لأحفاد النَّابغة” (صــ176):

مصر بكلِّ مالها وأرضها وعقارها وحصادها وخراجها، وقبطها وعربها ورومها، وصعيدها ونهرها وبحرها لي، لن تحصل منها على درهم واحد، بل هي مصر ابن العاص.

ويكشف الكاتب عن خسَّة عمرو بن العاص بادّعاء اعترافه بالتَّحريض على عثمان، انتقامًا منه على حرمانه من ولاية مصر. يتباهى عمرو بأنَّه نجح في إيغار صدور الجميع ضدَّ عثمان، بما فيهم ربيبه، محمَّد بن أبي حذيفة؛ والآن، جاء دور عليّ (صــ179):

والله لقد حرَّت على عثمان حصى الأرض وإبل الصَّحراء، وما كنتُ لأضرب إلَّا لأن أصيب، وما كنتُ لأصيب إلَّا لأن أقتل. لكنَّه لم يتوقَّع قطُّ هذا النَّجاح الهائل من هذا الغضِّ في الفسطاط. كيف لفَّ على رقبة عثمان من مبعدة بحر ونهر؟ حتَّى محمَّد بن أبي بكر الصِّديق ما كان له أن يفعل شيئًا إلَّا بهذا الحذيفي؛ ربيب عثمان الَّذي انقل عليه، يتقلَّب الآن في سجن معاوية.

وإمعانًا في إظهار خسَّة ابن العاص وتهافته على الإمارة، يزعم الكاتب نشوب صراع بينه وبين محمَّد بن أبي حذيفة، أخ زوجة معاوية، الَّذي استولى على ولاية مصر، ثمَّ عُزل عنها بعد تولّي عليّ الخلافة، على الأحقيَّة في استعادة الولاية. ويبدو ابن العاص مستميتًا في الدِّفاع عن ولايته، متوعّدًا ابن أبي حذيفة بمواجهة حاسمة. (يُتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى