مقالات

غرفة التحرير

حسام نجار

كاتب صحفي ومحلل سياسي
عرض مقالات الكاتب

في عالم متناقض التوجهات ومتعدد الوجوه وفي ظل تطور هائل بوسائل التواصل أصبحنا نتلقى الكثير من الأخبار والكم المخيف من المعلومات والتي تندرج كلها تحت مسار المعرفة والتوجيه وتكوين بيئات فكرية معينة، وهنا يقودنا هذا لمعرفة كيفية التلاعب بالمعلومة وتقديمها على أنها هي الوجه الصحيح للمعرفة وكذلك هي الخبر اليقين والأكيد.

من هذا المنطلق يجب البحث عن كيفية صياغة الخبر ومن وراء هذه الصياغة وما الهدف منها؟
فمعظم تلك الأخبار والتحليلات والأفكار يعمل عليها فريق متخصص لديه القدرة على ليّ الخبر وتوجيهه حسب المراد منه ومن الجهة التي تستقبله وما هو المتوقع منها بعد استقبال الخبر؟

بالطبع هذا الموضوع لا يخص المجتمعات العربية فقط بل هو أسلوب مستخدم في كل بقاع الأرض لتكوين وتحشيد الأفراد وراء فكرة ما، وجعلهم يؤمنون بها، بل وحملها على كاهلهم مقاتلين ومدافعين عنها.

وكلنا شاهد ما حصل في الانتخابات الأمريكية الأخيرة من خلال مؤيدي الرئيس (ترمب)، لكن الخطورة لا تكمن في هذا الجزء وإنما في حرف الفكر وتهميش الوعي بزرع السم داخل العسل واللعب على العواطف واستخدام نقاط ضعف الأفراد أياً كانت هذه النقاط.

هذه الأمور التي تتم لها مصنع وهذا المصنع تختلف تسميته بحسب المكان فقد يكون (المطبخ السياسي) وقد يكون (غرفة العمليات) وقد تكون (غرفة التحرير).

في غرفة التحرير تلك وخاصة التي تعمل وفق أجندات وخطط معينة ولها توجهات على عدة أقنية ومستويات، تبدأ القصة والحكاية.

ويتم داخل هذه الغرفة كل عمليات الخداع وتغيير فحوى الخبر أو الموضوع وفيها يتم صياغة الخبر إما تحريفاً أو تثبيتاً أو اقتباساً من خلال جمل وكلمات منتقاة بحرفية يطرب لها السامع ، فيتم وضعه ضمن قالب يخدم هذا التوجه أو ذاك، ويتم صياغته بشكل يجعل المتلقي يقبله صاغراً مؤكداً على أنه وجه الحقيقة ويبرمج عقله وتفكيره من خلال هذه الصياغة، وأكثر ما نراه في المجال الديني والسياسي.

يوجد داخل هذه الغرفة وخاصة في المؤسسات الإعلامية الموجهة اختصاصيون بهذا المجال، درسوا كيفية الصياغة و تغيير الكلمات والتوقف وحتى علامات الترقيم أين توضع، وكيف يستقبل الفرد هذا الخبر ومن هي الشرائح المتأثرة أكثر من غيرها.

وقد تجد نفس الخبر في عدة وسائل إعلامية مصاغ بطرق مختلفة يلبي توجهات كل وسيلة منها.

بالطبع هناك أسلوب أصبح متبعاً لدى العديد من الوسائل أن تعطي الخبر مختصراً ثم تتابعه بشرح وتفصيل أكثر دقة ومن هنا يبدأ التاثير، فذكر بعض الحقائق التي يعرفها الناس ثم ربطها بشكل متسلسل مع توجهات الوسيلة الإعلامية يعطيها مصداقية لدى المتابعين.

تعمد غرفة التحرير تلك وخاصة في الوسائل المرئية والبرامج الحوارية على توجيه المذيع لنقاط وأسئلة محرجة للضيف قد توقعه بالحرج أو اتخاذ موقف ما في الأحوال العادية قد لا يتخذه، أو أنه يخرج عن الموضوع برمته، بالطبع حسب سرعة البديهة للضيف.

غرف التحرير تلك وخاصة في الأنظمة الشمولية تعتبر وكراً للأنظمة القمعية تستخدمها بطرق سمجة كريهة غايتها تغييب الفكر والوعي للمواطنين من جهة وترهيبهم وإخافتهم من جهة أخرى، وكله تحت سطوة المخابرات والأجهزة الأمنية.

لذا نرى العديد من الحكومات لم تكتفِ بوسائلها الرسمية، بل عمدت للسيطرة على الوسائل الأخرى، وصناعة أجهزة تكون بعيدة عنها نظرياً لكنها تتحكم فيها بشكل كامل ، بحيث تضع لها أفراد ليسوا محسوبين عليها ويتركون لهم مجالاً محدوداً للحديث والانتقاد بحيث تظهر تلك الوسيلة على أنها حرة الرأي والقرار.
لكن السؤال المهم جداً.. هل استطاعت تلك الحكومات السيطرة على الأفراد بتفكيرهم ووعيهم وتوجيههم من خلال غرف التحرير لديها أم أن هناك من شب خارج الطوق؟؟

في الحقيقة فكرت كثيراً في هذا السؤال و تلاطمت الأجوبة في عقلي، تارة هذا وأخرى ذاك.
لكن لا يهم ما أجبته أنا عن تساؤلي، أنتم ما رأيكم؟

في حالات قليلة يعرف الجميع أن ما يتم صناعته في غرف التحرير من أخبار مفبركاً لكنهم يأخذون به، ويعتبرونه جزءًا من الحقيقة وليست الحقيقة المطلقة ويبنون توجهاتهم بناءً على هذا الجزء، وكثرة المعلومات تضع الناس في حيرة من أمرهم، فيميلون لتصديق أمور هي أقرب لأمنياتهم رغم كونها غير صادقة، ومن هنا يأتي استغلال تلك الأماني من قبل الغرف تلك.

فكم غيرت تلك الغرف من توجهات، وكم حولت من أنظارٍ، وكم حرّفت من أخبار؟!

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. أوافق الأستاذ حسام نجار – حفظه الله – على أن سؤاله ” هل استطاعت تلك الحكومات السيطرة على الأفراد بتفكيرهم ووعيهم وتوجيههم من خلال غرف التحرير لديها أم أن هناك من شب خارج الطوق؟” هو في غاية الأهمية .
    جوابي المتواضع كرجل كبير في السن هو باختصار أن السيطرة الحكومية على عقول الأشخاص تفكيراً و وعياً و توجيهاً ارتبطت بعامل الزمن و كانت هذه رؤيتي لما حصل بعد منتصف القرن العشرين:
    • في خمسينيات القرن الماضي ، كانت السيطرة قوية مع قدوم الاستعمار الجديد الذي بدأ بالحلول مكان الاستعمار القديم (فرنسا ، بريطانيا) و لعبت وسائل الإعلام – إذاعات ، صحف ، مجلات – دوراً كبيراً في تضليل غالبية الجماهير التي كانت سفرياتها قليلة إلى خارج بلادها و حتى داخل بلادها .
    • في ستينات القرن الماضي ، استمرت السيطرة قوية و لكن مهزلة “حرب” 1967 أصابت كثيراً من الناس بالصدمة و علموا أن الحكومات قد كذبت عليهم و باعتهم الأوهام حين رأوا نتيجة تلك ” الحرب المخزية ” و هي التي تمثلت بضياع الجولان و بسقوط سيناء و باحتلال الضفة الغربية و جوهرتها القدس التي فيها المسجد الأقصى أولى القبلتين و ثالث الحرمين الشريفين .
    • في سبعينات القرن الماضي ، حاولت الحكومات استعادة سيطرتها – التي كانت تتضاءل – على عقول الناس عن طريق حرب تشرين/أكتوبر 1973″التحريكية” لكنها لم تنجح لحصول خيبة أمل بنتيجة تلك الحرب التي انقلبت من نصر أولي إلى هزيمة خاصة من جهة سوريا ثم تلاها عار اتفاق “كامب دافيد ” الذي أخرج مصر من انتماءها و جعلها تنأى عن واجباتها.
    • في ثمانينات القرن الماضي ، أخذت السيطرة الحكومية تتضاءل أكثر بسبب ممارسات الحكومات القمعية و جاءت الحرب الإيرانية العراقية و مجازر “حماة ، حلب ، جسر الشغور” في سوريا و غزو لبنان لتجعل شعوب العرب في حالة شك بالغ فيمن يحكمونها و مدى إخلاص تلك الحكومات للأمة .
    • في تسعينات القرن الماضي ، حصل تطوران اثنان على مستوى العالم امتد أثرهما للوطن العربي : انتشار المحطات الفضائية المتعددة و ابتداء عصر الانترنت . بذلت الحكومات القطرية جهوداً هائلة في محاولة التوجيه التضليلي و شكلَ كل جهاز مخابرات جيشاً الكترونياً فيه العنصر براتب و رتبة و جرى تسليط الأضواء إعلامياً على أشخاص مأجورين ضالين مضلين ليكونوا “قيادات فكرية و سلوكية” .
    • بعد عام 2000 ، كان سقوط بغداد تحت الاحتلال العسكري الأمريكي (( المباشر)) و عيش الجزائر في العشرية السوداء بداية فعلية لخروج الشعوب عن طوق الحكومات و جاء الربيع العربي في 2011 تتويجاً لذلك من خلال الإعلان عن شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” و من خلال 3 مطالب أساسية اتفق جميع الثوار على المناداة بها ” حرية ، كرامة ، عدالة ” .
    صحيح أنه قد حصلت أعمال مضادة ضد ثورات الربيع العربي من خلال جهود دولية و إقليمية ، و صحيح أنه قد أنفقت أموال طائلة لإعادة الشعوب إلى (( حظيرة الطاعة)) ، لكن هذه الجهود و الأموال عبثية لا طائل من تحتها و لن تعكس عقارب الساعة نهائياً حيث لم تتم مواجهة فكر بفكر و لا حصلت مبارزات ثقافية تقنع الناس بالتحول إلى العبودية القديمة للحكومات كما كانت في الخمسينات من القرن الماضي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى