بحوث ودراسات

الصّارم البتّار في الردّ على أوهام رياض درار (1)

د. حسين محمد الكعود

دكتوراه في العقيدة الإسلامية
عرض مقالات الكاتب

بسم الله الرحمن الرحيم..
ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وضفادع مسيلمة الكذاب ونقيقها الذي يصدع بالرؤوس تبث أحابيلها وأباطيلها تشير لحضيض المستنقع الذي تسكن، وتفاهة الفم وما يلفظ.
إنما مثلها كمثل سام أبرص الذي نفخ مع قومه فأورد نفسه النار التي ظن أنه نجا منها.
وقد ضرب القرآن الكريم مثلاً لهم بقوله الخالد: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ۚ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ۖ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ {البقرة: 17-20}.
نعم؛ مازالت الأقلام المأجورة والعيون المنبهرة بزيف الغرب الواهم تحت مسمى الحضارة والحداثة، تخط بحبرها المسموم على سطور النقاء زيفها وكذبها الذي أعمى البصائر حد التردي في وحول شهواتها النجسة تتضمخ به، لتعلم العالم المسلم الطهارة من منظرها البائس المشوه.
ولقد أطلعت أساتذتي على فحوى الخطاب الذي طلع به علينا المأفون ـــــ المدعو رياض ضرار المنظر السياسي لتنظيم قسد المتطرف ــــ بوساوس وأوهام خالفت الحقيقة وشوهت التاريخ وراحت تجتر مترعات صدور حاقدة على الإسلام وأهله، متعاميةً عن دولة الدجال الأكبر(النظام العالمي بعد الخلافة العثمانية)، وسوق ابليس الرائجة في حنايا زوايا الأفكار الضيقة من أمثال هؤلاء، في العالم الغربي الذي أذهبت حضارته الورقية عقول من يتفلقمون بسفسافهم الساقط.
فكان رد أساتذتنا الكرام: “”مقالة لا تستحق القراءة، وإن استحسنتها قلوب الزائغين””.
فاستأذنت مقامهم العالي علماً وقدراً أن أرد على ما كتب هذا المسكين حسبة لله، وتنبيهاً للقارئ أن يغتر بما كُتب بقلم الجهل زوراً وبهتاناً بثوب العلم.
وسوف أتبع في ردي على نص الكاتب فقرة فقرة لنرد على كل واحدة منها على حدى والله المستعان.
نص المقالة:
(أجمل ماقرأت عن الدعشنه وأصولها).
عنوان المقالة أجمل ما قرأت: يشير بصيغة التفضيل على مدى الانبهار الكبير بجمال ما كتبه ليتسلل للقارئ شعور أولي وفق الراحة النفسية التي تحتم على من قرأها أن يعجب بها وألا يسمح لنفسه بالاعتراض عليها قيد أنملة، وذلك خشية ألا يقع في محظور من حالين اثنين أحلاهما مر:
أـــ فإن اعترض فهو جاهل لأنه لم يرتقي إلى مستوى الذوق العالي الذي وصل إليه الكاتب حيث استشعر الجمال كله في هذه القراءة.
ب ـــ إن لم يعترض فهو من المؤمنين بما ذهب إليه الكاتب المقتنعين أو الذين يجبرون أنفسهم على هذه القناعة خشية أن يشار إليهم أن مستواهم العملي والثقافي والحداثي في مستوى غير مقبول وهذا عيب أن يتهم به هؤلاء.
ثم يتابع مقالته قائلاً:
(1-الدعشنة ليست ظاهرة غير طبيعيَّة أو مؤامرة صهيونيَّة أميركيَّة ماسونيَّة صليبيَّة وسائر الأسباب الوهميَّة التي تناسب عقول البسطاء من النَّاس).
يشير الكاتب إلى مصطلح ظهر علينا في الثورة السورية المباركة، والتي ما زالت تتجرع من هذا المصطلح من اصطنعه ودعمه مرار الأيام بطعم الحنظل ولون الدماء.
مصطلح داعش: (اختصار للفظة: دولة الإسلام في العراق والشام)، الذي اصطنعته المخابرات العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة ونفذتها إيران الصفوية وذيل الكلب في دمشق ومن سار بركبه، والذي انخدع به ثلة من الشباب على جناح العاطفة الدينية. والتي يحاول الكاتب بكل صفاقة أن يبرئ ساحة الماسونية العالمية والصليبية والصهيونية والصفوية من صناعتها، كما صنعت منذ زمن وبتاريخ متقارب القاعدة في أفغانستان، وحزب العمال الكردستاني النصيري الشيوعي، لتستخدمه في كل زمان لضرب الإسلام وأهله والحفاظ على عدم استقرار المنطقة برمتها.
أما اتهام البسطاء من الناس أنهم هم من يتهمون صناع المؤامرة، فهذا دليل علو فهم من هؤلاء البسطاء على كشف هذه المؤامرة المفضوحة.
ثم يتابع كلامه الباهت المزور قائلاً:
2(- الدعشنة امتداد لعصور الانحطاط التي نعيشها منذ أكثر من عشرة قرون، وإفراز طبيعيٌّ لمجتمعات تحتل فيها الثقافة والفكر والمعرفة العقلانيَّة والتنوير المَرْتَبَةَ الأخيرة من حيث الاهتمام).
الدعشنة في ذهن الكاتب وما يروج له: الإرهاب والعنف والتطرف والجهل والتخلف والذي يسافر بها بعيداً عبر التاريخ لينسبها إلى الإسلام زوراً وبهتاناً.
وما هي عصور الانحطاط التي يشير إليها الكاتب، فإن كانت العصور المظلمة في أوربا، فقد صدق، حيث كانت الأمة الإسلامية منارة الحضارة الإنسانية السامقة التي أضاءت للعالم طريق هدايتها ونجاحها وفلاحها.
فمنطلق كلامنا وحديثنا عن الحضارة والانحطاط ينطلق من منطلق الأمة الإسلامية جمعاء منذ صدر الإسلام حتى انهيار الخلافة العثمانية منذ قرن من الزمن على يد أعداء الإسلام ممن يتزعمون ما يسمى الحضارة الغربية اليوم والتي أبحرت فيها سفن هؤلاء المخدوعين بها ممن ألقى قمامته على شاطئ الطهر والعفاف.
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى: إن الإسلام عقيدة استعلاء، من أخص خصائصها أنها تبعث في روح المؤمن بها احساس العزة من غير كبر، وروح الثقة في غير اغترار، وشعور الاطمئنان في غير تواكل.
وأنهـا تشعر المسلمين بالتبعية الإنسانية الملقاة على كواهلهم، تبعـة الوصاية على هذه البشرية في مشارق الأرض ومغاربها، وتبـعـة القيادة في هذه الأرض للقطعان الضالة، وهدايتها إلى الدين القيم، والطريق السوي، وإخراجها من الظلمات إلى النور بما آتاهم الله من نور الهدى والفـرقـان يقول الله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾. {آل عمران:110}.
هذه الأمة الوسط التي امتدحها رب العزة جلَّ وعلا بقوله: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ﴾ {البقرة:143}.
أشرقت على الأرض أنوار الإسلام الأولى، فرسمت الصورة لهذا العالم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، من الهند والصين إلى فارس والروم، صـورة المجتمع وصورة الضـميـر في هذه الدنيـا العـريضة، في الجماعات التي تظلها الديانات السماوية، كـاليهـودية والمسيحية، والتي تظلها الديانات الوثنية، كالهندوكية والبوذية والزرادشتية. وما إليها.
إنها صورة جامعة تعرض رقعة العالم وتصفها وصفاً بيناً، لا يعتسف المنصف فيه، ولا يستبـد به، إنما يشرك معـه الباحثين والمؤرخين من القدامى والمحدثين، ممن يدينون بغير الإسلام، فلا شبهة في أن يكونوا مغرضين له، وللدور الذي أداه في ذلك العالم القديم إنه يصف العالم تسيطر عليه روح الجاهلية، ويتعفن ضميره، وتأسن روحه، وتختل فيه القيم والمقاييس، ويسوده الظلم والعبودية، وتجتاحه موجة من الترف الفاجر والحرمان التاعس، وتغشاه غاشية من الكفر والضلال والظلام، على الرغم من الديانات السماوية، التي كانت قد أدركها التحريف، وسرى فيهـا الضعف، وفقدت سيطرتها على النفوس واستحالت جامدة لا روح فيها وبخاصة المسيحية.
فرسالة العالم الإسلامي هي الدعوة إلى الله ورسوله والإيمان باليوم الآخر وجائزته هي الخروج من الظلمات إلى النور، ومن عبادة الناس إلى عبادة الله وحده والخروج من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
وقد ظهر فضل هذه الرسالة، وسهل فهمها في هذا العصر أكثر من كل عصر، فقد افتضحت الجاهلية، وبدت سوأتها للناس، واشتد تذمر الناس منها، فهذا طور انتقال العالم من قيادة الجاهلية إلى قيادة الإسلام، لو نهض العالم الإسلامي، واحتضن هذه الرسالة بكل إخلاص وحماس وعزيمة، ودان بها وكالرسالة الوحيدة التي تستطيع أن تنقذ العالم من الانهيار والانحلال».
لقد دمرت الآلة العسكرية الغربية معالم الحضارة الإسلامية، ملقية اللوم عليها بما يسمى بالانحطاط، وهذا افتئات وكذب على الحقيقة والواقع.
لقد تقاسم العالم الإسلامي جهده في حمل المسؤولية لتصل راية العدل خافقة في كل الأصقاع.
أما عن أعمار الدول ونشأتها وقوتها فهذه سنة الله في الكون، فيما يداوله بين الناس. لقد مضى الأوربيون يؤرخون للعالم كله من زاوية النظر الغربية، متأثرين بثقافاتهم المادية، وفلسفتهم المادية، ومتأثرين كذلك بالعصبية الغربية والعصبية الدينيـة – شـعـروا بذلك أم لم يـشـعـروا – ومن ثم وقعت في تاريخـهم أخطاء و انحرافات، نتيجة إغفالهم لقيم كثيرة في هذه الحياة، لا يستقيم تاريخ الحياة ولا يصح تفسير الحوادث والنتائج بدونها، ونتيجة عصبيتهم التي تجعل أوربا في نظرهم هي محور العالم ومركزه دائماً، ولإغفالهم العوامل الأخرى التي أثرت في تاريخ البشرية، أو التهوين من شأنها إذا لم يكن مصدرها هو أوربا، ولقد درجنا نحن على أن نتلقف التاريخ من أيدى أوربا كما نتلقف كل شيء آخر نتلقفه بأخطائه تلك أخطاء في المنهج بإغفال قـيم كثيرة وعوامل كثيرة، وأخطاء في التصوير نتيجة النظر من زاوية واحدة للحياة البشرية، وأخطاء في النتائج، تبعاً للأخطاء المنهجية والتصويرية.
يقول الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله تعالى في كتابه: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين الصفحة 24: إن تشـويه التاريخ الإسلامي والنظر إليه من زاوية ضيقة، ومركب النقص الذي أصيب به الجيل الجديد المثقف، كـان يعوق كثيراً من الباحثين عن أن يربطوا قضية المسلمين بقضية العالم وبقضية الإنسانية، أين المسلمون من القيادة العالمية؟ المسلمـون فقراء، المسلمون ضعفاء، المسلمون محكومون من الغرب، المسلمون خاضعون للثورات الحديثة، فهل يصح أن يربط مصير العالم أو من الإنسانية بمصير المسلمين وواقعهم؟ لا! إن كثيراً من الناس لم يكونوا يصدقون في ذلك الحين أن المسلمين لهم من الأهمية والخطر والتأثير ومن المكانة، ما يؤهلهم لهذا البحث، ويسوغ لمؤلف أن يؤلف كتاباً مصير فيبحث عن مدى خسارة العالم الإنساني والعالم المعاصر بانحطاط المسلمين.
لقد دارت دفة القيادة إلى يد النظام العالمي ما بعد الخلافة العثمانية والذي خلف وراءه الحروب الدموية التي خلفت قريب ال80 ثمانين مليون إنساناً، ثم ما لبثت تصطنع الحروب هنا وهناك وتتدخل بشؤون العالم، حتى تدخلت بالجينات المورثات والزراعة والصناعة، طارت صواريخهم في الفضاء لكن السماء تلوثت، وغاصت سفنهم البحار ولكن المحيطات تلوثت، ثم تدخلوا يعيثون فساداً في كل الشؤون حتى الأسرة، فأحلوا الإجهاض والمثلية واندثرت الأخلاق بصبغة القانون الجريء حتى على قوانين الله سبحانه وتعالى.
فهل هذه الحضارة التي يلهث وراءها الكاتب ينوح ويندب حظه أنه وقومه من المنحطين عنها؟؟؟؟؟
وفي اتِّصال الحضارة الإسلاميَّة بالغرب الأوروبي المسيحي خلال العصور الوسطى -والتي كانت تمرُّ خلالها أوروبا بفترة ظلامٍ دامس- كانت الأندلس هي معبر الحضارة الإسلاميَّة الرئيس، والجسر الأهمُّ في عمليَّة انتقال الحضارة الإسلاميَّة إلى أوروبا، وذلك في شتَّى المجالات العلميَّة، والفكريَّة، والاجتماعيَّة، والاقتصاديَّة، وقد بقيت الأندلس -وهي جزءٌ من أوروبا- مُدَّة ثمانية قرون (92-897هـ=711-1492م) منبر إشعاع حضاري خلال وجود المسلمين فيها، حتى أثناء ضعفها السياسي، وظهور دول ممالك الطوائف، وذلك بوساطة جامعاتها، ومدارسها، ومكتباتها، ومصانعها، وقصورها، وحدائقها، وعلمائها، وأدبائها، حتى غدتْ محطَّ أنظار الأوروبِّيِّين التي كانت على صلاتٍ وثيقةٍ ومستمرَّةٍ ببلدانهم.
فما إن استقرَّ المسلمون في إسبانيا حتى تَفَرَّغُوا للعلم، وانصرفوا إلى العناية بالعلوم والآداب والفنون، وقد فاقوا في ذلك ما وصل إليه إخوانهم في المشرق من تَقَدُّمٍ، وابتكروا الجديد والعظيم في كل العلوم؛ وهو ما أتاح لأوروبا مورداً عَذْباً ظَلَّت تنهل منه منذ أواخر القرن الحادي عشر الميلادي حتى النهضة الإيطاليَّة في القرن الخامس عشر.
وقد كان لسياسة التسامح الإسلامي أثرها العظيم في نفوس أهل الذِّمَّة؛ من اليهود والنصارى؛ حيث أقبل المستعربون الإسبان على تعلم اللغة العربية واستخدامها في حياتهم، بل فَضَّلُوها على اللاتينية، كما تتلمذ كثير من اليهود على أساتذتهم العرب.
وقد نشطت حركة الترجمة عن العربية نشاطاً كبيراً، وخاصَّةً في مدينة طليطلة خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، وكانت الترجمة تتمُّ من العربيَّة إلى الإسبانيَّة، ومِنْ ثَمَّ إلى اللاتينيَّة، أو من العربيَّة إلى اللاتينيَّة مباشرة، ولم تقتصر الترجمة على مؤلَّفات العلماء العرب في كلِّ مناحي المعرفة فحسب، وإنما شملت المؤلَّفات الإغريقيَّة الكبرى التي كانت قد تُرْجِمَتْ في المشرق قبل ذلك بقرنين؛ فتُرْجِمَتْ بعضُ مؤلَّفات اليونانيِّين مثل: كتب جالينوس، وأبقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وإقليدس، وغيرهم.
وكان من أشهر مترجمي طليطلة: جيرارد الكريموني ويسمَّى الطليطلي، قَدِمَ إلى طليطلة من إيطاليا سنة (1150م)، وتُنْسَبُ إليه ترجمة ما يقرب من مائة كتاب، بينها واحد وعشرون كتابًا طِبِّيًّا، منها: المنصوري للرازي، والقانون لابن سينا، ويبدو أن بعضها من إنتاج تلاميذه بإشرافه، وبعضها بالاشتراك مع غيره خاصَّة (غالب GALIPUS) وهو مستعرب.
وقام بالترجمة كذلك في القرن الثاني عشر إسبانيُّون، وآخرون قَدِموا إلى إسبانيا، ثم أنشأ ألفونسو العاشر ملك قشتالة (1252-1284م) عددًا من مؤسَّسات التعليم العالي، وشجع الترجمة من العربية إلى اللاتينية، وأحيانًا إلى اللغة القشتالية.
يقول سارتون: «حَقَّقَ المسلمون -عباقرة الشرق- أعظم المآثر في القرون الوسطى، فكُتِبَتْ أعظمُ المؤلَّفات قيمة، وأكثرها أصالة، وأغزرها مادَّة باللغة العربيَّة، وكانت من منتصف القرن الثامن حتى نهاية القرن الحادي عشر لغةَ العلم الارتقائية للجنس البشري، حتى لقد كان ينبغي لأيِّ كائنٍ إذا أراد أن يُلِمَّ بثقافة عصره وبأحدث صُوَرِهَا أن يَتَعَلَّم اللغة العربية، ولقد فعل ذلك كثيرون من غير المتكَلِّمين بها، وأعتقد أننا لسنا في حاجة أن نُبَيِّنَ منجزات المسلمين العلميَّة في الرياضيَّات، والفيزياء، وعلم الفلك، والكيمياء، والنبات، والطبِّ، والجغرافيا».
وعن مكانة قرطبة خاصَّة في انتقال الحضارة الإسلامية يقول جوان براند تراند جون: «إن قرطبة التي فاقت كلَّ حواضر أوروبا مدنيَّةً -أثناء القرن العاشر- كانت في الحقيقة محطَّ إعجاب العالم ودهشته، كمدينة فينيسيا في أعين دول البلقان، وكان السياح القادمون من الشمال يسمعون بما هو أشبه بالخشوع والرهبة عن تلك المدينَة؛ التي تحوي سبعين مكتبة، وتسعمائة حمَّام عمومي؛ فإنْ أدركتِ الحاجةُ حُكَّام ليون أو النافار أو برشلونة إلى جَرَّاحٍ، أو مهندس، أو معماري، أو خائط ثياب، أو موسيقي فلا يتَّجِهُون بمطالبهم إلَّا إلى قرطبة».
ويؤكِّد المفكر ليوبولد فايس أثر قرطبة في التدشين لعصر النهضة قائلًا: «لسنا نبالغ إذ قلنا: إنَّ العصر العلمي الحديث الذي نعيش فيه لم يُدَشَّن في مدن أوروبا، ولكن في المراكز الإسلاميَّة؛ في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة».
وحول الأندلس بصفةٍ عامَّة كمَعْبَر لاتصال الحضارة الإسلامية بالغرب وانتقالها إليه تقول زيجريد هونكه: «ولم تكن جبال البرانس لتمنع تلك الصلات، ومن هنا وجدت الحضارة العربية الأندلسية طريقها إلى الغرب».
وتضيف قائلة: «وقد حمل مشعل الحضارة العربية عَبْرَ الأندلس ألوفٌ من الأسرى الأوروبيين، عادوا من قرطبة وسرقسطة، وغيرها من مراكز الثقافة الأندلسية، كما مثَّل تجار ليون وجنوا والبندقية ونورمبرج دور الوسيط بين المدن الأوروبية والمدن الأندلسية، واحتكَّت ملايين الحجاج من المسيحيين الأوروبيين في طريقهم إلى سنتياجو بالتُّجَّار العرب والحجاج المسيحيين القادمين من شمال الأندلس، كما أسهم سيل الفرسان، والتجار، ورجال الدين المتدفِّقين سنويّاً من أوروبا إلى إسبانيا في نقل أسس الحضارة الأندلسية إلى بلادهم، وحمل اليهود من تُجّار، وأطباء، ومتعلِّمِينَ ثقافة العرب إلى بلدان الغرب، كما اشتركوا في أعمال الترجمة بمدينة طليطلة، ونقلوا عن العربية عددًا كبيرًا من القصص والأساطير والملاحم».
يقول المستشرق سيديو: وإذا بحثنا فيما اقتبسه اللاتين من العرب في بدء الأمر وجدنا أن جربرت الذي أضحى بابا باسم سافستر الثاني أدخل إلينا بين سنة (359هـ=970م) وسنة (369هـ/980م) ما تَعَلَّمَه في الأندلس من المعارف الرياضية، وأن أوهيلارد الإنجليزي طاف بين سنة (493هـ=1100م) وسنة (522هـ=1128م) في الأندلس ومصر فتَرْجَم من العربية كتاب (الأركان) لإقليدس، الذي كان الغرب يجهله، وأن أفلاطون التيقولي ترجم من العربية كتاب (الأُكَر) لثاذوسيوس، وأن رودلف البروجي ترجم من العربية كتاب (الجغرافيا في المعمور من الأرض) لبطليموس، وأن ليونارد البيزي ألَّف حوالي سنة (596هـ=1200م) رسالة في الجبر الذي تَعَلَّمه من العرب، وأن كنيانوس النبري ترجم عن العرب في القرن الثالث عشر كتاب إقليدس ترجمة جيدة شارحًا له، وأن قيتليون البولوني ترجم كتاب (البصريات) للحسن بن الهيثم في ذلك القرن، وأن جيرارد الكريموني أذاع في ذلك القرن أيضًا علم الفلك الحقيقي المتين بترجمته (المجسطي) لبطليموس، و(الشرح) لجابر… إلخ، وفي سنة (648هـ=1250م) أَمَرَ الأذفونش القشتالي بنشر الأزياج الفلكية التي تحمل اسمه، وإذا كان روجر الأول قد شجَّع على تحصيل علوم العرب في صقلية ولا سيَّما كتاب الإدريسي، فإن الإمبراطور فردريك الثاني لم يَبْدُ أقلَّ حضًّا على دراسة علوم العرب وآدابهم، وكان أبناء ابن رشد يُقِيمُون ببلاط هذا الإمبراطور؛ فيُعَلِّمُونَه تاريخ النباتات والحيوانات الطبيعي.
وعن تأثير اللغة العربية في اللغات الأوروبية يقول ديتر ميسنر: إن تأثير العربية لغة الطبقة العليا في اللغات المحكية في شبه الجزيرة الأيبيرية قد أضفى على اللغات القشتالية والبرتغالية والقطلونية مكانة متميزة بين اللغات الرومانسية… ولم تقتصر التأثيرات العربية على شبه الجزيرة الأيبيرية وحسب، بل إنها كانت واسطة لنقلها إلى لغات أخرى كالفرنسية.
أمَّا في ميدان القوانين والتشريع فقد كان لاتصال الطلاب الغربيين بالمدارس الإسلامية في الأندلس وغيرها أثر كبير؛ فقد نقلوا مجموعة من الأحكام الفقهية والتشريعية إلى كُلِّ لغاتهم، ولم تكن أوروبا في ذلك الحين على نظام مُتْقَنٍ ولا قوانين عادلة، يقول العلامة سيديو[13]: «والمذهب المالكي هو الذي يستوقف نظرنا على الخصوص لِمَا لنا من الصلات بعرب إفريقية، وعهدت الحكومة الفرنسية إلى الدكتور بيرون في أن يُتَرْجِمَ إلى الفرنسية كتاب (المختصر في الفقه) للخليل بن إسحاق بن يعقوب المتوفَّى سنة (776 هـ=1374م)».
بل إن الحضارة الإسلامية شاركت في قوانين أوروبا ذاتها؛ وفي ذلك يقول المؤرِّخ الإنجليزي (ويلز[15] في كتابه: (ملامح تاريخ الإنسانية): «إن أوروبا مَدِينَةٌ للإسلامِ بالجانب الأكبر من قوانينها الإدارية والتجارية.
وقِس على ذلك في المجالات كافة الفنية والثقافية والأدبية وما شابه ذلك.
وهكذا كانت الأندلس مركزاً مهمّاً من مراكز الحضارة الإسلاميَّة، وكانت من أهمِّ معابر انتقالها إلى أوروبا. وما أن أفل نجم الحضارة في الأندلس حتى بزغت شمسها في سماء الأستانة ـــ إسلامبول ــــ على يد السلطان المجاهد محمد الفاتح رحمه الله تعالى.
والعصر الذهبي الإسلامي الذي يمثل حلقة أساس في سلسلة الحضارة الإنسانية التي قامت على عدل الإسلام؛ وهذه الفترة يعود تاريخها إلى من القرن الثامن إلى القرن الثالث عشر الميلادي، وقد بدأت هذه الفترة في عهد الخليفة العباسي؛ هارون الرشيد، فقد كانت مكانة العلم، والعلماء كبيرة، حيث تم تكليف العلماء من كافة أنحاء العالم، بجمع وترجمة كل المعرفة في العالم إلى اللغة العربية، وكان هذا بعد افتتاح بيت الحكمة في بغداد.
العصر الذهبي الإسلامي، كان حيث حكم العالم الإسلامي العديد من الخلفاء، والعلماء، كما ازدهرت التنمية الاقتصادية، والثقافية، حيث كانت دمشق والقاهرة، وبغداد، وقرطبة ــــ العواصم الإسلامية ــــ تعتبر المراكز الفكرية الرئيسية لمختلف العلوم، والطب، والفلسفة، والتعليم.
لقد استطاع العرب استيعاب الحضارات التي قاموا بغزوها، بما في ذلك الحضارات اليونانية، والفارسية، والرومانية، والهندية، والصينية، والمصرية، وكذلك الحضارة الفينيقية القديمة، كما استطاعوا استعادت المعرفة السكندرية الرياضية، والهندسية، والفلكية الخاصة، بإقليدس، وبطليموس
حيث قام العالم محمد بن موسى الخوارزمي، بالعمل على تطوير علم الجبر بشكل كبير في نصه التاريخي، كتاب الجبر والمقبلة، كما انه كان مسؤولاً أيضًا عن إدخال الأرقام العربية، ونظام الترقيم الهندوسي – العربي خارج شبه القارة الهندية.
أما في فرع الرياضيات الخاص بالتفاضل والتكامل، قام العالم الهازن باكتشاف صيغة الجمع للقوة الرابعة، عن طريق استخدام طريقة قابلة للتعميم بسهولة من أجل تحديد مجموع أي قوة متكاملة، ولعل ما ينعم به العالم اليوم من ثورة معلوماتية مدينة لهذا الجيل الكبير من العلماء المسلمين.

يتبع…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى