بحوث ودراسات

الملابسات الحقيقيَّة للفتنة الكبرى بين الحقيقة وافتراء “حروب الرُّحماء” 5 من 9

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

دور الخوارج في تجديد الصِّراع

صحيح أنَّ موقعة صفِّين انتهت بإبرام وثيقة التَّحكيم، لكنَّ سببها الأساسي، وهو الاقتصاص من قتلة عثمان، ظلَّ عالقًا. وقبل أن تهدأ ثورة أهل الشّام المطالبين بدم عثمان، اشتعلت صورة جديدة في العراق شعارها ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾، وهو مأخوذ من قول الله تعالى [سورة الأنعام: 57؛ سورة يوسف: 40 و67]. ما حدث هو أنَّ فرقة الخوارج، والَّذين عُرفوا من قبل بالقرَّاء، رفضت موقف الإمام من قبول تحكيم عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري بينه وبين معاوية، برغم عدم وجود مانع شرعي يحرّم ذلك؛ من هنا، قال عليٌّ على شعار الخوارج “كلمة حقّ أريد بها باطل”. ويورد حسَّان (2007م) ما ذُكر في مُسند أحمد (جـ 3، صـ485-486) والمصنَّف (جـ 14، صـ438-439) والسُّنن الكبرى للنَّسائي وصحيح البخاري (3182، 4844)، وغيرها من المصادر الموثوقة، عن رواية بسند صحيح عن حبيب بن أبي ثابت، أنَّ عمرو بن العاص نصَح معاوية، لمَّا اشتدَّ القتال على فرقته وكادت تهلك، بأن يرسل إلى عليّ مصحفًا ويدعوه إلى الاحتكام إلى كتاب الله. وافق عليٌّ، كما تقول رواية بن أبي ثابت، على الفور، على غير رغبة الخوارج، الَّذين أخذوا عليه التَّراجع عن القتال. وما كان من الصَّحابي الأنصاري سهل بن حنيف إلَّا أن ذكَّر تلك الجماعة بما دار بين رسول الله (ﷺ) وعمر يوم الحديبية، وهو، كما جاء في صحيح البخاري (3182):

كُنَّا بصفِّين، فَقَامَ سَهْلُ بنُ حُنَيْفٍ، فَقالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ، فإنَّا كُنَّا مع رَسولِ اللَّهِ ﷺ يَومَ الحُدَيْبِيَةِ، ولو نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا، فَجَاءَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَلَسْنَا علَى الحَقِّ وهُمْ علَى البَاطِلِ؟ فَقالَ: بَلَى. فَقالَ: أَليسَ قَتْلَانَا في الجَنَّةِ وقَتْلَاهُمْ في النَّارِ؟ قالَ: بَلَى، قالَ: فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِينِنَا، أَنَرْجِعُ ولَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بيْنَنَا وبيْنَهُمْ؟ فَقالَ: يا ابْنَ الخَطَّابِ، إنِّي رَسولُ اللَّهِ، ولَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا، فَانْطَلَقَ عُمَرُ إلى أَبِي بَكْرٍ فَقالَ له مِثْلَ ما قالَ للنبيِّ ﷺ، فَقالَ: إنَّه رَسولُ اللَّهِ، ولَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا، فَنَزَلَتْ سُورَةُ الفَتْحِ فَقَرَأَهَا رَسولُ اللَّهِ ﷺ علَى عُمَرَ إلى آخِرِهَا، فَقالَ عُمَرُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَوَفَتْحٌ هُوَ؟ قالَ: نَعَمْ.

ويضيف ابن أبي شيبة في المصنَّف إلى تلك الرُّواية أنَّ عليًّا قبِل التَّحكيم، ورجع عن القتال وأيَّده العامَّة، لكنَّ جماعة الخوارج أبت ذلك، وتوجَّهوا إلى قرية حروراء القريبة من الكوفة. يتبيَّن من تلك الرُّواية، غيرها من الرُّوايات المؤيّدة لما جاء فيها، أنَّ جماعة الخوارج نشأت في أعقاب موقعة صفِّين، الَّتي كانت من توابع الفتنة الَّتي أشعلتها جماعة عبد الله بن سبأ. وبحسب الرُّوايات المعتدُّ بها، تراوَح عدد قوَّات الخوارج ما بين 12 و20 ألفًا، وقد سارَع هؤلاء بإعلان كُفر الإمام عليّ ووجوب الخروج عليه، بل وكفَّروا كلَّ مسلم يقبل بما فعله عليٌّ في قضيَّة التَّحكيم. أمَّا عن موقف عليّ، فكان أنَّه أرسل إلى تلك الجماعة عبد الله بن عبَّاس؛ ليحاورهم ويعرف سبب نقمتهم على وليّ الأمر. وكما أورد النَّسائي في الخصائص (185) والسُّنن الكبرى (جـ5، صـ165-167)، كان ردُّ تلك الجماعة هو أنَّهم أخذوا على عليّ ثلاثة أمور. الأوَّل هو أنَّ عليًّا كفَر، بأن قبِل أن يكون الحُكم لابن العاص وأبي موسى، بينما يقول الله تعالى ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ [سورة الأنعام: 57؛ سورة يوسف: الآية 40 و67]. ولعلَّ أقيم ردّ على ذلك الزَّعم هو ما يقول ابن القيّم في الرُّوح (صــ63)، عن سبب انحراف الجماعات الضَّالة المحسوبة على الإسلام زورًا: “وهل أوقع القدريَّة والمرجئة والخوارج والمعتزلة والجهميَّة والرَّوافض وسائر طوائف أهل البدع فيما وقعوا فيه إلَّا سوء الفهم عن الله ورسوله”. أمَّا المأخذ الثَّاني فهو أنَّ الإمام قاتَل ولم يسبِ أو يغنم. وأمَّا الثَّالث، فهو أنَّ عليًّا أصبح أمير الكافرين، وليس أمير المؤمنين، بعد أن وافق على محو صفة “أمير المؤمنين” من وثيقة التَّحكيم.

ردَّ ابن عبَّاس على المأخذ الأوَّل بقول الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ [سورة المائدة: 95]، وعلى الثَّاني بقول الله تعالى ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ [سورة الأحزاب: 6]، متسائلًا عن علَّة السَّبي والاغتنام من أمّ المؤمنين عائشة في موقعة الجمل. أمَّا ردُّ ابن عبَّاس على المأخذ الثَّالث، فكان بالإشارة إلى ما حدث يوم الحديبية، لما أمَر النَّبيُّ (ﷺ) عليًّا بكتابة “اكتُبْ هذا ما صالَح عليه محمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ”، بعد أن رفَض سهيل بن عمرو كتابة “اكتُبْ هذا ما صالَح عليه محمَّدٌ رسولُ اللهِ ﷺ”، قائلًا “لو نعلَمُ أنَّك رسولُ اللهِ لاتَّبَعْناك ولم نُكذِّبْك اكتُبْ بنَسَبِك مِن أبيك”، كما جاء في صحيح ابن حبَّان (4870)، عن أنس بن مالك. اقتنع كثيرون من الحاضرين بحُجَّة ابن عبَّاس، ورجعوا عن موقفهم، ولكن بقي نفرٌ منهم على ما كانوا عليه. وقد أخبر الصادق المصدوق (ﷺ)، كما يروي أبو سعيد الخدري: “إنَّه سَيَخْرُجُ مِن ضِئْضِئِ هذا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ لَيِّنًا رَطْبًا وَقالَ: قالَ عُمَارَةُ: حَسِبْتُهُ قالَ: لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ”، وهو حديث أخرجه البخاري (7432)، وجاء في صحيح مسلم (1064). وما يؤكّد صحَّة ذلك الموقف من الخوارج، ما تنبَّأ به (ﷺ)، وجاء في صحيح مسلم (1066):

يَخْرُجُ قَوْمٌ مِن أُمَّتي يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ، ليسَ قِرَاءَتُكُمْ إلى قِرَاءَتِهِمْ بشيءٍ، وَلَا صَلَاتُكُمْ إلى صَلَاتِهِمْ بشيءٍ، وَلَا صِيَامُكُمْ إلى صِيَامِهِمْ بشيءٍ، يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ يَحْسِبُونَ أنَّهُ لهمْ وَهو عليهم، لا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإسْلَامِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لو يَعْلَمُ الجَيْشُ الَّذينَ يُصِيبُونَهُمْ، ما قُضِيَ لهمْ علَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ ﷺ، لَاتَّكَلُوا عَنِ العَمَلِ، وَآيَةُ ذلكَ أنَّ فيهم رَجُلًا له عَضُدٌ، وَليسَ له ذِرَاعٌ، علَى رَأْسِ عَضُدِهِ مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْيِ، عليه شَعَرَاتٌ بيضٌ فَتَذْهَبُونَ إلى مُعَاوِيَةَ وَأَهْلِ الشَّامِ وَتَتْرُكُونَ هَؤُلَاءِ يَخْلُفُونَكُمْ في ذَرَارِيِّكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَاللَّهِ، إنِّي لأَرْجُو أَنْ يَكونُوا هَؤُلَاءِ القَوْمَ، فإنَّهُمْ قدْ سَفَكُوا الدَّمَ الحَرَامَ، وَأَغَارُوا في سَرْحِ النَّاسِ، فَسِيرُوا علَى اسْمِ اللَّهِ…

ويشير باقي الحديث ذاته إلى أنَّ الإمام عليًّا أمَر بالبحث عن الرَّجل الَّذي “له عَضُدٌ، وَليسَ له ذِرَاعٌ، علَى رَأْسِ عَضُدِهِ مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْيِ، عليه شَعَرَاتٌ بيضٌ”؛ ولمَّا وُجد، كبَّر عليٌّ وقال: “صَدَقَ اللَّهُ، وَبَلَّغَ رَسولُهُ”. وجاء في صحيح مسلم (1064) حديث آخر يؤيّد خروج حملة عليّ لقتال الخوارج في النَّهروان، حيث يروي أبو سعيد الخدري أنَّ النَّبيَّ (ﷺ) قال “تَكُونُ في أُمَّتي فِرْقَتانِ، فَتَخْرُجُ مِن بَيْنِهِما مارِقَةٌ، يَلِي قَتْلَهُمْ أوْلاهُمْ بالحَقِّ”. ظنَّ الإمام عليٌّ أنَّه استأصل شأفة الخوارج في معركة النَّهروان (38ه)، الَّتي قاد جيش الخوارج فيها أميرهم، عبد الله بن وهب الرَّاسبي. ويتطرَّق إبراهيم عيسى في حروب الرُّحماء إلى استقطاب الخوارج لعبد الرَّحمن بن ملجم، وتآمرهم على قتْل عليّ في دار ابن وهب، ولكن تنتهي أحداث الرُّواية، وهي ثاني أجزاء ثلاثيَّة القتلة الأوائل، دون إشارة إلى تفاصيل معركة النَّهروان ومقتل الإمام عليّ بعدها؛ ولعلَّ الكاتب يؤجّل ذلك إلى الجزء الأخير في السّلسلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى