مختارات

كيف تحدثت سورة البقرة عن بني إسرائيل وتاريخهم؟

د. علي محمّد الصلابيّ

عرض مقالات الكاتب

سورة البقرة أطول سورة في القرآن، وهي مدنية، وتُعنى كغيرها من السور المدنية بالتشريع المنظم لحياة المسلمين في المجتمع الجديد بالمدينة، مجتمع الدين والدولة معاً، فلا يتفاضل إحداهما على الآخر، وإنما هما متلازمان تلازم الجسد والروح، لذا كان التشريع المدني قائماً على تأصيل العقيدة الإسلامية، ومبدؤها الإيمان بالله وبالغيب وبأن مصدر القرآن هو الله عزّ وجل، والاعتقاد الجازم بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء السابقين، وبأن العمل الصالح ترجمان ذلك الإيمان ويتمثل بعقد صلة الإنسان مع ربه بواسطة الصلاة ويتحقق أصول التكافل الاجتماعي بواسطة الإنفاق في سبيل الله عزّ وجل. [التفسير المنير، الزحيلي، 1/72].

  • مواجهة اليهود للدعوة النبوية في المدينة كما جاء في آيات سورة البقرة
    تحدثت السورة عن صفات المؤمنين والكافرين والمنافقين لعقد مقارنة بين أهل النجاة وبين أهل الدمار والهلاك، كما يقتضي التحدث عن قدرة الله عزَّ وجلَّ ببَدْءِ الخَليقة وتكريم آدم أبي البشر بسجود الملائكة وترتيب الـمَولى ما حدث معه وزوجه في الجنة، ثم الهبوط إلى الأرض. [التفسير المنير، الزحيلي، 1/73].
    وفي هذه الآيات الكريمة من سورة البقرة كان الحديث عن بني إسرائيل أولئك الذين واجهوا الدعوة في المدينة مواجهة مُنْكَرة، وقاوموها مقاومة خفية وظاهرة، وكادوا لها كيداً موصولاً، لم يفتُر لحظة منذ أن ظهر الإسلام بالمدينة، وتبين لهم أنه في طريقه إلى الهيمنة على مقاليدها وعزلهم عن القيادة الأدبية والاقتصادية التي كانت لهم، منذ وحَّد الأوس والخزرج، وسَدَّ الثَّغَرات التي كانت تنفَذ منها يَهُودُ، وشرع لهم منهجاً مستقلاً يقوم على أساس الكتاب الجديد.
    هذه المعركة التي شنّها اليهود على الإسلام والمسلمين منذ ذلك التاريخ البعيد لم يَخْبُ أُوارُها حتى اللحظة الحاضرة بالوسائل نفسِها وبالأساليب نفسِها، لا يتغير إلَّا شكلًها، أمَّا حقيقتها فباقيةٌ، وأما طبيعتها فواحدة، وذلك على الرغم من أن العالم كله كان يطاردهم من جهة إلى جهة، ومن قرن إلى قرن، فلا يجدون لهم صدراً حنوناً إلا العالم الإسلامي المفتوح الذي ينكر الاضطهادات الدينية والعنصرية، ويفتح أبوابه لكل مسالم لا يؤذي الإسلام، ولا يكيد للمسلمين.
    ولقد كان المنتظر أن يكون اليهود في المدينة هم أول من يؤمن بالرسالة الجديدة، ويؤمن بالرسول الجديد، مذ كان القرآن يصدق ما جاء في التوراة في عمومه، ومذ كانوا هم يتوقعون رسالة هذا الرسول، وعندهم أوصافُه في البشارات التي يتضمَّنُها كتابهم. وهذا الدرس هو الشطر الأول في هذه الجولة الواسعة مع بني إسرائيل، بل هذه الحملة الشاملة لكشف موقفهم وفضح كيدهم بعد استنفاد كل وسائل الدعوة معهم لترغيبهم في الإسلام والانضمام إلى موكب الإيمان بالدين الجديد. [في ظلال القرآن، سيد قطب، ١/٦٤].
  • الخطاب القرآني لبني إسرائيل وتذكيرهم بنعم الله، ويدعوهم للهداية والتقى
    يبدأ هذا الدرس بنداء علوي جليل إلى بني إسرائيل، يذكّرهم بنعمته تعالى عليهم، ويدعوهم إلى الوفاء بعهدهم معه ليوفي بعهده معهم، وإلى تقواه وخشيته يمهد بها لدعوتهم إلى الإيمان بما أنزله مصدّقاً لما معهم، ويندد بموقفهم منه وكفر به أول من يكفر، كما يندد بتلبيسهم الحق بالبطل وكتمان الحق؛ ليوهموا على الناس -وعلى المسلمين خاصة- ويشيعوا الفتنة والبلبلة في الصف الإسلامي، والشك والارتياب في نفوس الداخلين في الإسلام الجديد، ويأمرهم أن يدخلوا في الصفِّ، فيقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويركعوا مع الراكعين، مستعينين على قهر نفوسهم وتطويعها للاندماج في الدين الجديد بالصبر والصلاة وينكر عليهم أن يكونوا يدعون المشركين إلى الإيمان وهم في الوقت نفسه يأبون أن يدخلوا في دين الله مسلمين.
    ثم يبدأ في تذكيرهم بنعم الله التي أسبغها عليهم في تاريخهم الطويل مخاطباً الحاضرين منهم كما لو كانوا هم الذين تلقوا هذه النعم على عهد موسى -عليه السلام- وذلك باعتبار أنهم أمة واحدة متضامنة الأجيال، متحدة الجبلة، كما هم في حقيقة الأمر وفق ما بدا من صفاتهم وموقفهم في جميع العصور ويعاود تخويفهم باليوم الذي يُخاف، حيث لا تجزى نفس عن نفس شيئاً، ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها فدية ولا يجدون من ينصرهم ويعصمهم من العذاب. [في ظلال القرآن، سيد قطب، ١/٦٤].
  • انحرافات وكيد اليهود بين دعوة كليم الله موسى ودعوة النبي المصطفى عليهم الصلاة والسلام
    ويستحضر أمام خيالهم مشهد نجاتهم مع فرعون وملئه كأنه حاضر ومشهد النعم الأخرى التي ظلت تتوالى عليهم من تظليل الغمام إلى المن والسلوى إلى تفجير الصخر بالماء ثم يذكرهم بما كان منهم بعد ذلك من انحرافات متوالية ما يكاد يردهم عن واحدة منها حتى يعود إلى أخرى، وما يكاد يعفو عنهم من معصية حتى يقعوا في خطيئة، وما يكادون ينجون من عثرة حتى يقعوا في حفرة.
    ونفوسهم هيَ هيَ في التوائها وعنادها وإصرارها على الالتواء والعناد، كما هيَ هيَ في ضعفها عن حمل التكاليف و… عن الأمانة ونكثها للعهد، ونقضها للعهد والمواثيق مع ربها ومع نبيها، حتى لتبلغ أن تقتل أنبياءها بغير الحق، وتكفر بآيات ربها وتعبد سواه، وتجحَدُ في حق الله، فترفض الإيمان لنبيها حتى ترى الله جهرة، وتخالف عما أوصاها الله به وهي تدخل القرية فتفعل وتقول غير ما أمرت به وتعتدي في السَّبْتِ، وتنسى ميثاق الطور، بل وتجادل في ذبح البقرة التي أمر الله بذبحها لحكمة خاصة وهذا كله يُبطِلُ الادّعاء العريض بأنها وحدها المهتدية وأن الله لا يرضى إلا عنها، وأن جميع الأديان باطلة وجميع الأمم ضالة عداها، مما يبطله القرآن في هذه الجولة، ويقرر أن كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً من جميع الملل، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. [في ظلال القرآن، سيد قطب، 1/65].
  • التكامل والتناسق في القصص القرآني
    نلاحظ من جانب التناسق الفني والنفسي في الأداء القرآني أن بدء هذه الجولة يلتحم بختام قصة آدم، وبالإيحاءات التي أشرنا إليها في كتاب بدي الخلق وقصة آدم عليه السلام- وهذا جانب التكامل في السياق القرآني بين القصص والوسط الذي تعرض فيه، ولقد مضى السياق قبل ذلك بتقرير أن الله خلق ما في الأرض جميعاً للإنسان، ثم بقصة استخلاف آدم في الأرض بعهد الله الصريح الدقيق وتكريمه على الملائكة والوصية والنسيان، والندم والتوبة، والهداية والمغفرة، وتزويده بالتجربة الأولى في الصراع الطويل في الأرض بين قوى الشر والفساد والهدم ممثلة في إبليس، وقوى الخير والصلاح والبناء ممثلة في الإنسان المعتصم بالإيمان.
    مضى السياق بهذا كله في سورة البقرة، ثم أعقبه بهذه الجولة مع بني إسرائيل، فذكر عهد الله معهم ونكثهم له ونعمته عليهم وجحودهم بها، ورتب على هذا حرمانهم من الخلافة وكتب عليهم الذلة وحذر المؤمنين كيدهم كما حذرهم مزالقهم، فكانت هناك صلة ظاهرة بين استخلاف آدم وقصة استخلاف بني إسرائيل واتساق في السياق واضح في الأداء، والقرآن لا يعرض هنا قصة بني إسرائيل، إنما يشير إلى مواقف منها ومشاهد باختصار أو بتطويل مناسب وقد وردت القصة في السورة المكية التي نزلت قبل هذا ولكنها هناك كانت تذكر -مع غيرها- لتثبيت القلة المؤمنة في مكة بعرض تجارب الدعوة وموكب الإيمان الواصل منذ أول الخليقة، وتوجيه الجماعة المسلمة بما يناسب ظروفها في مكة، فأما هنا فالقصد هو ما أسلفنا من كشف حقيقة نوايا اليهود ووسائلهم وتحذير الجماعة المسلمة منها، وتحذيرها كذلك من الوقوع في مثل ما وقعت فيه قبلها يهود.
  • قصة بني إسرائيل في سياق القصص القرآني
    من مراجعة المواضع التي وردت فيها قصة بني إسرائيل هنا وهناك يتبين أنها متفقة مع السياق الذي عرضت فيه متممة لأهدافه وتوجيهاته، وهي هنا متّسقة مع السياق قبلها سياق تكريم الإنسان والعهد إليه والنسيان متضمنة إشارات إلى وحدة الإنسانية ووحدة دين الله المنزل إليها ووحدت رسالاته مع لفتات ولمسات للنفس البشرية ومقوماتها وإلى عواقب الانحراف عن هذه المقومات التي نِيطت بها خلافة الإنسان في الأرض، فمن كفر بها كفر بإنسانيته، وفقد أسباب خلافته، وارتكس في عالم الحيوان.
    وقصة بني إسرائيل هي أكثر القصص وروداً في القرآن الكريم والعناية بعرض مواقفها وعبرتها عناية ظاهرة، توحي بحكمة الله في علاج هذه الأمة المسلمة وتربيتها للخلافة الكبرى، فلننظر بعد هذا الإجمال في استعراض النص القرآني. [في ظلال القرآن، سيد قطب، 1/66].

ملاحظة: استفاد المقال مادته من كتاب: “موسى عليه السلام”، لعلي محمد الصلابي، واعتمد في أكثر معلوماته على كتاب: “في ظلال القرآن”، لسيد قطب.
المراجع:
• التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، وهبة مصطفى الزحيلي، دمشق، دار الفكر المعاصر، ط2، 1418ه/ 1998م.
• موسى عليه السلام عدو المستكبرين وقائد المستضعفين، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2022م.
• في ظلال القرآن، سيد إبراهيم قطب، القاهرة، دار الشروق، ط32، 1423ه/ 2003م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى