بحوث ودراسات

الملابسات الحقيقيَّة للفتنة الكبرى بين الحقيقة وافتراء “حروب الرُّحماء” 7 من 9

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

عائشة تحيك خيوط المؤامرة وتشعل نار الفتنة!

في هذه المرحلة من الصّراع، تظهر أمُّ المؤمنين عائشة، الَّتي ادَّعى عيسى أنَّها كانت من أوائل المحرّضين على قتْل عثمان لأنَّه لم يكن يسمع لآرائها أو يسمح بتدخُّلها في سياسة الحُكم. فقد جاء في رحلة الدَّم (2016م) أنَّ عائشة دخلت في مشاحنة مع عثمان في المسجد النَّبوي (صــ244):

ندت صرخة من عائشة وقد عبرت كلماتها فوق رأس نائلة لهبًا أشعلها خوفًا ورهقًا وقلقًا وذعرًا:

-ويحك يا عثمان! أتقول هذا لصاحب رسول الله؟!

سمعها عثمان حيث كان صمْت المئات من المحتشدين مشمولًا بالرَّهبة حين جاءتهم كلمات عائشة من غرفتها، فأجابها عثمان:

-اصمتي يا عائشة ولا دخل لكِ في هذا.

وجاء في رحلة الدَّم كذلك أنَّه عائشة استنفرت العامَّة ضدَّ عثمان، متَّهمةً إيَّاه بالظُّلم (صــ450):

-ولا تنسَ أنَّ زوجة رسول الله وأخت هذا العابد القانت (ابن أبي بكر) بعثت لنا بالرَّسائل، تشكو عثمان وجوره على الحقِّ ظُلمه للعباد، وتستحثُّ المسلمين للخروج عليه.

لم ينفِ ابن أبي بكر خبر رسائل أخته، فهو موقن من غضبها على عثمان، لكنَّه مدرك أنَّها لم ترسل رسائل بل هي خدعة ابن أبي حذيفة، لكن لا بأس بها إن استنفرت النَّاس، فشفاهة عائشة قالتها كمثل كتابة لم تكتبها.

وتنتهي أحداث الجزء الأوَّل بخروج عائشة إلى الحجّ بصحبة حفصة بن عُمر، زوج النَّبيّ (ﷺ)، ويبدأ دورها في الجزء الثَّاني من أمام الكعبة، حيث وقفت لتستنفر النَّاس من جديد للثَّأر لمقتل عثمان، وهي الَّتي حرَّضت على قتله، كما يدَّعى عيسى. من المثير أنَّ مَن ينتقد تصرُّف عائشة هو عبيد الليثي، قريبها وزوج حُبى، معلِّمة نساء المدينة فنَّ معاشرة الأزواج (صــ43): 

-أيُّها النَّاس، إنَّ عثمان قُتل مظلومًا، ووالله لأطلبنَّ بدمه.

هل يمكن أن تفعل ذلك فعلًا؟ لم يكن يظنُّ أنَّ هذا الحنق المحموم الَّذي ألهب الهواء الفاصل بينهما، سيصير ويصل إلى حدِّ الوقوف عند الحجر الأسود تطالب بدم عثمان، أيُّ دم هذا يا أمَّ المؤمنين؟ أليس هذا الدَّم ما سُفك بناءً على أمرك؟

يتفاجأ عبيد الليثي بأنَّ زوجته قد سافرت إلى الشَّام دون إخباره لتسليم معاوية بن أبي سفيان أمانة من نائلة بنت الفرافصة، أرملة عثمان، وهي قميصه المتشرّب بدمه وأصابعها، أي نائلة، الَّتي قُطعت وهي تدافع عنه. مع ذلك، يتوجَّه عبيد إلى عائشة لإخبارها بما حدث لعثمان، مستنكرًا مطالبتها بدمه، بعد أن كانت تقول “اقتلوا نعثلًا فقد كفر”؛ ونعثل كان من يهود المدينة، وأشيع أنَّه كان يُشبه عثمان شكلًا. ومن جديد، يضع عيسى أم المؤمنين في موقف يدفع القارئ للمقارنة بينها وبين معلّمة فنّ المعاشرة الزَّوجيَّة، ويجعل حُبى أجدر بالثَّناء والتَّقدير (صــ47):

-قُتل والله عثمان مظلومًا، والله لأطلبنَّ بدمه.

لم يملك نفسه، فردَّ مستفهمًا مستنكرًا:

-ولمَ تطلبين بدمه؟ فوالله إنَّ أوَّل مَن أمال حرفه لأنتِ! ولقد كنتِ تقولين: اقتلوا نعثلًا فقد كفر.

ردَّت حانقة:

-ماذا تقول يا أمِّ كلاب؟

-أقول أطعناكِ في قتْله.

ثمَّ بذل جهدًا في استدعاء شجاعته وأضاف:

-وقاتله عندنا مَن أمَر.

وتأكيدًا على النّفاق واستغلال الدِّين في تحقيق الأطماع الشَّخصيَّة، يدور ذلك الحوار بين عائشة وعبيد الليثي بن أمّ كلاب أمام الكعبة، حيث تخطب عائشة في النَّاس وتحرّضهم على قتلة عثمان، ويستجيب لها عبد الله بن عامر، ابن عمّ عثمان الَّذي خُلع عن ولاية الكوفة. يصف الكاتب تحريض عائشة أهل مكَّة للثَّأر لعثمان، وجلوسها في حضرة الرّجال، “دون ستْر من قماش”، وقد انضمَّ إليها طلحة والزُّبير (صــ51). تُنصح عائشة بالسَّفر إلى البصرة لإنهاض العامَّة هناك، كما فعلت في مكَّة؛ وبدأ الحديث يدور حول “جيش عائشة الَّذي يتجهَّز في أطراف البلدة (مكَّة) تأهُّبًا للسَّفر إلى البصرة” (صــ59). أُحضر جملٌ لحمل أمّ المؤمنين عائشة، وسارت في مقدّمة الجيش، يحيط بها سبعون رجلًا من الخيَّالة، ومن جديد يسخر الكاتب من الصَّحابة، بالإشارة إلى حرصهم على الصَّلاة وهم في طريقهم لإشعال فتنة ضدَّ أمير المؤمنين وتحريض العامَّة عليه. تشعر عائشة بالأسى وتفكّر في العودة إلى مكَّة، بعد أن تنبح الكلاب بالقرب من هودجها، حين تتذكَّر تحذير النَّبيّ (ﷺ) من ذلك (صــ73):

قال عبد الله بن الزُّبير:

-بل وتقدمين فيراكِ المسلمون فيصلح الله عزَّ وجلَّ ذات بينهم.

لكنَّ الزُّبير ظلَّ صامتًا، كاتمًا قلقه بكفِّه، مسنودًا على ضلوع صدره.

ردَّت عائشة لتُنهي النِّقاش وصوتها مبلل بالدَّمع ومغموس بالحز:

-إنَّ رسول الله ﷺ قال لنا ذات يوم: “كيف بإحداكنَّ تنبحُ عليها كِلاب الحوأب؟”

وقد روى الإمام أحمد (24654)، وابن حبان (6732)، والحاكم (4613)، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: “لَمَّا بَلَغَتْ عَائِشَةُ بَعْضَ مِيَاهِ بَنِي عَامِرٍ لَيْلًا نَبَحَتِ الْكِلَابُ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: أَيُّ مَاءٍ هَذَا؟ قَالُوا: مَاءُ الْحَوْأَبِ، فَوَقَفَتْ فَقَالَتْ: مَا أَظُنُّنِي إِلَّا رَاجِعَةً، فَقَالَ لَهَا طَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ: مَهْلًا رَحِمَكَ اللَّهُ، بَلْ تَقْدَمِينَ، فَيَرَاكَ الْمُسْلِمُونَ، فَيُصْلِحُ اللَّهُ ذَاتَ بَيْنهِمْ، قَالَتْ: مَا أَظُنُّنِي إِلَّا رَاجِعَةً، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لَنَا ذَاتَ يَوْمٍ: (كَيْفَ بِإِحْدَاكُنَّ تَنْبَحُ عَلَيْهَا كِلَابُ الْحَوْأَبِ)”. يستغلُّ الكاتب تلك الواقعة في إدانة عائشة، مجدّدًا اتِّهامها بالتَّحريض على قتْل عثمان، ومنتقدًا مطالبتها بالثَّأر لدمه، وأخوها، محمَّد بن أبي بكر، هو أوَّل المتَّهمين بالقتل (صــ77):

-عائشة إذًا تطلب القصاص من قتلة عثمان، وهل تعرف أنَّ أخاها؛ أنتَ يا محمَّد، أوَّل متَّهم بقتل عثمان؟ فلماذا لم ترجع للمدينة لتأمر بنحرك ولا تُجهد أمُّ المؤمنين نفسها في السَّفر إلى البصرة؟!

نفض محمَّد عن رأسه كلمات عاتكة المريرة، وقال:

-أليست هي مَن حرَّضت النَّاسَ لقتْل عثمان؟ وأليس معها الزُّبير وطلحة وكانا أشدَّ على عثمان منِّي؟

تواجه عاتكة بنت زيد، زوج عبد الله بن أبي بكر، أخيه محمَّدًا بحقيقة موقف عائشة من مقتل عثمان، وهو رغبتها في تولّي عبد الله بن الزُّبير الخلافة بدلًا من عليّ؛ لكي تصير مقاليد الحُكم في يدها، كما يدَّعي عيسى على لسان عاتكة (صــ78):

-أختك تعلم أنَّ الخليفة سيكون في طاعتها لو كان طلحة قطعًا أو حتَّى الزُّبير، فساعتها سيكون أمْر الخلافة كلِّها في يد ابن أختها، أمَّا عليٌّ فلا أحد مُطاع عنده إلَّا نبيُّه.

تتَّسع دائرة المتآمرين على الإمام عليّ من الطَّامعين في النُّفوذ والمناصب، حيث ينضمُّ عبد الله بن أبي السَّرح، والي مصر المعزول وفاتح إفريقيا وقائد جيش المسلمين ضدَّ الرُّوم في معركة ذات الصَّواري وأخ عثمان في الرَّضاعة، إلى صفّ المتمرّدين على عليّ، بعد تعيين الأخير قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري واليًا جديدًا على مصر، الَّتي كانت تمثّل لعرب شبه الجزيرة حينها، وعلى حدّ وصْف الكاتب، منبع الخيرات. ويمعن الكاتب في إظهار نذالة الصَّحابة في تصويره موقف محمَّد بن أبي حذيفة، ربيب عثمان، من تولية غيره على مصر، بعد أن شارك في تدبير مقتل عثمان ليفوز بالولاية عليها (صــ92):

قال عبد الله بن أبي سرح:

-لعن الله محمَّد بن أبي حذيفة، فإنَّه بغى على عثمان، وسعى عليه، وقد كفله وربَّاه وأحسن إليه، فأساء جواره، ووثب على عمَّاله، وجهَّز الرِّجال إليه حتَّى قُتل، ثمَّ إذا بابن أبي طالب يولِّي عليه قيسًا، وكأن ابن أبي حذيفة حرَث ليبذر غيره، وشوى ليأكل غيره، بل وليأكل الشَّاوي والشَّاة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى