بحوث ودراسات

الملابسات الحقيقيَّة للفتنة الكبرى بين الحقيقة وافتراء “حروب الرُّحماء” 8من 9

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

لم يسلّم محمَّد بن أبي حذيفة بتولّي قيس بن سعد حُكم مصر، وأصرَّ على التمرُّد على أمر عليّ، متوجّهًا إلى المدينة المنوَّرة ليلحق بالمتمرّدين. يجدّد الكاتب اتِّهامه لعبد الله بن الزُّبير بالتَّواطؤ مع خالته، أمّ المؤمنين عائشة، لتوليته الخلافة، لمعرفته أنَّه الوحيد الجدير بالمنصب والأهل لثقتها، خاصَّة بعد أن أمرت بأن يكون إمامًا في الصَّلاة. غير أنَّ عبد الرَّحمن بن أبي بكر، خاله، فطن إلى تلك الخطَّة، وفهم أنَّ الزُّبير لا يريد لعائشة أن تواصِل المسير إلى العراق إلَّا لإكمال الخطَّة (صــ102):

كان عبد الرَّحمن يفهم جيِّدًا ابن أخته؛ هذا الطَّامح الَّذي يريد أن يركب جمل خالته أمِّ المؤمنين في طريقه للقصر، أيِّ قصر، كان يدرك أنَّ ابن الزُّبير يرى والده فوق سُدَّة الإمارة، ولا يجد إلَّا خالته عائشة السَّلاح الأمضى.

يحاول عبد الرَّحمن بن أبي بكر إثناء أخته عن مواصلة رحلتها، لكنَّها تصرُّ بعد أن تجد المدد من بني أميَّة، متفاخرةً بإمداد جيشها بمال وفير. غير أنَّ أخاها يوضح إنَّ ذلك المال كان من خراج اليمن الَّذي استولى عليه يعلى بن أميَّة لإرضائها (صــ105):

ثمَّ نظَرت إلى عبد الرَّحمن مُبتسمةً:

-لقد قال عبد الله بن الزُّبير إنَّ ثلاثة آلاف من قبائل البصرة قد انضمُّوا إلينا بسلاحهم وعتادهم، ثمَّ إنَّه يشتري دروعًا ورِماحًا فارسيَّة من تجَّار البصرة، ألا تعرف أنَّ يعلى بن أميَّة قد زوَّدنا بستمائة ألف درهم؟

تقرّر عائشة مواصلة السَّير إلى البصرة، مبرّرةً ذلك بأنَّ هدفها هو الإصلاح، بعد أن غزا الغوغاء، وتقصد أنصار عليّ، الحرمين، ونهبوا الأموال، واستحلُّوا البلد الحرام والشَّهر الحرام، ساعيةً إلى إرشاد العامَّة إلى فسطاط الحقّ، ومستندةً إلى قول الله تعالى ﴿لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [سورة النّساء: 114]. يكرّر الكاتب إظهار نفاق الصَّحابي طلحة بن عبيد الله، لمَّا خرج ليحرّض المسلمين على الخليفة عليّ، وهو الَّذي بايعه من قبل؛ كما يكرّر ادّعاء جلوس عائشة في وسط الرّجال للإدلاء برأيها واستمالة الحاضرين إلى فريقها المناوئ لعليّ. وما يصل “جيش عائشة” إلى البصرة، حتَّى يخرج أميرها، عثمان بن حنيف، لاستقبال القادمين، وعلى رأسهم أمّ المؤمنين والزُّبير وطلحة. وتخطب عائشة، الَّتي يجدّد عيسى اتِّهامها بأنَّها “تركت المدينة للغوغاء ينقلون عنها تحريضًا بقتل عثمان موصوفًا بنعثل اليهودي، ستدعو النَّاس…للقصاص من قتلة نعثل”، في جموع العامَّة، مندّدةً بما تعرَّض له عثمان (صــ116). تبرّئ عائشة عثمان ممَّا نُسب إليه من انحراف عن نهج النَّبيّ (ﷺ)، وظلم للرَّعيَّة، في محاولة خبيثة يصمها بها الكاتب لتحريض العامَّة ضدّ عليّ (صــ117):

-كان النَّاس يتجنُّون على عثمان ويزورون على عمَّاله، ويأتوننا بالمدينة فيستشيروننا فيما يخبروننا عنهم، ويرون حَسَنًا من كلامنا في صلاح بينهم، فننظر في عثمان فنجده بريًّا تقيًّا وفيًّا، ونجدهم كَذَبَة يحاولون غير ما يُظهرون، فلمَّا قووا على المكاثرة كاثروه، فاقتحموا عليه داره، واستحلُّوا الدَّم الحرام، والمال الحرام، والبلد الحرام، بلا تِرَة ولا عذر، ألا إنَّ ممَّا ينبغي لا ينبغي لكم غيره أخْذ قتلة عثمان، وإقامة كتاب الله عزَّ وجلَّ، ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾.

غير أنَّ خطبة عائشة في جموع أهل البصرة لا تفلح في استمالتهم إلى فريقها؛ فيبدأ العراك بين المسلمين المنقسمين إل فريقين، أحدهما معها والآخر مع عليّ. يسرع عبد الرَّحمن بن أبي بكر بجمل عائشة بعيدًا عن ساحة الاقتتال، خوفًا من أن يصيبها مكروهٌ، ويجدّد تأنيبه لها على خروجها وإعلانها التَّمرُّد على وليّ الأمر (صــ118):

-يا أمّ المؤمنين، والله لَقتْل عثمان بن عفَّان أهون من خروجكِ من بيتكِ على هذا الجمل الملعون عرضةً للسِّلاح، إنَّه قد كان لكِ مِن الله سِتر وحرمة، فهتكتِ ستركِ وأبحتِ حرمتكِ، إنَّه مَن رأى قتالكِ فإنَّه يرى قتلكِ، وإن كنتِ أتيتِنا طائعةً فارجعي إلى منزلكِ، وإن كنتِ أتيتِنا مُستكرهةً فاستعيني بالنَّاس.

اتَّفق الفريقان على الصُّلح وإنهاء الاقتتال، على أن يتَّخذ كلُّ فريق الموقف المناسب له من حيث تأييد عليّ أو التَّمرُّد عليه. ويصرُّ الزُّبير وطلحة على موقفهما، خاصَّةً بعد تأييد بعض أهل البصرة موقف عائشة من عليّ وانضمامهم إلى معسكرها. وتستكمل عائشة الدَّور الَّذي يسنده لها إبراهيم عيسى، باستمرارها في التَّآمر ضدّ وليّ الأمر الشَّرعي، إشباعًا لرغبتها في فرْض سلطتها والمشاركة في صُنع السِّياسة. تستقبل عائشة مناصريها وداعميها بالمال والسِّلاح في بيت اتَّخذته مقرًّا لها في البصرة، مع قريباتها وجواريها، وقد عُين لحراستها رجال شِداد. أمَّا عن خطَّة التَّخلُّص من عثمان بن حنيف، والي البصرة المؤيّد لعليّ، فكانت اقتحام المسجد عليه مع رجالة، وخطَّة “باركتها” عائشة بعد أن عرضها عليها عبد الله بن الزُّبير، بل وكانت تنتظر التَّأكُّد من نجاحها (صــ127). تنجح خطَّة ابن الزُّبير في الإيقاع بابن حنيف، الَّذي يتعجَّب من صنيع جيش عائشة معه، وهو الَّذي كان صاحب زوجها (ﷺ)، كما يقول في نفسه متأسّفًا (صــ131):

كان ابن حنيف ينطق ويتكلَّم ويقول كلامًا فيه ذكْر للنَّبيِّ ولأصحابه، لعلَّه كان يريد أن يُذكِّرهم أنَّهم يكسرون ضلوع وينزعون لحية صاحب رسول الله. أنا صاحب النَّبيِّ يا أيُّها المختلُّون، فماذا تفعلون بصاحب نبيِّكم؟ لكم ولا كلمة ممَّا قالها قد أكلمها من التَّوجُّع والمزاحمة على وجهه، أُغشي عليه مرَّة من أثر النَّزع والنَّتف، ثمَّ أفاق على ألم أشدِّ، لكنَّ الغثيان قتَل جوفه حين أدرك أنَّه لمَّا تزاحَم البعض على لحيته توجَّه آخرون إلى شعر رأسه فتشاركوا لهوهم معه، ثمَّ امتدَّت أصابع تنغرض في عينَيه تنتف رموشها. لم يفهم لماذا يُمنَعون في هذه الخسَّة؟ لماذا ينحدرون إلى هذه الضَّعَّة؟ لماذا يسكت قائدهم عبد الله بن الزُّبير عنهم؟

يرسل ابن الزُّبير إلى خالته لإخبارها بنجاح الخطَّة، وسؤالها عن كيفيَّة التَّصرُّف مع ابن حنيف، في إشارة جديدة إلى أنَّ عائشة كانت العقل المدبّر لما كان يحدث. تستقبل عائشة الخبر بالثَّناء على الفعل بقولها “بارك الله فيكم جند الله”، وتأمر بقتل بابن حنيف (صــ134). تتراجع عائشة عن الأمر بقتل والي البصرة، بعد أن تتذكَّر صداقته للنَّبي (ﷺ)؛ فتأمر بحبسه. وكان أوَّل ما تبادر على ذهب عبد الله بن الزُّبير بعد القبض على عثمان بن حنيف هو كيفيَّة التَّصرُّف في الأموال الَّتي كانت في حوزته وفي بيت المال؛ فيقترح محمَّد بن طلحة بن عبيد الله تقسيمه على ثلاثة: صاحبة الهودج، أي عائشة؛ وصاحب الجمل الأحمر، أي طلحة؛ وعليّ بن أبي طالب. يؤيّد ابن الزُّبير رأي صاحبه في عائشة وطلحة، لكنَّه يخالفه بالنّسبة إلى عليّ (صــ138):

سألتُ ابن طلحة عن هالكبجوف المدينة لم يُقبر
فقال ثلاثة رهط همأماتوا ابن عفَّان واستعبر
فثلث على تلك في خدرهاوثلث على راكب الأحمر
وثلث على ابن أبي طالبونحن بدويَّة قرقر
ثمَّ التفت إلى ابن طلحة وأكمل شعره:
فقلتُ صدقتَ على الأوَّلَينوأخطأتَ في الثَّالث الأزهر

يتعرَّض عثمان بن حنيف إلى أشدّ ألوان التَّنكيل، برغم أنَّ جيش الثُّلاثي، عائشة وطلحة والزُّبير، كما يطلق عليه الكاتب، من المفترَض أنَّه خرج للقصاص من قتلة عثمان. يجلد الزُّبير بن العوَّام بن حنيف بنفسه، زاجرًا أبا الأسود الدُّؤلي، التَّابعي الجليل وعالم النَّحو العربي الَّذي يُنسب إليه الفضل في وضْع النّقاط على الحروف العربيَّة في زمن خلافة عليّ، حينما يذكّر الأخير بأنَّ ابن حنيف كان من أصحابي النَّبي (ﷺ)؛ ويبرّر الزُّبير فعله بأنَّه “حدُّ الله”، دون التَّصريح بجُرم ابن حنيف الَّذي يستحقُّ الجلد لأجله (صــ143). ويبالغ عيسى في بلورة وحشيَّة الزُّبير في جلْد ابن حنيف، استكمالًا للصُّورة السَّلبيَّة الَّتي يرسمها للصَّحابة في سلسلته. يختلف ابن الزُّبير مع عبد الرَّحمن بن أبي بكر، حول قسمة المال، الَّذي تهافَت عناصر جيش الثُّلاثي على جمْعه بعد اقتحام قصر ابن حنيف، بينما أراد ابن الزُّبير الاحتكام إلى عائشة بشأن تحديد الأنصبة (صــ147):

كان العشرات يندفعون الآن من ممرَّات القصر وباحته وساحته وبوَّاباته نحو غرفة خزانة بيت المال، ثمَّ تحوَّلوا مئات، وصارت صلصلة فضَّة النُّقود تنافِس ديب الكعوب في القصر.

يواصل جيش الثُّلاثي إبادة مؤيّدي الإمام عليّ من أهل البصرة من ناحية، وغرْف أموال الولاية من ناحية أخرى، تنفيذًا لأوامر أمّهم، عائشة، متجاهلين جثث القتلى الَّذين كانت جريمتهم، كما يدَّعي الكاتب، أنَّهم “مرقوا وعقُّوا أمَّهم”؛ فاستحقُّوا عقوبة “فعال أياديهم الملوَّثة بدم عثمان الطَّهور” (صــ155). أراد الجيش التَّأكُّد من ولاء الباقين من أهل البصرة لفريق عائشة، قبل التَّوجُّه إلى الكوفة، معتبرًا أنَّ كلَّ من يناوئ عائشة ورجالها من قتلة عثمان، ومصيره الضَّرب والسَّحل. ويعجز طلحة بن عبيد الله عن الرَّد على سؤال ابنه، محمَّد، عن سبب عدم النّقاش مع البصريين المعارضين ومحاجاتهم بالأدلَّة الشَّرعيَّة (صــ158):

-لماذا لا تُقيمون عليهم الحُجَّة؟ لماذا لا تتثبَّتون من تُهمتهم؟ بأيِّ ذنب تقتلونهم؟ وبأيِّ برهان تقتصُّون منهم؟!

كانت أسئلة محمَّد بن طلحة النَّائحة المبحوحة تذهب بددًا مع الرِّيح، وتنقذف كلماته تطير مع الهواء ومع الرُّؤوس الطَّائرة!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى