بحوث ودراسات

الملابسات الحقيقيَّة للفتنة الكبرى بين الحقيقة وافتراء “حروب الرُّحماء” 6من 9

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

“حروب الرُّحماء”: نموذج لطعن الرَّوافض في الصَّحابة وأمَّهات المؤمنين
أصدر الكاتب والصُّحافي المصري، المعروف بتشيُّعه الفكري واتّباعه مسارًا مؤيّدًا لمزاعم الشِّيعة حول صحابة نبيّنا مُحمَّد (ﷺ) وبعض نسائه، إبراهيم عيسى، عام 2018م الجزء الثَّاني في سلسلة “القتلة الأوائل”، تحت عنوان “حروب الرُّحماء”. لم يكتفِ الكاتب باتِّهام صحابة النَّبيّ (ﷺ) بالدَّمويَّة وخوض الحروب في سبيل متاع الدُّنيا، من مال ونساء. فبما يصوّر الصَّحابة عليه من تكالُب على السُّلطة وتصارُع على مقاليد الحُكم إلى حدّ الاقتتال وإشعال الحروب الأهليَّة، يبدو عيسى وكأنَّما يسخر من وصْف الله تعالى لهم بالرُّحماء، مصداقًا لقوله ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [سورة الفتح: 29]. يضرب الكاتب عرْض الحائط بحديث النَّبيّ (ﷺ)، عن أبي سعيد الخُدري، الوارد في صحيح البخاري (3673) “لا تَسُبُّوا أصْحابِي، فلوْ أنَّ أحَدَكُمْ أنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ، ذَهَبًا ما بَلَغَ مُدَّ أحَدِهِمْ، ولا نَصِيفَهُ”. ولا يأبه الكاتب بعاقبة سبّ الصّحابة، مصداقًا لقول النَّبيّ في صحيح البخاري (3673) وصحيح مسلم (2541) “مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ”. وإن كان إنكار السُّنَّة النَّبويَّة يبرّر تجاهُل بعض مفكّري العصر من أتباع من الَّتيار التَّنويري لمثل هذه الأحاديث الصَّحيحة، فكيف يمكن تناسي قول الله ﴿والسَّابِقُون الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رضي اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [سورة التَّوبة: 100]؟
سبقت الإشارة في تحليل رواية “رحلة الدَّم” (2016م) إلى أنَّ أحداثها تدور حول أربعة محاور أساسيَّة، هي تقديم الفتوحات الإسلاميَّة لمصر وغيرها باعتبارها غزوًا استعماريًّا لنهْب الثَّروات وإخضاع السُّكَّان الأصليين إلى سُلطان المستعمر العربي النَّهم؛ وتشويه سيرة الصَّحابة وبعض أمَّهات المؤمنين، وإن اختُصَّت أمُّ المؤمنين عائشة بنت أبي بكر (رضي الله عنها وأرضاها) بالمقدار الأكبر من الإساءة؛ والزَّعم بأنَّ فتنة مقتل ثالث الخلفاء الرَّاشدين، عثمان بن عفَّان (رضي الله عنه وأرضاه) كانت بسبب تهافُت أقاربه من بني أميَّة على المال والسُّلطة؛ ونشْر فرية واهية عن وجود أكثر من نُسخة من المصحف الشَّريف، تخلَّص الصَّحابة منها وأبقوا على النُّسخة الَّتي توافق أهواءهم. ومع كلّ ما تتضمَّنه الرُّواية الأولي من تجاوزات في حقّ سيد الخلق أجمعين (ﷺ) ونسائه وأقرب أصحابه، فقد فازت بجائزة نجيب محفوظ للرُّواية، الَّتي تمنحها وزارة الثَّقافة المصريَّة.
وكما يكشف موقع بوَّابة الأهرام بتاريخ 28 سبتمبر 2018م، تتناول رواية حروب الرُّحماء انقسام المسلمين إلى فريقين بعد وصول الإمام عليّ بن أبي طالب (كرَّم الله وجهه) إلى الخلافة، واقتتال الفريقين في معركتي الجمل وصفِّين، حتَّى حدوث واقعة التَّحكيم بين عليّ ومعاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنه وأرضاه). ويسعى الكاتب إلى تقديم رؤية جديدة للتَّاريخ الإسلامي، استنادًا إلى ما وثَّقته الكتب والبحوث حول انتقال السُّلطة في زمن الصَّحابة، وعلى رأسها “تاريخ الرُّسل والملوك” للطَّبري، و “البداية والنّهاية” لابن كثير، و “الكامل في التَّاريخ” لابن الأثير، و “أنساب الأشراف للبلاذري، و “سير أعلام النُّبلاء” للذَّهبي، و “أُسد الغابة في معرفة الصَّحابة” لابن الأثير، إلى جانب مؤلَّفات أخرى. وتستعرض هذه الدّراسة أهمّ ما جاء في تلك الرُّواية، مع الاستشهاد بمقتطفات منها، طبعة دار الكرمة للنَّشر (2018م).
ملابسات الصّراع المفضي إلى مقتل الإمام عليٍّ
تبدأ أحداث الرُّواية باستعراض حالة عبد الرَّحمن بن ملجم بعد أن قتَل الإمام عليًّا بسيف مسموم، وهي يصلّي في مسجد الكوفة يوم 21 رمضان عام 40 هجريًّا (ه)، ليكون ثالث خليفة للمسلمين يموت قتلًا، بعد عُمر بن الخطَّاب وعثمان بن عفَّان. يُصوَّر بن ملجم وهو في سجنه، مقيَّدًا بالحبال، وتظهر عليه آثار الضَّرب المبرح، بعد أن “وثَب على الأمير الكافر عليّ بن أبي طالب فضرب ترقوته وحطَّمها” (صــ8). لا يشعر ابن ملجم بالنَّدم على ما فعَل، بل كان يفخر بقتل “الأمير المرتدّ”؛ وأراد أن يصلّي الفجر، لولا القيود الَّتي كانت تكبّل قدميه ويديه وعنقه، في إشارة إلى أنَّ النَّزعة إلى القتل مستمدَّة من التَّعاليم الدِّينيَّة، وأنَّ سفْك الدّماء مبرَّر شرعيًّا، طالما كان لدرء فتنة (صــ8). يتعجَّب ابن ملجم من قدرته شبيب بن نجدة الأشجعي الحروري، شريكه في اغتيال الإمام عليّ، على الهرب، معزيًا ذلك إلى جُبنه وعجزه عن إصابة أمير المؤمنين بسلاحه. يلقي الكاتب الضَّوء على أهمّ دافع قاد ابن ملجم إلى قتْل الإمام عليّ، وهو تحريض امرأة تُدعى قطام بنت شجنة التَّميميَّة، وكانت من الخوارج، وقد مات أبوها وأخوها في معركة النَّهروان (عام 38ه)، الَّتي وقعت بين عليّ والخوارج. أرادت قطام التَّميميَّة التَّنفيس عن حقدها تجاه الإمام عليّ؛ فأغرت ابن ملجم بالزَّواج منها، ولكن بشرط أن يقتل عليًّا؛ فوافق ابن ملجم، دون أن يضع في الحسبان ردَّة الفعل المصاحبة لقتله أمير المؤمنين. وكعادته، يتفنن الكاتب في إبراز مفاتن المرأة واستثارة القارئ بألفاظ تخدش الحياء، وتتناسب مع الرُّوايات الجنسيَّة، أكثر من التَّاريخيَّة (صــ11):
حين عَبَر اسم قطام على شفتَي ذاكرته اشتعل جسده كلُّه شوقًا وولعًا. أطَّلعت عليه قطام بوجهها المشرق، وفتنة جمالها الكاسرة الآسرة، فسلبته كلَّ قوَّة وكلَّ حيلة، وصار أمامها قطعة من طين تصنعها على هيئة الطَّير أو هيئة رجل كما تشاء وتتفضَّل وتتكرَّم وتفعل فيه إن أرادت أو أُريدت. أسيعود إليها؟ أيقطف من تفَّاح صدرها أو عنبيته؟ أيشرب من عسل رضابها أو يلمس هضاب عجزيتها أو يهبط تلال فخذيها، أم أنَّ هذه الرَّمية ستحول بينه وبين الحياة، وسيقتلونه لقتْل عليِّ؟ لكنَّ قطام تستحقُّ أن يَقتل من أجلها، وأن يكون دمُ عليٍّ مهرًا لتلك المرأة المهرة.
لم يمت عليٌّ من ضربة سيف ابن ملجم مباشرةً؛ إنَّما ظلَّ يصارع الموت يومين. ويدَّعي الكاتب أنَّ أمير المؤمنين طلَب رؤية ابن ملجم، ليُقتاد من محبسه إلى حضرة عليّ، بينما كان يقرأ القرآن الكريم، ويسترجع الأحداث الفائتة، ويتخيَّل دخوله في علاقة جسديَّة مع قطام. تعود الأحداث إلى حيث انتهى الجزء الأوَّل ببيعة الإمام عليّ، وتقدُّم ابن ملجم لمصافحته، مع توجُّس عليّ منه، وكأنَّما كان يشعر أنَّه قاتله. يتعجَّب ابن ملجم من امتناع طلحة بن عبيد الله والزُّبير بن العوَّام، وهما من العشرة المبشَّرين بالجنَّة، عن مبايعة عليّ، وكأنَّما كانا يرفضان بيعته ويستكثران مقام الخلافة عليه، طمعًا فيه. ويطلق الكاتب سهامه على الصّحابة، متَّهمًا إيَّاهم بالانقسام والتَّنازع فيما بينهم، وبالتَّركيز على المصالح الشَّخصيَّة ولو أضرَّ ذلك بمصلحة الأمَّة، وكذلك بالتَّآمر على عثمان بن عفَّان لموالاته أقاربه من بني أميَّة على حساب سائر المسلمين (صــ21):
سأل ابن ملجم نفسه: أهذا الجمع المجموع في بيت ابن أبي طالب من أمَّة المسلمين ومن الثَّائرين الَّذين خلَّصوا النَّاس من عثمان؛ مُنتهِك الشَّرع وهادم حُكم القرآن، لا يكفونه للبيعة ولأن يقبلَها؟ أهم آحاد النَّاس وعامَّتهم ودهماؤهم بينما الزُّبير وطلحة وابن أبي وقَّاص وابن مسلمة هم السَّادة؟ وإذا كانوا يتنازعون بينهم، وها هم قلوبهم شتَّى، فمَن ينبئ عليًّا أنَّهم رايات الحقِّ دون غيرهم؟ ألم يكن عثمان صاحبهم وحرَّوا ضدَّه وحاصروه بالصَّمت والرِّضا معهم؟ ألا نكفيه ويكفيه مَن يكافئه مِن صحابة رسول الله؟
يصف الكاتب حالة الغيظ الَّتي تملَّكت الزُّبير وابنه عبد الله، ورفْض الأوَّل مبايعة عليّ، في إشارته إلى حياة الرَّغد والدَّعة الَّتي كان ينعم بها الزُّبير في بيت كبير، هو من بين أحد عشر بيتًا للزُّبير “في مدينة رسول الله الَّذي لم يسكن إلَّا غرفة” (صــ22). في إشارة إلى نفاق بعض الصّحابة وانتهازيَّة سلوكهم، يُقبل طلحة على مبايعة الخليفة، مع ذهول مالك الأشتر، المحارب الكوفي الَّذي تولَّى حُكم مصر لبضعة أشهر خلال فترة خلافة عليّ؛ حيث سبق وأن رفَض طلحة اقتراح الأشتر بمبايعة عليّ (صــ25):
كان طلحة قد رأى هذه الحشود تحتضنه وتحيطه وتحاصره وتحشره، فأنهت لجلجة عقله، ونادى عليًّا ليبايعه، وحين بسَط على يده ناحيته مدَّ طلحة يده إليه. لحظتها خبط الكمد قلب الأشتر، فقد رأى يد طلحة المشلولة هي الَّتي تقبض على يد عليٍّ تبايعه. أوَّل ما بُوعيتَ يا عليّ؟
يصدر الكاتب حكمًا مسبقًا على عامَّة المسلمين، متنبّئًا بعصيانهم للإمام عليّ وتمرُّدهم عليه، بما جاء على لسان طلحة من تساؤل “هل سيطيع هؤلاء عليًّا وقد دفعوا يده، ورموا قربته، حين حاول أن يمنح عثمان شربة ماء، وعصوا كلمته؟” (صــ27). ويلاحظ ابن ملجم ذلك السُّلوك الملتوي للصَّحابة، متّخذًا موقفًا مؤيّدًا لعليّ، لكنَّ المحيطين بأمير المؤمنين من المنافقين له والطَّامعين في منصبه يمنعون عن ملازمته لينفردوا به ويفاتحوه في أمر الثَّأر من قتلة عثمان، برغم مشاركتهم هم أنفسهم في حصار بيته وتأييدهم لقتله، كما يدَّعي الكاتب (صــ33):
-يا طلحة لقد حرَّضتَ أنتَ على قتْله قبل غيرك، وصرخ عليك عثمان من شُرفة بيته فلم تجبه، وأَشهد النَّاس على شراكته في حصاره، واشتكى منك، وهذا الَّذي تشترط عليه (قالها وهو يشير إلى عليٍّ) مَن نصح عثمان فخذله، ومَن دفَع عنه فانصاع إلى مروان فأغطس ابن عمِّه في دمه.
صاح الزُّبير وسَط سكون الجالسين بالتَّوتُّر:
-وهل نترك هؤلاء البُغاة قتلة عثمان يمرحون ويجيئون أمامنا ولا نطبِّق عليهم شرع الله؟
يتَّضح أنَّ “تطبيق شرع الله” هو حجَّة الصَّحابة لإلهاء الإمام عليّ عن تدبير أمور الدَّولة بسفك الدّماء والإبقاء على حالة عدم الاستقرار. غير أنَّ الإمام عليًّا يصرُّ على أن تهدأ الأمور وتنتهي حالة الفُرقة والانقسام بين المسلمين، طالبًا من طلحة والزُّبير الكفّ عن تحريضه على الثَّأر لمقتل عثمان في تلك الفترة الانتقاليَّة. يُنصح عليٌ بالإبقاء على معاوية بن أبي سفيان واليًا على الشَّام، وبتعيين طلحة والزُّبير واليين على البصرة والكوفة، لكي يأمن شرَّهم ويتَّقي حسدهم، لكنَّ الإمام يرفض، معربًا عن رفْضه لولاية معاوية في خلافته عثمان، ومعتبرًا الزُّبير وطلحة غير جديرين بالثّقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى