مقالات

الفلسفة في خدمة السياسة

د. محمد القطاونة

أستاذ العقيدة والفلسفة
عرض مقالات الكاتب


يعتقد البعض أن الصراع الثقافي والفكري والعلمي في العالم الإسلامي كان منفكاً عن السياسة والواقع كما هو اليوم، ولكننا نجد العكس من ذلك تماما، بل كانت الكتابات في شتى العلوم منها الدينية والفلسفية معبرة عن واقعها السياسي وان لم تشر الى ذلك، فكل عالم يدعم المنظومة الفكرية التي ينتمي إليها، في هذا المقال حاولت فيه أن اعطي مثال على هذا الانتماء من خلال ممارسة التأليف الفلسفي وشرحة، وقدمنا نصير الدين الطوسي نموذجا على ذلك اذ يعتبر نصير الدين الطوسي الفيلسوف والمتكلم المهم، والشارح لابن سينا، إن كان ذلك من جانبه الفلسفي البحت، أو من جانبه الكلامي. وإذا وقفنا على سر العلاقة بين ابن سينا والطوسي لوجدنا أن الأمر يتعدى الفلسفة ويذهب إلى جذور الاعتقاد عند كل منهما؛ فابن سينا والطوسي يصدران عن الحركة الإسماعيلية، وإن صدور ابن سينا عن العقيدة الإسماعيلية أمر وقع ولا مجال للمناقشة فيه أو الرجوع عنه. والطوسي مع كل الاعتبارات المتأخرة لتشيعه الإمامي، هذا جعل الطوسي يعنى بابن سينا، وعلى أسس وقواعد تذهب في غاياتها القريبة دفاعاً عن السينوية. لكنها، كما ندرك بلا تردد، أنماطاً من الصدور الفلسفي الاسماعيلي للرد على فخر الدين الرازي الذي لم يتردد قدر شعرة في إكمال المهمة الشاقة لمعلمه الغزالي في نقض الفلسفة والإسماعيلية على السواء. وبمعنى آخر، إن تخصص الطوسي في الفلسفة السينوية عامة لم يأت هكذا اعتباطاً، وإنما كان صدوراً اسماعيلياً أولاً وبالذات. بل الأكثر عجباً، أن تصدي الطوسي بشرح يناقض شرح الرازي للإشارات والتنبيهات لم يكن موقفاً فلسفياً حيادياً بحتاً، بل كان موقفاً فلسفياً منحازاً قد خدم به بالدرجة الأولى التيار العقلي الذي كانت الحركة الإسماعيلية برمتها تشجع المفكرين أن يشتغلوا فيه. ولم تقف الأمور بين الرازي والطوسي إلى هذا الحد فيما يتصل بالإشارات والتنبيهات، بل إن الموضوع امتد إلى الآخرين فيما بعد، بحسب الموضوع موقفاً دلّ على التزام بالعقيدة الدينية. فبينما طوره الرازي في حربه لابن سينا بالذات، وما استدرك عليه النصير بحجة الحياد الفلسفي، أدى ذلك إلى ردود فعل جبارة في التيارين السني والشيعي. وكان التزام الخط البياني لأفكار الرازي في شرح الإشارات والتنبيهات ثمرة واضحة لكل ذلك الجدل الديني، أما تعصب الطوسي الذي بذل مجهوداً لهدم بنيان فخر الدين الرازي في شرحه على الإشارات وهذا أعجب من العجب! أن نرى موقف الطوسي من الرازي في فهم كتاب الإشارات والتنبيهات لابن سينا إرثاً إمامياً، وليس اسماعيلياً فقط. ولكي نوثق تاريخياً جذور هذا الاتجاه، يجب أن نلاحظ دونما أدنى شك “أن الشيعة لم يشتهر عنهم التطرق إلى الفلسفة لأن هذا يلحقهم بالإسماعيلية، فحاولوا أن، يكتفوا بعلم الكلام والفقه وأن يجتنبوا الفلسفة ما أمكنهم. فلما جاء الغزو المغولي واستبزاز هولاكو لنصير الدين الطوسي، بعد إخراجه من سجن آخر أمراء الاسماعيليين، نشطوا إلى هذا النوع من المعرفة. ولم يكن هذا الاتجاه الودي من جانب واحد؛ فكما توجه الشيعة إلى نصير الدين بالعناية بالبحث العقلي، عنى هذا بهم شخصياً”. وليس بمدهش بعد هذا التصريح الخطير، أن نفسر كيف ورث الإمامية أعمال نصير الدين الطوسي ذات المشرب الإسماعيلي، وعلى الأخص شرحه لكتاب الإشارات والتنبيهات، ذلك الشرح الذي لا يزال التيار الإمامي برمته يعتبره مصدراً أساسياً في الفلسفة التي استند إليها فلاسفتهم بعد الطوسي؛ بالرغم من المكانة الممتازة التي نلاحظها من احتلال هذا الشرح موضعه الأكبر من المكتبة التراثية الإسماعيلية ! ومع ذلك اعتـُُبر الشرح في العصر الحديث تراثاً فلسفياً إسلامياً عاماً!
وحتى نستطيع أن نلقي ضوءاً علمياً على ما ذهبنا إليه، نشير إلى أن شرح الطوسي على كتاب ابن سينا ظهر لأول مرة في الهند في سنة 1282هـ /1894م ولم تكد تمر اثنتا عشرة سنة على تلك الطبعة الفريدة، حتى أعيد طبعه هناك سنة 1293هـ/1876م وكان تأثير الكتاب قد تخطى دائرة الهند إلى اسطنبول قبل ذلك فظهر مطبوعاً سنة 1290هـ / 1873م. ومن المدهش أن الكتاب ظهر من جديد في طهران سنة 1301هـ/ 1884م، وكأن هذا السباق إلى العناية به سرى من جديد إلى الهند بإعادة طبعه سنة 1318هـ / 1900م إن الحقيقة تشير إلى أن موقف النصير من السينوية في شرحه إنما هو، أيضاً، موقف عقائدي بحت قصد منه إضعاف التيار المعاكس الذي يتزعمه فخر الدين الرازي. بينما نجد شرح الرازي كتاب الإشارات والتنبهات بمنطق المتكلم الذي يتعارض في كثير من الأحيان مع الفيلسوف، زد على ذلك تأثيرات الموقف السياسي الذي كان يلعب دوره في تثبيت المذهب السني آنذاك وهو يعتبر واحداً ممن أقطابه في مجابهة سيطرة القوى الباطنية، فضلاً عن ذلك أن الرازي بكل رغباته الفلسفية، لم يساوم في التنازل عن القواعد الأساسية للمذهب السني لصالح فلسفة ابن سينا التي تمثل المذهب الاسماعيلي الباطني. هكذا دأب الرازي على تدعيم قواعد أهل السنة بالرغم من رغباته الفلسفية التي يميل إليها أحياننا، إلا أنه في هذه المرحلة حرص أشد الحرص على نقد الفلسفة إذا كانت تهدف لهيمنة تيار على تيار آخر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى